الفلسفة بوصفها طريقة حياة وفقًا لبيير هادو
ثمة من يعتقد في محيطنا ومجتمعنا العربي الإسلامي بأن الفلسفة مجرد آراء لغو وكلام فارغ وخطاب نظري عديم الجدوى. فهل هذا صحيح؟ أليست الفلسفة تحتوي على جانب من المعقولية والاحتكام إلى الموضوعية، مستندة إلى منطق يدعمها؟ أليست الفلسفة شكلاً من أشكال التفاعل مع الوجود، الحياة والفكر؟ عندما يواجه الإنسان أزمات حقيقية تهدده بالخطر، من الذي يتساءل؟ إن الفيلسوف يدفعنا إلى التفكير في الكثير من المعاني التي قد نغفلها في عالمنا المعاصر. أليس من حقنا القول إن الإنسان المعاصر قد فقد صلته بذاته وبفكرة “هيراقليطية الحياة”؟ إذا لم تكن غاية الفلسفة هي فن العيش فما غايتها إذًا؟
لننظر في فلسفة القدماء، حيث لم تكن الفلسفة منعزلة عن حياتهم العملية. أليس من حقنا أن نقول إن الفلسفة كانت لديهم ممارسة علاجية؟ أليس من حقنا القول إننا نسينا ذواتنا ونسينا العيش في اللحظة الآنية بأسلوب فلسفي؟ هل غفلت مدارسنا وجامعاتنا عن التركيز على التكوين، بدلاً من التلقين، فيما يتعلق بهذه المادة؟
لقد كان الفيلسوف في العصر القديم يعد نفسه فيلسوفًا ليس لأنه يشيد خطابًا فلسفيًا، بل لأنه يعيش بطريقة فلسفية، وكان يُطلق لقب الفيلسوف على من يعيش حياة فلسفية حتى وإن لم يكن دارسًا أو أستاذًا. هكذا ركز الفيلسوف الفرنسي المعاصر بيير هادو على أن الفلسفة ليست مجرد نظرية أو أفكار مجردة، بل هي “طريقة حياة”، أو لنقل إنها ممارسة يومية تتعلق بكيفية عيش الإنسان وتحقيق ذاته. بالنسبة إليه، لم تكن مهمة الفيلسوف الأساسية هي تقديم معرفة موسوعية في شكل نسق من القضايا والمفاهيم التي تعكس على نحو تقريبي نسق العالم، بل كانت تهدف إلى تحويل شخصية الإنسان وتعليمه فن العيش والحياة الفلسفية.
ركزت دراستي عن بيير هادو على إشكالية تحويل الفلسفة من مجال نظري إلى مجال عملي، وكيفية تأثيرها على التفكير والسلوك لتوجيهنا نحو الرجوع الى الذات والتحرر من ما ألفناه في الحياة المعاصرة؛ من سرعة ونسيان الفكر والوجود.
كيف يمكن فهم الفلسفة بوصفها طريقة للعيش من خلال فلسفة بيير هادو؟
المفهوم القديم للفلسفة: قراءة بيير هادو لمحاورة “المأدبة”
تبدأ المحاورة بقصة رجل يدعى أبولودروس، وهو يتبادل أطراف الحديث مع غلوكون، الذي طلب منه أن يحكي له ما حدث في مأدبة أغاثون (الشاعر التراجيدي الذي أقام المأدبة في بيته)، إذ لم تكن القصة واضحة لغلوكون من رواية فينكس بن فيليب. أخبره أبولودروس أن اللقاء حدث في صغره، تحديدًا في السنة التي فاز فيها الشاعر أغاثون بجائزة عن أول “مأساة” له، وأضاف أن الشخص الذي أخبره بالقصة هو أريستيديموس (تلميذ سقراط) الذي حضر المأدبة برفقة سقراط، ثم بدأ يسرد عليه ما رواه له هذا التلميذ.
يحكي أريستيديموس كيف طلب منه سقراط، وهو في كامل أناقته، أن يذهب معه إلى مأدبة أغاثون. وصل أريستيديموس إلى بيت أغاثون، في حين اختار سقراط أن يمنح نفسه بعض الوقت للتأمل، لذا وصل متأخرًا إلى المأدبة. بعد ذلك، اقترح إريكسماخوس أن يكون موضوع النقاش حول الحب أو “إيروس”، الإله الذي لم يجد أحدهم الشجاعة الكافية لمدحه بما يستحق. فاتفق الجميع على مناقشة هذا الموضوع.
