التنويريفكر وفلسفة

التجسيد الملحمي للتمرُّد الميتافيزيقي: الٳلياذة والٲوديسة ٲنموذجا

مقدمة:

بالرغم من التساكن والتعايش اللذين عرفتهما العلاقة بين الأدب والفلسفة ٳلا ٲن هذين الحقلين المعرفيين كانا دائما في حالة صراعٍ، فكل نمط يعتبر نفسه قد قطع شوطا في سبيل تلمس الحقيقة بما لم يفعله النمط الآخر، فعلى مستوى المقاربة الٲنثروبولوجية يسعى الٲدب ٳلى مقاربة وجودية تلامس تجربة النوع البشري في عمقها بينما تميل الفلسفة ٳلى التحليل العقلاني والمنطقي للوجود بشكل لا ينفي التداخل بينهما  الذي يظهر في الجمع بين التعقيد العاطفي الوجداني والتٲمل الفلسفي.

تعتبر الملاحم الإغريقية مجموعة من الأساطير التي تحمل في طياتها رؤية فلسفية للحياة والإنسان والكون ككل، حيث تعبر عن الصراع بين ثنائية الخير والشر، و الصراعات الخالدة بين الإنسان والقدر وتسعى لإيصال رسائل معينة للقارئ.

فتعمل الملاحم الإغريقية على تعميق فهمنا لمفاهيم فلسفية مهمة كالأخلاق، الحياة، الموت، المصير وكذا الحقيقة، وتتضمن مجموعة كبيرة من الحكم الفلسفية، والأخلاقية التي تهدف إلى تعزيزفهمنا للحياة وتجويد نمط عيشنا، فهي كلها قيم ومبادئ تعكس المجتمع الإغريقي القديم. كما تمثل مصدرا للاستلهام الفكري والثقافي لفلاسفة العصور اللاحقة حيث تعتبر مرجعا هاما لفهم واحتواء المفاهيم الفلسفية وتحليلها ومن ثم نقدها.

من هنا سنسعى من خلال هذا البحث المتواضع ٳلى ٳبراز وكشف مدى التوظيف الفلسفي للملاحم الإغريقية من خلال مفهوم التمرد الميتافيزيقي عند ٲلبير كامو في نموذجين من القصائد الهوميرية هما الٳلياذة والأوديسة.

البعد التاريخي لملحمتي الٳلياذة والٲوديسة :

لعل خير منهج قد نعتمده في قراءة وتفحص الإنتاجات الفنية في العصر اليوناني وفي أي عصر آخر. هو ذاك المنهج التاريخي الذي يفسر الظاهرة الفنية بما في ذلك الشعر على ضوء تطور الظاهرة الشعرية في المجتمع اليوناني و ارتباطها بالتطور التاريخي والاجتماعي و السياسي لهذا المجتمع[1].

تمثل كل من الإلياذة والأوديسة أقدم ما وصل إلينا من شواهد الفكر اليوناني ومرحلة الطفولة   الفكرية بامتياز[2]. والبداية الجنينية للفكر الفلسفي كونها تعرض سواء الأوديسة أو الإلياذة أحداثا ووقائع موغلة في القدم[3]، كان لها الأثر البالغ ووقعا كبيرا على البنية الحضارية للمجتمع اليوناني بما تشمله من تنظيمات سياسية واقتصادية، وفن وقانون ولغة.

فضلا عن أنهما تشكلان “الإلياذة” و “الأوديسة“، مرجعا أصيلا ومصدرًا أساسيًا لتاريخ الخيال والأساطير اليونانية، وتمثلان مرآة للفلسفة والشعر والفنون والحضارة اليونانية القديمة، و كانتا ٲيضا وسيلة لتوثيق الأحداث التاريخية. كما يقر معظم المتخصصين الدارسين لهذا المجال وفي الٲدب خاصة بأن تاريخ الفلسفة يبدأ مع الإلياذة والأوديسة وقصائد هوميروس، ٲي مع الأسئلة الأولى في الوجود كسؤال القدر والخلق والمصير ومشكلات الحياة والموت وعلاقة الٳنسان بالعالم[4].

فمن خلال قراءة وتفحص هاتين الملحمتين، يمكن للقارئ أن يدخل مباشرة وللوهلة الأولى إلى عالم تاريخ اليوناني القديم ويتعرف على نزاعاته واستراتيجياته وأفكاره ومناخه الثقافي الذي يؤطره.

فٲحداث هاتين القصيدتين تشيدان بالحقبة التي انصرمت منذ حوالي أربعة قرون والتي استمرت فيها فترة الغزوات والهجرات طيلة هذه المدة حيث استقرت بعدها هذه القبائل في اليونان وتمتعت بسيادة ذاتية، وذلك حين كان الآخيون سادة اليونان وكانت سيطرتهم تمتد إلى ماوراء البحار حتى طروادة.

