أدبالتنويري

ثابت الاتباع وأشكال الإبداع في شعر ” أغاني الإمامي “

تقوم نصوص “أغاني الإمامي” الشعرية في بنائها على النمط  التقليدي الصادر عن عمود الشعر من بحور، وقافية، والتي نسج على منوالها الشاعر قصائده في اعتماد البحور المعرفة من طويل، وبسيط، وكامل، ومتقارب … ونظام القافية، فضلا عن عناصر بلاغية من جناس : ” أوطانها انصهرت، أوطان في وطن ” ص 15، و : ” أهدي الحبيب قصيد الحبيب ” ص 25، وطباق في تقابل بين الروح والبدن : ” قلبي تركت هنا، روحا بلا بدن “، والريف مقابل الحضر : ” جبنا مقاتلة بالريف والحضر ” ص 73، وتشبيه مقترن بأداة الكاف في : ” كالعطر ضاع جميل قوله الحسن ” ص 20، و : ” كالتاج أزيد بها فخرا ” ص 140، و(كَمَا ) بدل الكاف في قوله : ” والجسم صار كما كركورة …” ص 101، والاعتماد على إيقاع داخلي، في تكسير لهيمنة القافية التي تختتم بها كل أبيات نصوص المجموعة، تمثل في تجانس الحروف كحرفي الهاء والعين في : ” هذا الهوى عَبِق، لا حب يعدله ” ص 15، وتكرار حرف التاء في : ” سيجارة طفرت، تجبرت وعتت ” ص 95، والعين والنون في قوله : ” ويلاعبني ويداعبني ” ص 137، مما نَوَّع من إيقاع نصوص المجموعة، ومنحها جرْسا داخليا بحمولات موسيقية مميزة . كما حفلت هذه النصوص بميزات مجازية يعدو فيها القلب، وتسبح العين : ” والقلب من عجل، يعدو فيسبقني  والعين سابحة … ” ص 13، ويغدو النور رداءا  ودثارا : ” بالنور دثرني ” ص16، وترتق الأرض وتخاط باجتراح جغرافي شاسع وفضفاض : ” جغرافيا رتقت وخاطت أرضنا ” ص 58. ولم يقتصر الشاعر على الإيقاع التقليدي في بناء قصائده بل متح من لغة تراثية تميزت بالرصانة والجزالة التي أضفت عليها فرادة إبداعية، من خلال استعماله لمفردات من قبيل : ( وسنان، وسن، شأو، دنف، نبراس، غسق، همى، صبّاَ، قنا، الطود، صلد ) مستقاة ومنتقاة من الموروث اللغوي القديم بحس ينم عن إلمام، و تبحر في ثنايا هذا الموروث قراءة وتمثلا .  و يتجلى ذلك أيضا في  إنهاء صدر البيت الشعري وعجزه بنفس القافية كما في نص ” رائد إلى العلا “، ويتكرر ذلك في الأربع أبيات الأولى في قافية ( الألف واللام )، وهو ما يؤكد مدى قدرة الشاعر على الابتكار داخل نسق شعري عريق بمقومات وعناصر عموده المعروف بثوابته الإيقاعية والبلاغية، فضلا عن تناغم الحروف في نص ” سميرة قلبي مسيرة عمري “، وما عرفه من تغيير لترتيب حرف الميم الذي وقع ثانيا في ( سميرة )، وأولا في ( مسيرة )، وما تضمنه ذلك من جرْس  إيقاعي، ودلالة بلاغية ( جناس ) تفتح آفاقا عدة للقراءة والتأويل .

وإذا كان الشاعر قد بصم على إضافات نوعية على مستوى بناء النص، في شكله العمودي، فإنه أيضا نَوَّع على صعيد الموضوعات، والتي هيمن عليها موضوع المدح، والإشادة بالرسول المصطفى (ص)، والذي أفرد له نصا خاصا بدلك ” محمد صلى الله عليه وسلم ” ص 23، فإنه انفتح على العديد من الموضوعات ؛ منها ماهو قومي  ( العرب، وفلسطين )، وما هو كوني، كالتدخل الروسي في أوكرانيا، وما هو وطني، في شقه المأساوي ( زلزال الحوز) في قصيدة ” بالحوز زلزلة ” توازيا مع زلزال تركيا في نص ” زلزلة أم قيامة “، تماشيا مع نسق الانفتاح الذي رسمه الشاعر في فصول متنه الشعري، وشقه البطولي كما في قصيدة ” أسود الأطلس “، مشيدا بما حققه منتخب كرة القدم المغربي من إنجاز، غير مسبوق، بمونديال قطر 2022  حيث بلغ المربع الذهبي كأول فريق عربي وإفريقي يبلغ هذا الدور، وفي نفس السياق البطولي إشادته بمنجزات الملك مولاي إسماعيل في نص ” مكناس وا أسفي ” ، حيث يقول : ” أكرم بمولاي إسماعيل من ملك ” ص 115، ومعركة الماء التي خاضتها ساكنة مكناس، ببسالة شجاعة، ضد الاستعمار الفرنسي سنة 1937  لمنع تحويل ماء بوفكران لمصلحته، وحرمان أهلها من ذلك : ” والماء معركة، بالعز سطرها    مقاوم أسد، مكناسي حَرِب ” ص 115، وفي الجانب التاريخي تم ذكر وعد ” بلفور ” الذي أصدرته الحكومة البريطانية لدعم تأسيس وطن يهودي في فلسطين : ” لبلفور الذي أهدى شتاتا    فلسطين التي لن تستكينا ” ص 63، والتي، أي فلسطين، ظلت صامدة تقاوم المحتل الإسرائيلي المدعوم  من قوى الغرب : ” والغرب ينصرها في غيها أسفا ” ص 71، بينما غاب هذا الدعم عن فلسطين من طرف العرب  والمسلمين : ” بمفردها تقاوم دون غوث ” ص 64، الذين تخلوا عن نصرتها رغم حجم عددهم : ” أسفي على مليار وهم شجاعة ” ص 87، لتعاني غزة تحت نير حصار عدواني غاشم : ” هم حاصروا شعبا بغزة هاشم ” ص 85، من ويلات الجوع والعطش : “جوع بغزة هاشم، ما أوجعه ” ص 85، و : ” الماء غار فكلهم عطشى … ” ص 86.

