كتاب الطبّ الروحاني ورسائل فلسفيَّة للرازي
صدر عن الدار العربيَّة للكتاب، كتاب الطب الروحاني ورسائل فلسفية لفيلسوف الإسلام أبو بكر الرازي من تقديم ودراسة وتعليق الدكتور خالد عزب.
في هذا الكتاب إعادة إحياء لفلسفة الرازي الذي شغل العالم بفلسفته وآرائه حتى صار منذ القرن 4 الهجري/ 10 الميلادي مثار جدل بين فلاسفة الإسلام، وكانت المناظرات معه والردود عليه من الكثرة، بحيث نستطيع أن نقول إنه الفيلسوف الأول المثير للجدل بآرائه وتحليلاته، كان مجددا نعم .. لكنَّنا لا نتَّفق مع كل ما ذهب إليه، ولا نوافق على كل الآراء النقدية له، إذا لماذا الرازي الآن؟
إن النضوج الفكري الذي صاحب القرن 4 الهجري / 10 الميلادي الذي جعل الرازي جريئا في طرحه استوجب الوقوف في وجه ما طرحه ودحض ما ذهب إليه، دون أن ينادي أحد بمحاكمته على الرأي أو الفكر، بل كان أن افتخر به المسلمين خاصة مع ما أنجزه في الطب والكيمياء، حتى صار العلميين مرآة لآرائه الفلسفية، هذا ما يقتضي أن نبدأ برؤية الرازي لمن هو الفيلسوف؟
يرى الرازي، أنَّ الفيلسوف الحق هو من عرف شروط البرهان وقوانينه، واستدرك وبلغ من العلم الإلهي والرياضي والطبيعي أقصى ما في وسعه، والفلسفة طريق الخلاص من عالم الكون والفساد، إلى عالم الراحة والنعيم، وقد هلك العوام لعدم إدراكهم هذا العلاج، غير أن الفلسفة ليست وقفا على الفلاسفة، بل هي نظر واجتهاد، وإن قوة الإرادة ضد الهوى، فضيلة يشرف بها الإنسان ولن يبلغ أقصاها إلا الفيلسوف الفاضل الحق.
هذا يقتضي منا أن نعرف هذا الفيلسوف والعالم :
أبو بكر محمد بن زكريا الرازي فيلسوف، ذاع صيته كطبيب وكيميائي، فكان أشهر طبيب مسلم في أوربا حتى نهاية القرن 17 م، ولد في الري عام 251 هجرية/ 865 ميلادية، درس بها الرياضيات والفلك والمنطق والأدب والكيمياء، ثم تفرغ لدراسة الطب والفلسفة، تولى إدارة مارستان ( مستشفى ) الري، عاش في بغداد 30 عاما، شارك في تأسيس المارستان العضدي، من أشهر مؤلفاته ( الشكوك علي جالينوس)، أثارت رؤاه الفلسفية جدلا، لكنه قدم رؤية خاصة حول مفهوم اللذة، أعطانا ابن أصيبعة في كتاب ( عيون الأنباء في طبقات الأطباء) 232 كتابا ورسالة من مؤلفاته التي غلب عليها الطب، وأشهر مؤلفاته الطبية كتاب الحاوي وهو موسوعة طبية من عشرين مجلدًا، ضم الكتاب: أمراض الرأس، والعين، والأسنان، والأوزان والمكاييل، وقوانين الأشربة والأطعمة، والنوم واليقظة، والأمراض المعدية، والأمراض الجلدية… الخ، ترجمت هذه الموسوعة إلى اللاتينية، ويذكر ماكس مايرهوف أن أول من قام بترجمة هذا الكتاب طبيب يهودي من صقلية هو ( فرج بن سالم ) ويعرف في أوربا باسم فرجوت، فرغ من ترجمته عام 1279 م، ونشرت هذه الترجمة كذلك في برشيا عام 1486 م، ونشرت له ترجمة أخرى في البندقية عام 1542 م، وتعددت طبعات البندقية له، وكان مرجعا للدراسة في جامعة باريس حتى سنة 1395 م، وله كتاب في الجدري والحصبة ترجم إلى اللاتينية أيضا، وطبع أربعين طبعة فيما بين 1498 و1866 لأهميته للأطباء في أوربا كمرجع.