لذا عُدت هذه الحقبة من التاريخ بالذات لحظة تٲسيسية وتمهيدية للتاريخ اليوناني، وهي المرحلة التي تكونت فيها شخصية الشعب اليوناني[5]. و إحدى أبرز الأعمال الأدبية في الثقافة اليونانية القديمة، حيث ترويان قصة الحرب الطويلة بين الأتراك واليونانيين في الإلياذة، وأحداث رحلة البطل أوديسيوس في الأوديسة.

وتبقى مسألة ما إذا كانت هناك وقائع تاريخية وراء حرب طروادة مسألة مفتوحة. حيث تدور العديد من الروايات حول حرب طروادة ومدى كونها حقيقية. ويعتقد العديد من العلماء من جهة أنه لا بد من وجود أساس تاريخي للقصة، مادفعهم استناداً ٳلى بعض الأبحاث الأركيولوجية الحديثة للبحث بشكل جاد عن الموقع الجغرافي لهذه المدينة التي جرت فيها أحداث الحرب. ويقال بناء على ماتوصلت إليه بعض الدراسات الحفرية أن مدينة طروادة قد وجدت بالفعل وأن موقعها الأثري موجود بتركيا حاليا[6].

وكذلك الشأن بالنسبة لمؤلف ومبدع الملحمتين هوميروس، الذي لا يزال وجوده الفعلي هو اليوم مثار بحث وموضع سؤال. وقد انتهى مجموعة من الدارسين والعديد منهم إلى الشك في وجوده وافتراض أن قصص هوميروس، كانت دمجًا لقصص عديدة حول حضارات وحملات من قبل يونان الموكيانية خلال العصر البرونزي[7].

البعد الثقافي للملحمتين :

كان التراث اليوناني الفلسفي على مر العصور مصدرا من مصادر الثقافة الإنسانية. كما كانت الملاحم التراجيدية وعلى رأسها وفي قمتها القصائد الهوميرية بحكم تطورها عن طقوس عبادة الإله ديونيسوس فناً يستهوي الجمهور الأثيني، وكانت ما تثيره من انفاعالات وعواطف حادة مهربا يلجأ إليه العديد من الناس من ملل الحياة اليومية، فكانت في الواقع عاملا من عوامل تقوية التأثير العاطفي في الجمهور[8].

 لقد تعددت الأساطير وتنوعت مواضيعها ولعل أمتعها وأروعها تلك المتصلة بالحب والثأر والبطولة والتواصل العاطفي العميق بين الرجل والمرٲة كما نجد في الإلياذة ، ولعل الصفة المشتركة بين هذه الأساطير كلها هي الشخصية التي تخلعها على الحيوان و الجماد[9].

 إذ لم يكن الإنسان القديم أو الٳنسان اليوناني على الأقل. حينها يفرق بين الإنسان وسائر الكائنات كما نفعل اليوم،  بل كانت الكائنات في رأيه مخلوقات من جنس واحد سواء، وكل شيء في الوجود له شخصية كشخصية الإنسان.

وهذا دليل التقارب والتشابه الموجود في الأعمال والقصائد الٳغريقية القديمة بين الإنسان والٳله وحتى الحيوان[10]. فالآلهة في قمة الاٴولمب يؤلفون حكومة ملكية على رٲسها تزوس ، وكلهم في صورة بشرية، ٳلا ٲن سائلا عجيبا يسري في عروقهم  فيكفل لهم الخلود.

وقد أدت هذه النظرة بالٳنسان إلى الاعتقاد بوجود آلهة عدة يسكنون ويتجلون في كل ظواهر الكون والوجود، ويعنون بشؤون البشر فيراقبونها و يتدخلون في مجراها بشغف واهتمام، وَكثيرا ما يقف الآلهة موقف العداوة من الناس، لهذا لم يكن بد عند الإنسان القديم من عبادة الآلهة وخشية بطشها، “ومن هنا كانت الأساطير وثيقة الصلة بنشأة الدين. ولما كانت طلائع الأدب تدور في جملتها حول الآلهة وما يعملون، ثم لما كان الدين قد استتبع في تطوره إنشاء المعابد، فقد صار المعبد الديني في كثير من بلاد العالم القديم مٲوى للٲدب“.[11]

لهذا على الأرجح أن يكون تشابه الأساطيرعند مختلف الشعوب راجعا إلى أنها نتيجة تجارب متشابهة وعقليات متقاربة وعواطف متجانسة يحسها الإنسان مادام إنسانا، فهي نتاج العقل والعاطفة الإنسانية في بدايتهما [12].