بينما ركز معظم الحضور على صفات إله الحب، اختار سقراط اتباع منهجه المعتاد في التساؤل والتهكم، فدفع أغاثون للتعبير عن موقفه، حيث بدأ أولاً بوصف طبيعة الحب، ثم انتقل إلى الحديث عن تأثيره وهباته. وقد جاء في وصفه: الحب إذًا صغير، وهو أيضًا مرهف الحس، رقيق الشعور، لا يحتمل الشدة، ولا يطيق المكروه(1). استأذن سقراط الحاضرين ليقول الحقيقة بطريقته الخاصة، وذلك ببناء مقدمات منطقية انطلاقًا من أسئلة وجهها لأغاثون. فقال: أن أسوق حديثًا بسيطًا أبسط فيه حقيقة الحب بألفاظه وعباراته من وحي الساعة، لا صنع فيها ولا عمل(2).
يمكن إجمال هذه المقدمات على النحو التالي:
المقدمة الأولى: إن المرء يحب ما ليس في إمكانه ولا يملكه(3).
المقدمة الثانية: وفقًا لأغاثون، الحب هو حب الجمال لا حب القبح(4).
النتيجة: ما دام الإيروس يسعى الى ما ينقصه، فإن الجمال ينقصه.
هكذا يبدأ سقراط ببسط نظريته حول الحب اعتمادًا على ما سمعه من معلمته ديوتيما. هذه الأخيرة ترفض تصنيف الحب كجميل أو قبيح، بل تراه وسطًا بين الاثنين: هو بين الكائن الفاني والمواد الأزلية(5). أي نصف إله ونصف إنسان. ثم تشرح ديوتيما، من خلال سرد أسطورة إيروس، طبيعة الحب، حيث تروي أنه ابن الغنى الذي أنجبته بينيا، إلهة الفقر. هكذا تتأرجح صفات الحب بين الغنى والفقر: الحب فقير دائمًا، لا تتوفر فيه صفات الرقة والجمال كما يظن البعض، خشن المظهر، حافي القدمين بلا مأوى، يرقد في العراء.تلك هي الصفات التي ورثها عن أمه. ومن أبيه، ورث السعي الدائم نحو الخير والجمال، والشغف بالحكمة، لكنه لا هو فانٍ ولا هو خالد(6).
تقول ديوتيما: الحقيقة أنه لا يمكن القول بأن الإله يحب الحكمة أو يرغب فيها، لأن الإله حكيم بالفعل. ينطبق هذا القول على الحكماء إذا وجدوا. أما الجاهل، فلا يحب الحكمة ولا يرغب فيها، لأن من ينقصه الجمال والخير والعلم يرضى عن نفسه كل الرضا، ولا يعتقد أنه ينقصه شيء على الإطلاق. ومن كان كذلك، لا يرغب فيما يعتقد أنه لا ينقصه (7).
يسأل سقراط ديوتيما: إذن، من يحبون الحكمة ويرغبون فيها ليسوا بحكماء ولا جهلة؟ فترد ديوتيما بأنهم في منزلة بين الاثنين: لا يوصفون بالحكمة ولا يوصفون بالجهل، والحب بينهم(8).
لكن الفيلسوف يدرك أيضًا أن الحكمة حالة مثالية لا سبيل إلى بلوغها بالنسبة لهذا الإنسان. تبدو الحياة اليومية كما ينظمها الناس أشبه بحالة جنون وغيبوبة وجهل بالواقع(9). وبذلك فإن الفيلسوف ليس هو الحكيم المطلق ولا الجاهل المطلق، بل هو مزيج من الاثنين، كما هو إيروس مزيج من الفناء والخلود.