وعلى المستوى التاريخي تحضر مدينة مكناس داخل متن المجموعة الشعرية بتاريخها العريق بدءا من الرومان : ” رومان قد سبقوا ” ص 114، فالأدارسة : ” واللاحقون بهم كانوا أدارسة ” ص  114، ثم المرابطون : ” مرابطون بهم مكناس كم شمخت ” ص 114، والموحدون : ” موحدون لهم آثار شاهدة ” ص 114، والمرينيون : ” بنو مرين بعلم نافع  رفعوا   شأوا علا  بصروح هم لها لقب ” ص 114، وصولا إلى المولى إسماعيل، وما ما عاشته معه المدينة من تقدم، ورقي، وازدهار : ” أكرم بمولاي إسماعيل من ملك آثاره    انبهرت من حسنها نخب ” ص 115، فيخلص إلى مقارنة بين ماضي المدينة، العتيد المشرق، وحاضرها المتردي البئيس، حيث انحدرت من عاصمة ذات إشعاع  تاريخي وحضاري وثقافي إلى حاضرة ترسف في أغلال التراجع والتبعية : ” قد كنت عاصمة والآن تابعة  ” 116، تثير الحسرة والأسى في نفوس أعلام ربطتها بهم أواصر عشق ووجد راسخ ومتجذر من أمثال المجذوب الذي احتضنته رحابها لحقبة زاخرة بحمولاتها الفكرية والروحية والوجدانية : ” لما استفقت أتى المجذوب يسالني    دارا له اغتصبت، والدمع منسكب ” ص 116، وضع لا يحجب بزوغ أمل استعادة مجد المدينة الغابر، وعزها الفائت : ” مكناس عودي إلى عز جبلت به   هبي منافحة، تجلى لك الحجب ” ص  116، والتغني بأعلام ورموز مكناس، المحدثين، أيضا على المستوى الإبداعي، مثل  الشاعر محمد شنوف الذي أفرد له نصا خاصا ” شنوف ” ص118، أبرز فيه الكثير من ميزاته الإبداعية التي أكسبته شهرة واسعة : ” نجم وأشهر من نار على علم    عشاقه كثر، جم له عدد ” ص 119، كما تم ربط اسمه ببعض مآثر المدينة العمرانية والتاريخية ك ” باب منصور ” : ” باب منصور صوت حالم غرد ” ص 118.

وقد هيمن الجانب الغنائي على نصوص المجموعة كتجلي لثابت التقليد، في عمقه وأصالته، انطلاقا من عتبة العنوان : ” أغاني الإمامي “، إلى تخصيص نصوص للغناء ؛ هي : رحمة للعامين، وقرآن كريم، ورمضان أتى، وخريف العمر، وهنا فلسطين، وإلى أمي، وأبتي، ومغربي، وشباب المغرب، ورائد إلى العلا، وهنيئا لنا بالرشاد . عطفا على ما هو أسري في رثاء أخ الشاعر يوسف ” أخي يوسف ” ص 103، ورثاء الأم، والأب في نص ” أمي وأبي وأخي ” ص 106، و ” إلى أمي ” ص 133، و” أبتي ” ص 136، وذكرى قرانه بزوجته في ” سميرة قلبي مسيرة عمري ” ص 109، والتي ذكر فيها كريمته قمر، ونجله حسام : ” ثلاثون عاما أضاءت ب ” قمر ”    وزادت بهاء بنور “حسام” ” ص110، فهذه الغنائية برزت، في تجلياتها الذاتية، كذلك في قصائد، مثل “مدرستي ” ص 140، والتي يسترجع فيها الشاعر بعض نوستالجيا طفولة ظلت محفورة في ألياف ذاكراته، وأعماق وجدانه، ونص ” لغتي ” ص 142، كرافد وثابت لعلاقته بهويته التي تشكل جزءا من كينونته بمختلف توجهاتها، وتطلعاتها في تساوق مع الإنجاز الرياضي،غير المسبوق، لمنتخب بلده ( المغرب ) ببلوغه نصف نهائي كأس العالم قطر2022  في قصيدة ” أسود الأطلسي ” ص 153، وفي تنويع لموضوعات الديوان كموضوع التدخين، وما يشكله من أخطار صحية على المدخن في نص ” سيجارة ” ص94، وموضوع غلاء أسعار المعيشية حيث يقول : ” وفيروس الغلاء الآن أطغى   وسعري الآن قد أضحى سعيرا ” ص  98، لدى فئة المحتاجين المعوزين : ” فقلت لها : أنا المغلوب أمري وبيتي قد خلا خبزا فطيرا ” ص 98.