فضلا عن ٲن الٲدب اليوناني ودرته الإلياذة والأوديسة المنتسبة لهوميررس قد نظرت في جوهرها إلى المرأة نظرة مادية حسية خلت من المعنى الأسمى للأنثى ٲي بعدها الروحي و الوجداني، ما يمكن ٲن نعتبره إلغاء لٳنسانيتها. فأسطورة المتعة في جمالها وجاذبيتها هي وراء الحروب التي امتدت سنوات طويلة كالحرب من أجل هيلين. وهذه النظرة بالذات لا تكاد تنفصل عن البنية الثقافية السائدة في المجتمع اليوناني، وسائر ثقافات الشعوب القديمة.

إذ ٲن الثقافة اليونانية في وروعتها و أصالتها هي حصيلة ثقافة العالم القديم، ونظرتها للمرأة هي ثمرة ونتيجة فكرة الشعوب، إذ لا مكان للمرأة القبيحة شكلا، ليس للمرأة دور أساسي في بناء المجتمع حتى ولو كانت كليوباترا التي لم تملك إلا سلاح الأنوثة لتنتصرعلى قيصر ثم على أنطونيو، إنها حضارة ذكورية، وثقافة رجال ودساتير وقوانين وضعها الرجال[13] .

من هنا استطاع هوميروس الربط في قصيدتيه الإلياذة والأوديسة بين عناصر الحكاية من جهة أي بين الحدث المركزي الذي هو الحرب وبين حياة كل من الإغريق والطرواديين من جهة ثانية[14].

وفي هذا الجانب الذي يضم أحداث ووقائع الحرب وأساليب ممارسة الحياة، يقدم لنا صورا بالغة الخصوبة والحيوية لحضارة بٲكملها. وينقل لنا وعي وثقافة عصر بكامله، فلا يلبث ٲن يرصد لنا أدوات المعيشة وأساليب الاشتباك والتعبيرعن النفس في كل المواقف من الحب إلى النزال إلى النقاش في الاجتماعات العامة، ومن طقوس الزواج إلى طقوس العبادة، وإلى ممارسة الألعاب الرياضية أو إقامة المآۤدب“.[15]

ما يجعلنا نكاد نجزم أن أحداث وتفاصيل القصيدتين لا تكاد تنفصل عن طبيعة البنية الذهنية المهيمنة في المجتمع اليوناني آنذاك. فهما بمثابة تصوير للعالم اليوناني القديم وتمثيل له بشكل يغلب عليه الطابع الٲسطوري سواء في مغامرات الٲبطال أو في تصور أشكالهم وخصالهم.

ويمكن القول بأن القصيدتين الإلياذة والأوديسة تمثلان نظرة اليونان القديمة إلى الحياة والعالم، وتحكيان الحكايات الملحمية للأبطال الذين تبنوا قيم المثابرة والشجاعة والوفاء. وتمثل القصيدتان أيضاً التراث الأدبي والثقافي اليوناني القديم الذي لا يزال يؤثر حتى يومنا هذا. حيث تعكس هاتان الملحمتان القيم والمعتقدات الثقافية للمجتمع اليوناني القديم، وتعبّران عن تقاليده وتاريخه وأساطيره.

تٲصيل تاريخي لمفهوم التمرد الميتافيزيقي:

مما لا ريب فيه أن الأفكار لا يمكن تبنيها واحتواء مضامينها وطلب الدقة فيها من دون فهم السياقات التي انطلقت منها مفردة منفردة، لتتطوّر إلى مفهوم نظري مكتمل ومتماسك المعالم.

ظهر التمرد بشكل عام في سياقات متعددة وضمن شروط اجتماعية وثقافة وسياسية، لا حصر لها وضمن إشكالات معرفية متنوعة، ما جعل دوافع التمرد تتبدل بتبدل العصور والحضارات[16].

لكن من المتفق عليه عموما عند سائر دارسي هذا المفهوم أن مفردة التمرد أوروبية المولد ما معنى هذا؟

تختلف الآراء وتتقابل حول البداية الفعلية لتشكل هذا المفهوم ونعني ببداية تشكله واكتمال ملامحه، تحوله إلى نظام معرفي مكتمل المعالم.

ولكن تتفق معظمها حول إرجاع هذا المفهوم إلى الثورات التي عاشت ٲوروبا الغربية على ٲنقاضها، ونخص بالذكر هنا غزو ٲو احتلال فرنسا. حيث اتسعت دائرة النقاش حول المصير المجهول للٳنسان الٲوروبي عامة، والٳنسان الفرنسي بشكل خاص جراء هزيمة بلده ٲمام ٲلمانيا، وعن حالة القلق الوجودي التي تملكت الٳنسان حينها. وعيشه في حالة اغتراب ذاتي داخل عملية خلاص وهمية بحثا عن صور بديلة لوجوده من ٲجل تحسينه. وما تلى ذلك من حملات وموجات ٳلحادية عارمة دفعت الغالبية ٳلى الجهر بٳلحادها، ما اعتبره البعض احتجاجا ٳنسانيا على القدر الذي خذلهم. حيث استبدلت حينها تلك الصورة النمطية عن الله كقوة عادلة ومنصفة لا تقبل الظلم والٳجحاف، بٳله ظالم وشرير رضي بهزيمة عبده ٲمامه.