يتضح مع بيير هادو أن الفيلسوف كائن “إيروسي”. سقراط، على حد تعبير هادو: وإن لم يشبه أحدًا قط، نراه يتخذ الأوصاف الأسطورية لإيروس، أي أوصاف إيروس متصورًا كإسقاط لصورة سقراط(10). الفيلسوف ليس إنسانًا أحمق، بل هو الوسيط الذي يعرف بـ”محب الحكمة”؛ إن الحمقى لايعون بعدم حكمتهم، لذلك لايسعون إليها، عكس الفيلسوف الذي يعي افتقاده لها ويتطلع إليها باستمرار، ومن ثمة يتعذر تصنيفه، لا مأوى ولا سكن له، شأنه شأن إيروس وسقراط.(11)
لنتذكر فيثاغورس حينما رفض أن يُلقب بالحكيم، وقال: أنا لست حكيمًا، فالحكمة من اختصاص الآلهة. أنا فقط محب للحكمة. حينما تقول إنك حكيم، فإنك تزعم أنك بلغت قمة المعرفة. لكن سقراط، مثل إيروس، لا يطمئن إلى حالة معينة، بل يسعى دائمًا إلى المعرفة. إن سقراط يدرك بعمق أنه ليس ما ينبغي أن يكونه. وإنما من هذا الشعور بالانفصال والافتقار – يولد الحب (12).
إن الفيلسوف غريب. عاشق الحكمة، هذا العشق الغريب عن العالم، هو ما يجعل الفيلسوف غريبًا فيه. وهذا يعني الخروج عن المألوف أو القطيعة مع الحياة اليومية التي يعيشها الناس. الفيلسوف يختار أسلوبًا متفردًا في الحياة والعيش: الفلاسفة إذًا غرباء.. جنس منفصل(13).
يذكر سقراط بأنه كان يُدعى في المحاورات الأفلاطونية أتوبوس، أي المتعذر تصنيفه (غريب الأطوار)(14). وما يجعله كذلك هو حبه للحكمة التي تفسرها محاورة المأدبة. إذًا، فلسفة سقراط لم تكن منفصلة عن حياته، فقد كان فيلسوفًا بأسلوبه في العيش، وحواره، وتمسكه بمبادئه، حتى أن الأمر كلفه السخرية بل الموت حتى.
هكذا إذن يجب أن تفهم العلاقة بين النظرية والتطبيق في الفلسفة في هذه الفترة. لم تكن النظرية يُنظر إليها كغاية ذاتها، وإنما هي، بوضوح وحسم، في خدمة الممارسة(15) الحوار نفسه، بوصفه نشاطًا روحيًا، يعتبر خبرة أخلاقية ووجودية؛ ذلك أن فلسفة سقراط ليست هي التشييد المنعزل لمذهب معين، بل هي إيقاظ الوعي، والولوج إلى مستوى من الوجود لا يمكن بلوغه إلا في علاقة شخص بشخص(16).
الفلسفة، إذًا، في الحقبة الهلنستية واليونانية، كما قد رأينا، أخذت شكل أسلوب في الحياة؛ إن الفلسفة القديمة اتخذت هذا الطابع منذ سقراط تقريبًا.
أهمية الحوار السقراطي في بناء الدرس الفلسفي:
لا يخفى على أستاذ مادة الفلسفة أن من بين طرائق تدريس هذه المادة، وهي مستمدة من داخلها، نجد الطريقة السقراطية، أي الحوار الذي يكون بين الأستاذ والتلاميذ، وذلك عن طريق طرح مجموعة من الأسئلة الغرض منها استثارة تمثلاتهم حول القضية المطروحة. وهذا ما يعلمه لنا سقراط. يقول هادو عن سقراط: النداء الحي الذي يوقظ ضميرنا الأخلاقي. وينبغي ألا ننسى أن هذا النداء تردد في شكل محدد، هو الحوار(17).
إن الغرض من الاعتماد على الطريقة الحوارية في بناء الدرس الفلسفي هو جعْل التلميذ يسعى إلى بناء المعرفة من خلال ما سبق وأن تعرف عليه أو من خلال تمثلاته ومعارفه السابقة. وبالتالي، إذا كان سقراط يقول مرارًا وتكرارًا، لكل من يريد أن يستمع، إن الشيء الوحيد الذي يعرفه هو أنه لا يعرف شيئًا. غير أنه، مثل ذبابة خيل لا تعرف التعب، لم يكن يكل عن ملاحقة محدثيه بأسئلة تنسل أسئلة، لكي يدفعهم إلى الانتباه إلى أنفسهم ورعايتها (18).إن الأستاذ الناجح يمكن ان نسميه أيضا “ذبابة خيل” داخل الفصل لا يهدأ من طرح الأسئلة واستخراج المعرفة الحقيقية منهم، مثلما كان يفعل سقراط. هذا الأخير كان يجوب الشوارع والأزقة ويباشر الشباب بالأسئلة التي يكون الهدف منها مساعدتهم على استخراج الحقائق الكامنة في نفوسهم. ودور الفيلسوف، كما هو دور الأستاذ، هو استعادة تلك الحقائق الباطنية عن طريق عملية تسمى حسب سقراط “المنهج التوليدي” وذلك عن طريق طرح الأسئلة وتصنع الجهل.