ذكر الذهبي والنديم أن الرازي تتلمذ في الفلسفة على يد رجل يلقب بالبلخي، كان البلخي هذا من أهل بلخ يطوف البلاد، ويجول الأرض، حسن المعرفة بالفلسفة والعلوم القديمة، أصيب الرازي بالعمى نتيجة للتجارب الكيميائية التي كان يجريها والتي تسببت أبخرتها في كف بصره، يقال إنه توفي عام 310 أو 313 هجرية .
إننا إذا أمام عالم فذ استطاع أن يقدم الكثير لكننا ننطلق إلى آفاقه من رؤيته للعقل الذي أعطاه قيمة عليا في فلسفته ففي كتابة الطب الروحاني يقول: ( اعتبر العقل أعظم نعم الله، وأرفعها قدرا، إذ به يدرك الإنسان ما حوله، وبالعقل استطاع الإنسان أن يسخر الطبيعة لمنفعته، وبه يتميز الإنسان عن سائر الحيوانات … )
إن هذا يدفعنا للتساؤل عن منهج الرازي العلمي الذي هو مفتاحنا لفهمه وآلية للتعامل مع منتجه العلمي، إن منهج الرازي يرتكز على ما يلي :
الشك: منهج الشك عند الرازي يقوم على الشك المنهجي المؤقت وليس الدائم، لذا فعنده ينبغي الحذر عند الأخذ عن السابقين فهو بذلك سبق الغزالي وديكارت في طرح منهج الشك، إذ يقول: ( إن صناعة الطب والفلسفة لا تحتمل التسليم للرؤساء والقبول منهم ولا مساهلتهم وترك الاستقصاء عليهم، ولا الفيلسوف يجب ذلك من تلاميذه والمتعلمين منه ….. وأما من لامني وجهلني في استخراج هذه الشكوك والكلام فيها فإني لا أرتفع ولا أعده فيلسوفا إذ كان قد نبذ سنة الفلاسفة وراء ظهره وتمسك بسنة الرعاع من تقليد الرؤساء وترك الاعتراض عليهم) ويقول أيضا: ( إن شك شاك في هذه الشريعة ولم يعرفها ولم يتقين صحتها فليس له إلا البحث والنظر جهده وطاقته، فإن أفرغ وسعه وجهده غير مقصر ولا وان فإنه لا يكاد يعدم الصواب فإن عدمه – ولا يكاد يكون كذلك – فالله تعالي أولى بالصفح والغفران إذا كان غير مطالب بما ليس في الوسع، بل تكليفه وتحميله عز وجل لعباده دون ذلك كثيرا )، فهو يدرك أن على الإنسان السعي للوصول للحقيقة، وللإنسان طاقة قدرها الله فعليه أيضا ألا يحمل نفسه فوق طاقته، وهذا إدراك منه لتفاوت البشر في القدرة على التحصيل والمعرفة .
التجريب: استخدم الرازي التجريب في منهجه خاصة في التعاطي مع الطب، وفي كثير من مناحي البحث، لذا فهو يبحث عن عدة أسباب للعلة، مما يجعله متأنيا في إصدار الحكم، هذا ما يؤكد أن الفلسفة انعكست على عمله في الطب، وهنا نراه يحذر وينبه إلى عدم التسرع في إصدار الأحكام أثناء القيام بالتشخيص إذ يقول: ( فإذا وقعت علي السبب فلا تغير التدبير إن لم تره ينجح وذلك أنه ربما كانت العلة قوية فلا يؤثر فيه أثرا إلا بعد مدة لأنه يحتاج لعلاج قوي ليبين الأثر ) ونرى ابن أبي أصيبعة يذكر على لسان الرازي قوله: ( ينبغي للطبيب مساءلة المريض عن كل ما يمكن أن تتولد عنه علته من داخل أو خارج ثم يقضي بالأقوى ) .
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.