فكان التمرد الميتافيزيقي بمثابة حركة فكرية، ثقافية نشٲت وتحركت ضد العقيدة والموروثات الثقافية التقليدية، مع التٲكيد على الفكر الٳنساني الحر والعلمانية والحريات الفردية انسجاما مع روح العصر وطبيعته. ويعتبر لهذه الحركة تٲثيرا كبيرا على الٲدب. والفنون والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع.

 أما كامو[17] الذي يعد من ٲوائل الذين تناولوا المفهوم واستعملوه  ضداً عن ٲونطلوجيا الموت والقدر في كتابه “الٳنسان المتمرد” الذي يحضر في الترجمات العربيةتارة باسم التمرد الماورائي وتارة ٲخرى باسم التمرد الميتافيزيقي نسبة ٳلى الطبعة الٲصلية المنشورة بالفرنسية. فيقول: “لا تكتسب مشكلة التمرد معناها إلا داخل المجتمع الغربي، و حينئذ قد تسول لنا نفسنا أن نؤكد بأن المشكلة متعلقة بنمو الفردانية، لو لم تحذرنا الملاحظات السابقة من الخلوص إلى هذا الاستنتاج”. ويضيف مؤكدا في مقام آخر أن لفظة التمرد الميتافيزيقي بحصر المعنى، لم تظهر في التاريخ الفكري بشكل متماسك إلا في نهاية القرن الثامن عشر، فابتدأت آنذاك الأزمة الحديثة على ضجيج الٲسوار المتهاوية،” ثم يعود متسائلا فهل يعني ذلك أن التمرد الماورائي كان فاقداً للمعنى قبل هذا التاريخ؟[18]

هنا يعود كامو ليجيبنا ٲن الٲساطير الأولية كانت تضم بعضاً من رموز التمرد كبروميثيوس واٴسخيل.

وبالتالي لا يمكننا الجزم في أن الأقدمون جهلوا التمرد الميتافيزيقي، إذ العبقرية اليوناني في نظره وإن كانت تنقل لنا دروساً في التواضع والٳذعان والاستكانة من خلال الٲساطير، فقد عرفت مع ذلك نماذج عن العصيان والتمرد الذي يتجسد في أوسع صوره في شخصية برومثيوس الذي جسد الصورة المؤلمة والنبيلة عن التمرد، وٲبيقورس الذي عرف كٲول ٳنسان متمرد.[19] ،ما يجعل التمرد يتمثل في العديد من اللحظات والمشاهد نذكر من بينها:

*الصراع ضد الموت

*الطموح الأعمى والطمع في مجد وعلو الآلهة 

ذلك أن الأقدمون كما يرى كامو وإن كانوا يؤمنون بالقدر، كانوا يؤمنون بالدرجة الأولى بالطبيعة التي هم جزء منها، فالتمرد على الطبيعة معناه إذن التمرد على الذات، معناه مناطحة الجدران، التمرد المنطقي الوحيد هو إذن الانتحار، ٳن القدر الٳغريقي نفسه هو قوة عمياء يُخضع لها مثلما يخضع للقوى الطبيعية، ومنتهى الجنون بنظر الٳغريقي أن يجلد البحر بمقرعة[20].

فقد تمرد الٳنسان مذ وجد على المواقف القاسية التي تعرض لها، كما تمرد العبد على سيده الذي يضطهده ويسلبه حريته، مطالبا بحقوقه وبالمساواة معه، ثم تمرد على ٲسباب هذه الٲوضاع المؤلمة واللامقبولة ، فتمرد على الغيب  و المصير الظالم الذي كتب له فيه الشقاء والعناء[21].

 يقول كامو: ” التمرد الميتافيزيقي هو الحركة التي بواسطتها يثور إنسان ما ضد وضعه، وضد الخلق كله، إنه ميتافيزيقي ٲو بالٲحرى ماورائي لأنه ينكِر غايات الإنسان والخلق. فٳذا كان العبد يحتج ضد الوضع المخصص له ضمن حالته ، فالمتمرّد الميتافيزيقي يحتج ضد الوضع المخصص له كإنسان[22].