حيث يظهر في هذه الأسئلة نمط ملحوظ للغاية: فالسؤال الأول يطلب به التعريف، ولذلك فهو لا يقبل أن يجاب عنه بنعم أو لا، بل يكون موضوع شك. أما الأسئلة التالية فتتطلب الإجابة بنعم أو لا، وغالبًا ما يكون واضحًا أي هذين الجوابين هو المطلوب. وبعد أن يحصل سقراط عن هذا الطريق على عدد من الإجابات غير المترابطة في الظاهر، يضعها في قياس كما يقول أرسطو، ليبين أنها تدحض إجابة مجيبه عن السؤال الأول. وحينئذ يطلب إلى المجيب أن يجد إجابة أخرى عن السؤال الأول، ثم يعالج الإجابة الثانية بالطريقة الأولى نفسها. ومن شأن هذا أن يظهر المجيب وكأنما هو يناقض نفسه ولا يعرف ما كان يظن أنه يعرفه (19).
إن الأستاذ هو الذي يطرح السؤال حول ما يعتقد التلميذ أنه يعرفه كالحرية، الحب، العدالة، والجمال… لكن من خلال أسئلته يورطهم، ويجعلهم في حيرة من أمرهم، بل ويساعدهم على بناء هذا التفكير النقدي من خلال هذا التوتر (الشك، الدهشة الفلسفية، السؤال…).
إن الديالكتيك، بالنسبة إلى هادو، يحمل المحاور على اكتشاف التناقضات في رأيه أو موقفه، إن ما يهم ليس الوصول إلى الحل، أي حل وضعية المشكلة، بل ما يهم هو الطريقة التي سلكناها من أجل الوصول إليه: العبرة ليست بحل مشكلة معينة، إنما هي بالطريق الذي نقطعه للوصول إلى الحل. طريق عبره يكون المحاور والتلميذ والقارئ فكرهم، ويجعلونه أجدر باكتشاف الحقيقة بنفسه(20).
هكذا يكون حل المشكلة أقل قيمة من الطريق الذي نقطعه معًا لكي نحلها. ليس المهم أن تجد الجواب على مشكلة ما قبل غيرك، بل أن تمارس، بأكبر كفاءة ممكنة، تطبيق منهج(21).
وبالتالي، هذا المنهج الفلسفي هو الذي يعطي للدرس قيمته. كما يمكن القول إن الكلام والحوار تعبير وإفصاح عن الفكر الحي في انسيابه، هو نقل مباشر لهذا الذي يكون في الروح. إنه أهم من فعل الكتابة نفسها، إذ إن هذه الأخيرة نسخة ثانية لا تفضي إلى هذا النقل المباشر بين الفكر والعالم. إن دورها يتجلى في حفظ هذا المخزون الشفهي، لكنها لا يمكن أن تقوم مقام الحوار، الذي يمنح للتلميذ فرصة الاعتراض على ذاته. فمن خلاله يسعى إلى فحص وانتقاء الحقيقي من الزائف والمغلوط، كما يمكنه من إدراك حدود معرفته وجهله ويمكن الأستاذ أيضًا من أن يكيف تدريسه وفق احتياجات التلميذ(22).
ونحن نتحدث عن الحوار وعن الكلمة المنطوقة، لا ننسى أن من بين الأسباب التي أدت بالحضارة الإغريقية إلى الانتقال من الميثوس إلى اللوغوس، حسب جون بيير فيرنان، عامل الكتابة؛ أي أن هذه الحضارة لم تعد تعتمد على الفعل الشفهي في نقل مخزون معارفها وإنتاجاتها، بل اعتمدت في التعبير عن أفكارها بواسطة الكتابة. بيد أنها لم تتخلَى عن العنصر الشفهي باعتباره يعطي للكلمة سحرها، إيقاعها، وتأثيرها على أذن المستمع أو المتلقي. إذ إن القراءة في العصر القديم كانت تعني عادة القراءة الجهرية، التي تبرز إيقاع العبارة وأصوات الكلمات (23).