ورغم نهج الاتباع الذي سلكه الشاعر في اعتماد عمود الشعر العربي القديم على مستوى الوزن الذي لم يخرج عن نطاق البحور الشعرية الخليلية، والعناصر البلاغية من طباق، وجناس، وتشبيه فإنه توسل بنزعة رومانسية أضفت على قصائده سعة،وعمقا، وتنويعا فغدت أكثر انفتاحا وغنى من حيث المعجم اللغوي الذي زخر بكلمات، مثل : نسمات، العبق، أريج : ” نسمات فاح بها العبق   وأريج زاد به الألق “ص 35، هذا المنحى الرومانسي الذي تجسد في فصل الربيع، حيث تغدو الطبيعة أكثر نضارة، ونقاءا، وبهاءا  : ” عاد الربيع وعاد الطير مبتهجا   والماء يشدو خريرا هادئ النغم ” ص  47، برسم لوحة طبيعية تنضح روعة وجمالا . وفي عقد حوار بين عناصر الكون من قمر وأرض  حيث تساءل  القمر : ” … ما الذي يجري بأرض    قديما ظنها حضنا أمينا ” ص63، فتجيبه الأرض : ” أجابت أرضنا القمر المنادي بصوت قد حوى حزنا دفينا ” ص 63،  وهو ما يجسد انفتاحا على مكونات الكون بفتح جسر لتحاور، ووصف لا يخلو من مسحة جمالية ودلالية  : ” وأنها تغذيها عيون   لها دمع يسيل بها حزينا   … بها نهر بحمرته يخضبها    يشع بلونه القاني معينا ” ص 62،مما يكسر إلزامية اتباع النسق الشعري القديم، والتقوقع داخل إهابه بانفتاح، مغاير، على 

أنماط ذات طابع رومانسي، وخلق حوار، غير مألوف، بين عناصر كونية كالأرض والقمر بحمولات وخلفيات وجودية أنطولوجية  إغناء للمدونة الشعرية، وتنويعا لطرائقها التعبيرية والدلالية التي انزاحت عن هيمنة الذاتي الغنائي من خلال تشييد أفق إبداعي شكل انتقالا سلسا من نسق تعبيري موروث تحكمه تقاليد فنية وجمالية محددة إلى نسق آخر أكثر حداثة دون خلق  أي فجوات، أو شروخ، أو نتوءات .

فمجموعة ” اغاني الإمامي ” الشعرية زاوجت بين التقليدي الغارف من حياض  عمود الشعري بثوابته ومكوناته وأغراضه من إيقاع، وبلاغة، والحداثي بما رسمه من آفاق مختلفة عبر موضوعات، وطرائق مغايرة  ومختلفة دون الإخلال  بمنظومة شعرية متجانسة الأطراف والعناصر . متعددة الوسائل والمسلكيات . 

عبد النبي بزاز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 أغاني الإمامي ( نصوص شعرية ) لمحمد الإمامي . ــ مطبعة ووراقة بلال ـ فاس 2024 .


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

عبد النبي بزاز

كاتب مغربي مقيم بمدينة مكناس . صدرت له 6 روايات ، و5 مجموعات قصصية ، وكتاب نقدي . حصل على جائزة النشرة للقصة سنة 98، وجائزة عبور للنقد سنة 2023، أدرج اسمه ضمن أنطولوجيا القصاصين المغاربة لحقبة الثمانينيات والتسعينيات التي أعدها القاص المغربي أنيس الرافعي . استضافته إذاعة مكناس الجهوية ، وإذاعة ميدينا ف م بمكناس ، وإذاعة فاس ، وإذاعة طنجة في برامج ثقافية وأدبية . كما مر بالقناة التلفزيونية الثانية في الفقرة الثقافية ضمن الأخبار المسائية في أكتوبر سنة 2020 . ينشر قصصه وقراءاته النقدية بمنابر ورقية وإلكترونية مغربية وعربية.

مقالات ذات صلة

اترك رد