من هنا يختلف العبد المتمرد عن المتمرد الميتافيزيقي عند كامو من حيث ٲن العبد لا يستطيع تحمل المعاناة التي يفرضها عليه سيده لمدة طويلة، لٲنه لابد وٲن يٲتي يوم يطالب فيه بحقوقه[23].

ٲما التمرد الميتافيزيقي فهو فعل يؤسس للكرامة الٳنسانية، لٲن المتمرد الميتافيزيقي هنا يتمرد ضد وضعه كٳنسان له حق اختيار وتقرير مصيره بنفسه لا من خلال سلطة ٲخرى خارجة عنه، لهذا فهو لا يرفض ظلم الٳله وتحكمه به كفرد، ٳنما يرفضه باسم البشرية جمعاء، تلك البشرية التي تشاركه هذا العذاب وهذه التبعية[24]. وهو بهذا يحاول تٲكيد رفضه لكل موجود متعال عن البشر، ليسقط عنه صفة الٲلوهية الٲبدية، فهو يتمرد عليه ليعلي من شٲن الٳنسانية، لا لٳعلاء شٲنه الفردي فحسب.

التجسيد الملحمي للتمرد الميتافيزيقي في الٳلياذة و الٲوديسة:

لقد قامت التراجيديا الٳغريقية من خلال قصيدتي الإلياذة والأوديسة  بتصوير صراع الإنسان ضد الآلهة، الذي يعد ضربا من ضروب التمرد الميتافيزيقي. ولعل منشأ هذا التضارب في فهمنا للمسرح أن الدراما كلون من ألوان الأدب لم يكن لها في محاولة الفكاك من القدر الذي يتحكم في جميع المصائر، وتتحرك كل عناصر القصة تحت إمرته ومشورته.

فيظهر للوهلة الأولى وفي الإلياذة على وجه التخصيص كلاً من الإلهة أثينا والإله زيوس مثلا يتحكمان في الأحداث ويرسلان الكوارث للجانب المهزوم ويدعمان  الجانب الذي يمتلكون مصالح فيه[25].

كما نجد عبارة تتكرر كثيرا في الصفحات الأولى للإلياذة وهي “الآلهة لا تكذب” وتعد هذه العبارة من أكثر المقولات التي لازمت باريس في مختلف معاركه ودفعة قوية لقراراته و اختياراته المصيرية[26].

( كانت سببا في إشعال لهيب الانتقام ما بين الشخصيات وتهور باريس وإقناعه هيلين للهروب معه إلى  طروادة).

فأين يتجلى لنا هذا الصراع بين الإنسان والقدر في صورة التمرد الميتافيزيقي؟

 ما يميز الإلياذة حقا عن نظيرتها الأوديسة هي احتوائها على العديد من التفاصيل، علما ٲن الإلياذة لا تروي وقائع الحرب بٲكملها، وهكذا فإن قصة حصان طروادة الشهيرة لا توجد ٳلا في الأوديسة[27]، لهذا كان هذا الشكل من الصراع أو التمرد يوجد في الإلياذة على نحو أوسع وأشمل من الأوديسة .

يتجلى صراع الإنسان والقدر في الإلياذة في العديد من اللحظات والأحداث والمشاهد الدرامية الحافلة بالصراعات والمعارك، مثل معركة طروادة التي بدأت بسبب قرارات الآلهة وانعكاسها على الإنسان.

 يظهر لنا هذا الشكل من التمرد كذلك في الصراع الذي يعيشه بطل القصة، آخيل، بين رغبته في الانتقام من جهة وبين تفاديه وهروبه من مصائب أسوأ من جهة ثانية. من هنا يمكن القول أن صراع الإنسان والقدر هو موضوع رئيسي للقصيدتين بل ويشكل روح الملحمتين معا.

كما يعد تسليم الإلهة هكيوبا ابنها باريس لٲبيه بريام للتخلص منه بتركه في العراء، فوق جنبات الجبل، ينوشه طير جارح ٲو تفترسه ذئاب البريةشكلا من أشكال الهروب من القدر والرغبة في تغييره وتغيير مصيرهما المستقبلي.

فكل هذه المحاولات تدخل ضمن السخط واللارضى عن القدر المحتوم الذي رسم من قبل الآلهة[28].

كما يدخل قرار منلاوس بدوره لملاحقة هيلين للانتقام منها وباريس باسم الشرف تمرداً أيضا فكلاهما آلهة أو ٲنصاف آلهة. والآلهة رمز للقدر في جميع الأحوال. فهيلين في آخر المطاف سليلة الآلهة، والتمرد عليها ليس سوى تمرداً على الآلهة. لكن الشرف أسمى من كل شيء عندهم. والقدر سيسعى جاهدا لقلب الأحداث لصالح مينلاوس وجيشه[29] .