الأمر يرتبط بنظام المكتوب وانسجام أفكاره، وهو ما يظهره فعل القراءة. إن هذه الظاهرة ليست غريبة على الأدب المكتوب بحيث إنه أيضًا يجب أن يكترث بالإيقاع والصوت(24). إن الحوار هو ما يضاد الدوغما. الحوار الأفلاطوني، بصفته تدريبًا ديالكتيكيًا، هو تدريب روحي قلبًا وقالبًا(25). أي انه، من وجهة نظر أفلاطون فكل تدريب ديالكتيكي، بالضبط لأنه تدريب على الفكر الخالص وخاضع لمتطلبات اللوغوس، فإنه يصرف النفس عن العالم الحسي، ويتيح لها أن تحول ذاتها تجاه الخير. إنه خط رحلة النفس تجاه المقدس(26).
إن الأستاذ هو من يصعد بتلاميذه من الرأي، أي من تصوراتهم، إلى حقيقة الشيء أو إلى معرفة الشيء، بناءً على مجموعة من الآليات الحجاجية والنقدية. لذلك يرى بيير هادو بأن التعليم الحقيقي شفاهي دائمًا. ولعلنا نذكر الفيلسوف سقراط الذي كان له موقف صارم من الكتابة، بل لم يرغب فيها حتى. وجه نقدًا لها باعتبارها ليست فنًا ولا تعليمًا. ومن يعتقد ذلك فهو رجل على قدر كبير من السذاجة(27).
إن سقراط، في محاورة فايدروس، يشبه الكتابة بالصورة المرسومة التي تبقى صامتة وجامدة مهما بدت لنا كما لو أنها كائنات حية. الكلام المكتوب تظنه يكاد كأنما يسري فيه الفكر، ولكنك إذا ما استجوبته بقصد استيضاح أمر ما، فإنه يكتفي بترديد نفس الشيء. وهناك أمر آخر هو أن الشيء بعد أن يكتب يظل ينتقل من اليمين إلى اليسار بغير مبالاة، فيُساق إلى من يفهمونه وإلى من لا يعنيهم منه شيء على السواء. وهو، فضلًا عن ذلك، لا يدري إلى من من الناس يتجه أو لا يتجه (28).
هذا الأمر لازم لمن اتخذ على عاتقه أن يسلك سبيل المعرفة الحقة، كما هو حال سقراط. إن المعرفة عنده حوار مع الآخر أو مع الذات، بيد أن هذا الحوار يلزم الإصغاء. إذن الحقيقة تتكلم بصوت يدعو إلى الإصغاء إليها، والتطهر من أوهام المعارف، ثم الارتقاء بالنفس والسمو بها إلى مقام الحقيقة. هذا الصعود هو ما نسميه الجدل، وهو الشكل الأرقى الذي سوف يتحدد أساسًا من خلال الفلسفة مع سقراط وأفلاطون. يأخذ الحوار الجدلي، هذا الشكل الديالكتيكي، طريق النفس إلى التحرر من المظاهر، والاندفاع بها إلى عالم المثل. أما الكتابة فهي لا تكاد تحظى بأية أهمية في تمارين السير بين عالم الآلهة وعالم الناس.
لهذا، لا يمكن اعتبار الفلسفة مجرد معلومات غير متصلة بالحياة، يمليها الأستاذ على التلميذ حتى ينساها ويطويها الزمن في خبر كان. كما لا يمكن أن نختزل الفلسفة في الجامعات والمدارس. قد يكون هذا الاختزال قتلًا لروح الفلسفة وجوهرها إذا وضعناها في هذه الصورة الضيقة وجعلناها تنحصر في موضع الكمية والمكان. هذا ما يعلمه لنا القدامى: كيف نجعل هذا النص الذي يقرأه أو يكتبه التلميذ يعنيه، ولا يتعارض مع الحياة، بل يدعوه إلى تأملها وعيشها. ففي التقليد الإغريقي، لم تكن المعرفة أو الحكمة مجرد معرفة نظرية خالصة بقدر ما كانت إتقانا للعمل Savoir faire وإجادة للعيش savoir vivre، وإننا نتعرف على أثر ذلك في طريقة حياة سقراط الفيلسوف، وليس في معرفته النظرية(29).
