صراع الأجيال بين الآباء والأبناء في كتاب “ثناء على الجيل الجديد”
حسين كاظم[1]
من بين جميع المفكرين العرب المعاصرين، يتميز المفكر العراقي الدكتور عبدالجبار الرفاعي لا بتجربته الدينية والفكرية وحضوره في الساحة الثقافية حسب، بل ويتميز أيضًا بإنتاجه الغزير، وشخصيته الأخاذة التي تبرز في كتبه بروزًا واضحًا، فتأسر قراءه وتجعلهم يزجون بأنفسهم في عوالمه حتى النهاية.
ومن بين جميع كتبه، لفت نظري عنوان في معرض الكويت الدولي للكتاب، عام 2024: “ثناء على الجيل الجديد“!
أذلك حقيقي؟ هل ثمة أحد من “جيل الآباء” يكتب كتابًا بهذا العنوان الصريح؟ “ثناء على الجيل الجديد”؟ حقًّا؟
ومنذ بداية الكتاب، نجد الرفاعي يتحدث عن تمرده على جيله وخروجه عن سربه تجاه موقفه من “الجيل الجديد”، إذ بينما يذم غالبية الكبار هذا الجيل، يُقرّ الرفاعي بأنه يرى نفسه أقرب إلى “الجيل الجديد” من جيله هو. بل وهو ينتقد جيله قائلا بأن “تشبث الآباء وقبضتهم الحديدية على مواقع قيادة الدول المختلفة وتأسيس الحكومات، وإجهاضهم لأية محاولة تسعى لتمكين الجيل الجديد من قيادة المؤسسات والمنظمات والأحزاب” هي إحدى أعمق عوامل مأزق السياسة والثقافة والتربية والتعليم في مجتمعاتنا.
وبالفعل، فإنا نرى الازدراء العميق الذي يحمله غالبية جيل الكبار تجاه الجيل الجديد، حتى في الوسط الثقافي؛ حيث لا يقدّر أغلب المثقفين الكبار إلا أقرانهم، ولا يعترفون إلا بمن هم في مثل أعمارهم غالبًا، بينما يتنكرون للمثقفين والكتّاب من جيل الطليعة، ولا يتعاملون معهم إلا باستعلاء، ولا ينظرون إليهم على أنهم أنداد ونظراء، بل على أنهم طفيليون صغار ليسوا بكفاءة أن يكونوا أندادا لهم. وهذا أحد أسباب الفجوة الكبيرة التي تنشأ بين الجيلين، وإلى ابتعاد أحدهما عن الآخر أكثر فأكثر، حتى يصبح التعاطي والتفاهم بينهما مستحيلًا، أو شبه مستحيل! وهذا بحد ذاته كفيلٌ بأن يتسبب في عدم تقدير الطليعة للكبار، كما أن هؤلاء الأخيرين لا يقدّرون الطليعة!
يؤكد الدكتور الرفاعي على اشتداد حاجة جيل الآباء للتقدير والاحترام مع تقدمهم في العمر، وعلى ضرورة أن يلبي الجيل الجديد احتياجهم هذا. ولكنّنا نجده، في السياق نفسه تقريبًا، وكأنه “يهجو” جيل الآباء!
فهو يورد مثلًا كيف أن هذا الجيل يتهم الجيل الجديد بأنه “لا يعرف ما يريد”، ويُبرز ذاته على أنه “جيل يعرف ما يريد”، ومن ثمّ يقلب الطاولة كلّيًّا عليه، ويرى بأنه “يُخطئ مرتين”: الأولى هي عندما يتهم الجيل الجديد بأنه لا يعرف ما يريد، والثانية هي عندما يدعي بأنه جيل يعرف ما يريد.
ولتوضيح ذلك، فإنه يقول أن عقل الشباب اليوم أنضج، وفهمهم للحياة أعمق، وعالمهم أكثر تركيبًا وتعقيدًا، في مقابل العالم البسيط الذي عاشه الآباء. هذا فيما يخصّ الخطأ الأول. أما فيما يخص الخطأ الثاني، فهو يقول: “كيف يعرف ذلك الجيل ]أي جيل الآباء[ ما يريد، وهو لم يكتشف حتى ذاته الفردية؟! فقد أنسته الأساطيرُ المؤسسة لمتخيله الثوري ذاتَه. كان جيل الآباء مولعًا بيوتوبيات الخلاص للكل، والحرية للكل، وانصهار الكل في واحد. كان يحسب أن تغيير العالم تنجزه مجموعة شعارات وأناشيد تعبوية تنشد تجييش الجماهير وخروجها إلى الشارع تهتف بـ«الروح بالدم نفديك يا…». هذه النزعة قادت ذلك الجيل لأن تسعبده أصنام مختلفة؛ كل منها يظهر على المسرح الاجتماعي بقناعه الخاص، فتارة يصير رجل صنما، وأخرى تصير أيديولوجيا صنما، وثالثة تصير هوية طائفية صنما، ورابعة يصير كتاب صنما: كل صنم منها يستعبد من على شاكلته (..). الكثير من الآباء مولع بعبادة الأصنام البشرية، إن لم يجد صنما في الماضي يخضع له ويستعبده، ينحت من أحد رجال السياسة أو الدين أو الفكر أو الأدب صنما. الكثير من الأبناء مولع بتحطيم الأصنام البشرية، لذلك يصعب ترويضهم على العبودية”.
بهذه الطريقة، يقلب الدكتور الرفاعي الطاولة على جيل الآباء: ليس الجيل الجديد هو الذي لا يعرف ما يريد، بل أنتم الذين لا تعرفون ماذا تريدون، من بعد أن تخطفتكم الأيديولوجيات واستعبدتكم الأصنام التي يأبى الجيل الجديد الركوع إليها!
ومن ثم نجده ينصب مفارقة بين ولع جيل الآباء بالحزن والبحث عن كل ما ترتسم فيه ملامح الموت، في مقابل حب الجيل الجديد للحياة وإقباله عليها. ومن أجمل المفارقات التي يبرزها الرفاعي، في سياق آخر، هي المفارقة التي تنطوي على مستوى خطر الغضب الذي كان يستعر في جيل الآباء، في مقابل مستوى خطر الغضب المضطرم في جيل الأبناء، قائلًا بأن غضب الآباء كان أخطر بكثير، لسبب بسيط هو أنه كان غضبًا مكبوتًا مقموعًا، في مقابل غضب الأبناء المُعبّر عنه بشتى الوسائل، والتي ليست أقلها: وسائل التواصل الاجتماعي!
لا ريب في أنه ثمة فجوة بين الجيلين. ولكن السؤال: ما أهمية الوعي بهذه الفجوة هاهنا؟ ولماذا علينا أن نتوقف عندها؟
والجواب: يكاد التفاهم بين الجيلين أن ينعدم بفعل هذه الفجوة. ومن هذا المنطلق تبرز أهمية دراستها: كي يفهم كل جيلٍ الجيلَ الآخر، وليفتح قنوات التفاهم والاحترام بينهما، الأمر الذي من شأنه أن يجعل حياة كلّ منهما أكثر سلامًا وصحةً نفسيةً، وأعظم عطاءً وإثمارًا.
على جيل الآباء أن يقدّر الجيل الجديد ويعترف بفضائله ويحترم استقلاله وعقله، تمامًا كما على الجيل الجديد أن يحترم جيل الآباء ويقدّر تجربته ويفهمها. وهذا هو السبيل الأوحد من أجل تقدم حقيقيٍّ في العلاقة بين الجيلين.
حسين كاظم
5 ديسمبر 2024
[1] روائي من البحرين.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.