فهيلين نفسها تتمرد أو قد تمردت، ولكن باسم التقاليد، فالمسألة إذن مسألة تمرد رجعي على التقاليد والأعراف، وضرب في الشرف والعرض التي لطالما سعت الآلهة للحفاظ عليها، فقد كسرت قيدا من القيود[30] .

وفي هروب هيلين مع باريس ٲيضا ومرافقتها له كسر لكلمة القدر (الذي جعلها زوجة لمينلاوس) وتخطٍ للآهة.

وحين أرادت الكهنة ابنة أجاممنونإفيجنيا” قربانا للآلهة ظلت الأم وزوجة أجاممنون كليتمنسترا تقنع آخيل، متوسلة إليه أن يدافع عن إفيجنيا، ويحول بينها وبين الموت[31].

غضب آخيل وتمرده:

نجد العديد من اللحظات التي تعبر هي الٲخرى عن صور التمرد هذه، لكن تبقى “غضبة” آخيل الشهيرة هي الدفعة الدرامية الأساسية للملحمة[32]. ما جعل التمرد الميتافيزيقي في الإلياذة والأوديسة، يبدوعلى نحو أوضح من خلال سلوك بعض الشخصيات الرئيسية، كآخيل، الذي يثور ضد الشخصيات الأخرى ويقوم بأفعال غير متوقعة. نذكر من بينها، هزيمة قوات آخيل في المعركة ضد الأتراك، ورفضه التخلي عن حصانه الذي سرقه من المعسكر العدو ويصر على استخدامه في المعركة اللاحقة.

ومن أحداث القصيدة الشهيرة أيضا حيث يتمثل هذا التمرد، صراع البطل آخيل مع الإلهة آبولون الذي انتهى بمقتل صديق آخيل باتركلس، وسعي آخيل في المقابل للانتقام من زعيم الجيش الطروادي هكتور.

وعصيان أجاممنون لأمر الكاهن آبولون، حين أمره بأن يعيد إليه ابنته، فكان رد فعل هذا الأخير أن صلى إلى آبولون إلهه، فسمع الإله صلاته من الأولمب فدارت دائرة القدر على اليونان، وفشا فيهم الوباء، ورماهم الإله آبولون بسهامه[33].

هنا يجب أن نميز دائما سواء في الإلياذة ٲو في الٲوديسة بين صنفين من الآلهة. آلهة الأولمب الذين هم آلهة بالمطلق وسلطة القدر بيدهم. وآلهة العالم الأرضي الذين يتواصلون ويتصارعون بشكل مباشر مع البشر والذين هم أنصاف آلهة.

وفي رفض آخيل الاستماع لكلام أمه الٳلهة ثيتيس وانتظاره حتى تأخذ بمشورة إله النار وتطلب منه أن يعد لإبنها درعاً جديداً عصياناً ماورائيا [34].

ولا ننسى كذلك محاولة بريام ملك طروادة وهكيوبا زوجته حماية ابنهما هكتور من آخيل، وخوفهما من لقائه معه ما يعبر بشكل أو بآخر عن الرغبة في تغيير مجرى القدر لصالح ابنهما هكتور والهروب منه[35] .

فحين عزم آخيل على الانتقام من هكتور جراء ما قتل صديقه الحميم باتروكلس. كان هكتور في المقابل يأبى ٲن يحتمي بٲسوار المدينة مع سائر الطرواديين الهاربين، ويظل واقفا في مكان كأنما جاءت إليه ٲيدي القدر، وٲما أبوه الكهل بريام يجلس على أسوار المدينة، فيرى آخيل مندفعا إلى ابنه كأنه رسول للقضاء، فيصيح بريام الوالد وهكوبا الوالدة بابنهما هكتور ٲن يتوارى من عدوه داخل الأسوار[36].

علاوة على ذلك عندما انقض آخيل على عدوه بدرعه اللامعة وملاحقته هكتور بعد مطاردة طويلة، واقتراب الموت من هذا الأخير بعد أن رفضت آلهة الأولمب مساعدته للنجاة من آخيل لأنها اعتبرت ذلك خيانة للقدر وتمردا عليه. لسيما وٲن أخاه قد سبق وعصا أمر الإلهتين أثينا وهيرا وتجرأ على اختيار أفروديت بدلهن.

وٲيضا في استمرار آخيل وإصراره على قتل هكتور وفي مقاومة ومصارعة هذا الأخير من جهة لقبضة الموت شكل من أشكال التمرد على القضاء والقدر[37].

أما تمظهرات هذا المفهوم في الأوديسة، فهوعلى نحو أقل وأضيق. فما يظهر فيها على نحو واضح هو تدخلات الآلهة في أحيان كثيرة لإنقاذ أوديسيوس من الأوضاع الحرجة التي عاشها أثناء الحرب لكن أوديسيوس، كان في كل مرة يثور ضد الآلهة التي تحاصره، وتجبره على العودة إلى موطنه بعد سنوات طويلة من الرحلة.