لذا يوضح بيير هادو أن النصوص التي كُتبت قديمًا كانت مرتبطة بالنشاط التعليمي يعكس جنسها الأدبي مناهج المدارس وطرائقها (30). إنها غير منعزلة عن الحياة. يتكون أحد التدريبات المعتبرة في المدارس من شرح: إما على نحو ديالكتيكي (على شكل أسئلة وأجوبة) أو على نحو خطابي؛ أي في حديث مستمر يطلق عليه “أطروحات” (theses)، أي مواقف نظرية معروضة في شكل أسئلة من قبيل: هل الموت شر؟ هل الرجل الحكيم يغضب على الإطلاق؟(31).
إن مثل هذه الأسئلة علينا أن نستعيد طرحها من جديد، الغاية منها هي إيقاظ سبات التلميذ وجعله ينخرط في بناء التعلمات. يحاول الأستاذ بذلك وضع وضعية مشكلة لا تتعارض مع الواقع المعيش للتلميذ. إن هذه المنهجية التي يسلكها الأستاذ في تدريسه لا تجعله مالكًا للمعرفة أو سيدًا لها، بل موجهًا ومساعدًا في بناء المعرفة مع التلاميذ. من شأن هذا أن يقدم تدريبًا على أحكام الكلمة المنطوقة وتدريبًا فلسفيًا قويمًا أيضًا (32).
وعليه، يعي التلميذ أن ما يقرأه من نصوص فلسفية ليست نصوصًا متعارضة مع واقعه. إن الأستاذ يكون مثل ذلك الشخص الذي صوّره أفلاطون في أمثولة الكهف، عندما تحرر من تلك الأغلال والقيود وبدأ يكتشف حقائق ويبني معرفة عليها. عليه أن يعود إلى الكهف لكي يحرر الآخرين أيضًا. الأستاذ هنا يحرر التلاميذ مما يؤمنون به من معتقدات وعادات وخرافات عن طريق هذا الجدل، أي إخضاع الأقوال والآراء للفحص من خلال فن الحوار.
لهذا السبب، على الأستاذ العاشق للحكمة أن يحمل على عاتقه رسالة مفادها أن الفلسفة هي تواصل مستمر معها. إن هذا هو، بالدرجة الأولى، تعبير عن عشق وصداقة للحكمة. يخرج التلميذ من ما تعود عليه من حفظ وتقليد وسكب ما تعلمه يوم الاختبار (مثل ما كان عليه الامر مع البيداغوجية الكلاسيكية) إلى إطار واسع يجعله يكتشف نفسه وحدود تفكيره من خلال الحوار الذي يجريه الأستاذ مع تلاميذه أو التلاميذ مع بعضهم البعض.
*المراجع المعتمدة
(1):أفلاطون. المأدبة فلسفة الحب. ترجمة وليم الميري. أقلام عربية للنشر والتوزيع. 2019. ص51
(2): المأدبة فلسفة الحب. ص56
(3):المأدبة فلسفة الحب.ص58
(4)المأدبة فلسفة الحب.ص59
(5):المأدبة فلسفة الحب.ص62
(6)المأدبة فلسفة الحب.ص63
(7) المأدبة فلسفة الحب.ص64
(8):المأدبة فلسفة الحب.64
(9):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو. ترجمة عادل مصطفى. دار النشر هنداوي 2023. ص 36
(10): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص133
(11): pierre Hadot. Qu’c’est ce que la philosophie antique ?p81
(12):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص139
(13):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص34
(14):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص35
(15):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص38
(16):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص139
(17):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص73
(18):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص73
(19):الموسوعة الفلسفية المختصرة للدكتور زكي نجيب محمود، دار القلم بيروت-لبنان. ص260
(20):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص77
(21):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص77
(22):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص41
(23):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص40
(24):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص41
(25):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص78
(26):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص78
(27):محاورة فايدروس لأفلاطون. ترجمة اميرة حلمي مطر، دار غريب للطباعة 2000. ص108.
(28): محاورة فايدروس لأفلاطون. ص108
(29): pierre Hadot.Qu’est ce que la philosophie antique ? Page 77
(30):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص42
(31):بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص 42
(32):بيير هادو. الفلسفة طريق. حياة. ص42
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.