 لذا عد أوديسيوس نموذج للتمرد العقلي والإرادي، حيث يعتمد على الذكاء والمكر لمواجهة الآلهة، مثل مواجهة بوسيدون (إله البحر) أو خداع كاليبسو. فرحلته هي تمثيل رمزي لرحلة الإنسان في الحياة، حيث يسعى لتجاوز العقبات التي تفرضها القوى الكبرى.

في النهاية، يتم السيطرة على التمرد الميتافيزيقي من خلال تقديم سلم الإنتظام والعقاب للشخصيات.

يظهر هذا التمرد إذن على عدة مستوايات وأغلبها وأظهرها مقاومة الشخصيات لأقدارها الحتمية كالموت والهزيمة والأحكام المصيرية. ويكاد أخيل يجسد ذروة هذا التمرد. فرغم معرفته بمصيره المحتوم الذي يقضي بموته المبكر، يختار أن يعيش بطلاً ويتحدى القدر، مُقدمًا نموذجًا لإنسان يخلق معنىً لحياته عبر مفهومي الشجاعة والكرامة.

فالآلهة في “الإلياذة” تتدخل باستمرار في حياة البشر، لكن الشخصيات البشرية تحاول التأكيد على إرادتها حتى في ظل هذه التدخلات.

وعليه نقول ٳن التمرد الميتافيزيقي في ٲعمال هوميروس ليس مجرد تحدٍ للآلهة ، بل هو ٳعادة تعريف للكرامة الٳنسانية. فالٳنسان رغم ضعفه، يثبت قيمته من خلال ٲفعاله ومحاولاته المتكررة، وليس من خلال خضوعه. كما نتبين هذا الٲمر في الكيفية التي يرى بها الٳنسان ذاته ويواجهها وهو يستنطق قيمته ومكانته في الوجود ويحاول الخروج من دائرة العجز والضعف.

ملاحظة:

تشير القصيدتان إلى أن الإنسان يحاول بكل ما ٲوتي من قوة، الدفاع عن نفسه وعن مصالحه، ولكن القدر يضع الحدود ويحدد النهاية، ويشير الشاعر إلى أن الحزن والموت، المأساة والمعاناة فطريان في حياة الإنسان ولا يمكن تجنبهما. في غمرة صراع الأيديولوجيات والعقائد وسطوة الأوهام.

وتنتهي القصيدة بعد سقوط تروجان واستعادة الإغريق لزوجاتهم وأموالهم، وذهاب آخيل إلى بلدته ملتمياً بجثة هكتور. وتبقى القصيدة حتى اليوم مصدراً هاماً للعديد من الروايات التي تتحدث عن البطولة والحروب والصراع بين الإنسان والقدر.

ٳن التمرد الميتافيزيقي في أعمال هوميروس يتجاوز كونه مجرد عنصر سردي؛ فهو فلسفة وجودية تعكس مواجهة صارمة جدية للإنسان مع القدر والآلهة، في إطار سعيه الدؤوب لإثبات وجوده ومعناه. إن “الإلياذة” و“الأوديسة” ليستا مجرد ملاحم شعرية، بل نصوص فلسفية عميقة تُثير تساؤلات جوهرية حول الوجود الإنساني بأبعاده الأكثر عمقًا.

الخاتمة:

ٳن الغضب والحماسة والإيمان من السمات المميزة لكل أبطال الملاحم العظيمة. هذا الشعور العميق بالكرامة والتعطش للانتقام، الذي يتجاوز حدود مشاعر الإنسان العادي، يدفع الأبطال إلى تخطي ذواتهم والارتقاء إلى آفاق المجد أو الانحدار نحو الهلاك. فغضب آخيل، على سبيل المثال، هو شعور بدائي ينشأ من العنف والتمرد، لكنه يحمل في طياته إمكانيات مزدوجة: فهو علامة على كبرياء جريحة وعزلة قاتلة، بقدر ما هو مصدر للشجاعة والبطولة. كما يرتبط هذا الغضب الملحمي ٳلى حد كبير بالقضايا النبيلة وحب الوطن، ويتحول إلى نوع من المغالاة المقدسة الملتبسة، التي يستنكرها الآلهة أحيانًا بقدر ما يباركونها باعتبارها أداة لخلاص البشر. ومع ذلك، يبقى البطل، مثل بقية الشخصيات، غير متحكم في هذه القوة الجارفة؛ إنه هدف لها بقدر ما هو حامل لها، ويتحمل تبعاتها التي تتجاوز إرادته وقدرته على السيطرة.[38]

“إن ما يمنح الإلياذة نكهتها المريرة، هو الحضور الذي لا يقاوم للقدر، الذي يتحكم في الآلهة والبشر، وأحكامه التي تعرف عن طريق التنبؤات، لكن ليس هنالك إرادة إنسانية بمقدورها ٲن تقف في وجهه.”[39]

ولعل هذا ما يجعل القراء المعاصرين في دهشة وحيرة من هذه القوانين السامية العليا التي تتحكم بكل قوامها وبٳرادة مطلقة في مصير البشر، محددة البداية والنهاية. مع ٲن البشر في الملحمتين يتقبلون ٲقدارهم بصدر رحب وعلى نحو تسليمي،  باستثناء الشخصيات التي تم استحضارها.

المراجع والمصادر:


  فلسفة الجمال (اعلامها ومذاهبها) ٲميرة حلمي مطر،١٩٩٨، ص١٩[1]

تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، دار القلم بيروت، ص:٢ [2]

  الموسوعات الحديثة، منشورات عكاظ-ٲوزو،الاداب 3.ص:88   [3]

 قصة الٲدب في العالم الجزء الٲول، زكي نجيب محمود وٲحمد ٲمين، مؤسسة هنداوي للنشر،١٩٤٣،ص:٩٨ [4]

  تاريخ الٲدب اليوناني. د. محمد صقر خفاجة، ص:٩   [5]

  الموسوعات الحديثة، منشورات عكاظ-ٲوزو،الاداب 3.ص:88[6]

 في محبة الشعر، جابر عصفور. ص:125[7]

فلسفة الجمال (اعلامها ومذاهبها) اميرة حلمي مطر،١٩٩٨،ص:١٩ [8]

قصة الٲدب في العالم الجزء الٲول، زكي نجيب محمود وٲحمد ٲمين، مؤسسة هنداوي للنشر،١٩٤٣،ص:٩٨ [9]

.  المرجع نفسه [10]

.  المرجع نفسه [11]

  المرجع نفسه[12]

  المسيح لن يغادرالعالم، د.الٲنبا يوحنا قلته. [13]

  الٳلياذة، هومروس. الملتقى الثقافي، ص:8[14]

  المرجع السابق،ص:9[15]

  الٳنسان المتمرد، ٲلبير كامو. دار الحياة للنشر والتوزيع، ص:15[16]

  كامو فيلسوف فرنسي جزائري الٲصل، عاش مابين 1913-1960، وكانت من ٲشهر وٲهم ٲعماله روايته الفلسفية، الٳنسان المتمرد التي تعد [17] بمثابة رد فعل فلسفي على ما عاشته ٲوروبا الغربية جراء الحرب وما تملك الٳنسان الٲوروبي جراء ذلك من مشاعر العبث والاغتراب، ٳذ يقدم كامو وصفا دقيقا وعميقا في الكتاب للجو الفكري العام السائد في ٲوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، ويرصد لنا التطور التاريخي للتمرد والثورة في المجتمعات على البنيات التقليدية وانماط العيش السائدة خاصة في ٲوروبا.

 الٳنسان المتمرد. ٲلبير كامو. دار الحياة للنشر والتوزيع، ص:23 [18]

 المرجع نفسه، ص:26-24[19]

 المرجع نفسه، ص:24-25[20]

المرجع نفسه، ص:20-21. [21]

 المرجع السابق، ص: 19:[22]

 المرجع نفسه، ص: 21:[23]

 المرجع نفسه، ص: 20[24]

قصة الٲدب في العالم الجزء الٲول، زكي نجيب محمود وٲحمد ٲمين، مؤسسة هنداوي للنشر،١٩٤٣،ص:١٢٠-١٢١  [25]

 الٳلياذة، هوميروس، الملتقى الثقافي، ص 32:[26]

 الموسوعات الحديثة، منشورات عكاظ-ٲوزو،الآداب 3.ص:89  [27]

الٳلياذة،هوميروس، الملتقى الثقافي، ص: 17 [28]

 المرجع السابق، ص:41  [29]

 المرجع نفسه، ص:39[30]

 المرجع نفسه، ص: [31]

 الموسوعات الحديثة، منشورات عكاظ-ٲوزو،الآداب 3.ص:89  [32]

 ٲدب العرب، [33]

قصة الآدب في العالم الجزء الاول، زكي نجيب محمود وٲحمد ٲمين، مؤسسة هنداوي للنشر،١٩٤٣،ص:١١٩ [34]

 المرجع نفسه، ص:١١٩[35]

 المرجع نفسه، ص:١٢٠[36]

 المرجع نفسه، ص:١٢٠[37]

 الموسوعات الحديثة، منشورات عكاظ-ٲوزو،الآداب 3.ص:89 [38]

 المرجع نفسه، ص: 89-90[39]


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد