بن رشد ربيب السلطة وضحيّتها
بقدر ما يشكِّل بن رشد مثالاً خاصا وفريداً في التاريخ الفكري والثقافي للمغرب العربي الإسلامي، فإن الدولة الموحدية التي عاش في كنفها، تشكل هي الأخرى نموذجاً خاصا في التاريخ السياسي والاديولوجي للسلالات الحاكمة في المغرب على مر العصور.
فمن بين الدول التي حكمت المغرب وهم على التوالي “الأدارسة، المرابطون، الموحدون، المرينيون، السعديون، العلويون.” فإن جميع هذه الدول -باستثناء الدولة الموحدية- كانت تتبنى العقيدة الإسلامية عقيدة أهل السنة والجماعة في محاكاة للاقطار الإسلامية عامةً التي ظلت محكومة بنظام الخلافة العباسية السُّنية، والعقيدة الأشعرية والمذهب المالكي الذي تم استيراده بداية من الحجاز مع الأدارسة ثم من الأندلس الذي سادت فيه الدولة الأموية السنية كذلك.
من بين جميع هذه السلالات تتميز الدولة الموحدية بمذهب استثنائي لم تعرفه أي سلالة حاكمة مغربية لا قبلها ولا بعدها ! بل ان هذا المذهب لا يوجد في أي بقعة أخرى من العالم الإسلامي إذ لم يظهر إلا مع مؤسس هذه الدولة وزعيمها الفكري والروحي الذي يلف تاريخَهُ الغموض وهو المهدي بن تومرت !
ليس المهدي اسما شخصيا له في الأصل، فهو محمد بن تومرت فتى أمازيغي من سوس تعلم القرآن ثم رحل في طلب العلم الى المشرق وهناك سيتعرض لصدمة من التناحرات المذهبية والجدلية في علم الكلام في العراق على وجه الخصوص الذي عرف حركات كلامية متشعبة تمتد من السنية منها الأشعرية والسلفية الى المعتزلة والشيعة بأصنافها الامامية والإسماعيلية وغيرها هناك سوف يتملك بن تومرت الإعجاب الكامل بالإمام الغزالي وبالمذهب الأشعري الذي يرفض التحجر السلفي حول النصوص ومعانيها الحرفية وقد عاد بن تومرت إلى وطنه في المغرب عازماً على نشر علم الكلام والمذهب الاشعري في المغرب.
هناك حيث سيلاقي نظاما سياسيا ضعيفا يسيطر عليه الفقهاء المالكيون في الدولة المرابطية، عزم بن تومرت على تحويل دعوته الدينية الى حركة سياسية حيث سيضيف ركنا جديداً إلى مذهبه الخاص بادعائه أنه المهدي المنتظر المعصوم الذي سيوحد العالم الإسلامي ويواجه الصليبيين لتحرير القدس في ملحمة آخر الزمان.
للفرار من السلطة القوية للولاة المرابطين في المدن لجأ بن تومرت الى جبال معزولة في الأطلس الصغير ليبدأ تكوين قاعدته السياسية حيث أسس جامع تينمل وشرع فورا في تجنيد الاتباع معتمدا على مميزاته الشخصية كفقيه مثقف في مدارس المشرق وخطيب أمازيغي مفوه حيث نشر خطبه وكتبه باللغة الأمازيغية واشهرها كتابه “أعز ما يُطلَب”، جنبا الى جنب مع تكتيكات سياسية في التحالف مع القبائل المحلية المستاءة من سياسة المرابطين ذوي الأصول الجنوبية و هكذا نشأت الدولة الموحدية التي لن تتجاوز سلطتها جبال سوس إلا بعد وفاة المهدي المنتظر المزعوم بن تومرت وتولي خليفته عبد المؤمن بن علي الكومي لقيادة الموحدين ليستولي على شرق المغرب والجبال الأمازيغية بدأً ثم المغرب الأوسط وافريقية الصغرى(تونس) والعاصمة مراكش ثم أخيراً الأندلس التي كان فيها بن رشد الفقيه والقاضي قاضي قضاة قرطبة ووجهها العلمي الذي يتهيأ لدوره الجديد في مراكش عاصمة الخلافة الإسلامية الموحدية التي ستغطي وجه الغرب الإسلامي بمذهب غير مسبوق بقوة السيف.
سيطرت الدولة الموحدية عمليا سياسيا وعسكريا على معظم البلاد في المغرب العربي. إلا أن نفوذها الروحي ظل ضعيفاً جدا ومحصوراً في النخبة الحاكمة ورؤساء الدعوة وشيوخ الموحدين. في حين ظل الشعب على مذهب الإمام مالك ولم يحدث اي رواج للمذهب الرسمي في صفوف العامة، بل ان الأمراء والخلفاء الموحدين اضطروا لتعيين القضاة والائمة من المذهب المالكي لا من المذهب الرسمي للدولة.
وهنا سوف تصبح الحاجة ملحة إلى حل سياسي، فإما أن يعتنق الملوك الموحدون مذهب الشعب والنخبة، او يعتنق الشعب والنخبة مذهب الدولة الرسمي.
والحقيقة أن الخلفاء الموحدين لم يتوانوا عن محاولة إقناع الشعب المغربي بمذهبهم الجديد، فقد كان الإمام الأول المهدي بن تومرت يخير الواقعين تحت سيطرته بين اعتناق مذهبه والتسليم بإمامته وبين القتل والسبي اي انه عامل مخالفيه في العقيدة معاملة الكفار بل إنه كان يتبع سياسة غريبة تعتمد على التشبه بأفعال توحي وكأنه النبي محمد. فقد هاجرت مثل هجرته وغزا مثل غزوه ودعا مثل دعوته، حتى أنه عين عشرة أصحاب له سماهم ب “مجلس أهل العشرة” اقتداء بالاصحاب العشرة المبشرين بالجنة فضلا عن انه يحمل نفس الاسم محمد، و هكذا لم يبقى له الا عقدة اصله الأمازيغي التي عمد لحلها عبر ادعاء نسب تعيد أصله الى السلالة الادريسية ليتسق مع الحديث الذي يشير إلى أن المهدي المنتظر يأتي من سلالة النبي محمد عبر ابنته فاطمة.
إلا أن الخليفة عبد المؤمن لم يكن يحمل حقا هم فكرة هذا المذهب الملفق ونشره بين الناس بقدر ما كان يهدف لتثبيث أسس دولة ملكية وراثية مستقرة لذلك تسامح مع المذهب المالكي واتباعه، لكن ما إن تبث دعائم دولته حتى بدأ محاولات إيجاد التوازن بين المذهب المالكي صاحب الشعبية العارمة، وبين مذهب الدولة الرسمي
فقد عمد النظام الموحدي إلى إضعاف مواقع المذهب المالكي عبر إلغاء الدور السياسي للفقهاء في الدولة كما كان عليه الحال في عهد المرابطين، ثم عمد إلى إلغاء اي علاقة رسمية بين المغرب الموحدي والخلافة السنية العباسية في المشرق. فأعلن نفسه أميراً للمؤمنين وهو أول من حمل هذا اللقب من ملوك المغرب. وقصد بذلك جعل نفسه في موقف الند من الخليفة العباسي في الشرق. ليفقد العامة في المغرب أي نموذج سني للتطلع إليه.
أما الخطوة التالية الأخرى فكانت اتاحة حرية المعتقد للأقليات الاخرى في المغرب كالشيعة الفاطمية والخوارج وذلك لايجاد تحالف موحدي-شيعي-خارجي لإيجاد نوع من التوازن مع الأغلبية السنية المالكية.
إلا أن الخطوة الكبرى في هذه السياسة كانت تبني الدولة رسمياً للخصم الأيديولوجي الأبرز للإسلام السني وهي الفلسفة العقلانية اليونانية. وهذا سوف يبدأ رسميا مع ابن طفيل ثم بشكل أعمق تأثيرا مع ابن رشد الحليف الفكري لسياسة الدولة الموحدية وضحيتها في الوقت نفسه على حسب ما تقتضيه لعبة المصالح والتحالفات في هيكل دولة الخلافة.
قدمت الدولة الموحدية دعما سخيا لابن رشد فتم تعيينه قاضي القضاة لجميع بلاد المغرب الاسلامي والأندلس وهو أعلى منصب قضائي موجود، فضلا عن كونه طبيب الخليفة الأسطوري للمغرب والأندلس يعقوب المنصور.
وقد خوله هذا الدعم مكانة عملية وسياسية بارزة كما ستتيح له الحماية والتأييد لكتابة أفكاره في العلاقة بين الدين والفلسفة والمقارنة بين العقل والنقل تلك التي ستكون سطورها موجهة إلى الفقهاء -المالكية- الإزعاج الأساسي للدولة الموحدية والفلسفة في نفس الوقت.
كذلك سيجد بن رشد الفرصة مواتية لشرح كتب ارسطو وافكاره مقدما للقارئ العربي مصدرا جديدا للمعرفة مقابل النصوص الدينية ومدونات الفقه التي ظلت سائدة في المراحل
السابقة.
إلا أن هذا التحالف السياسي والفكري لن تطول أيامه لتكون الا شهر عسل قصير بين الفلسفة وبلاط السلطة التي ستتقلب رياحها بما لا تشتهي سفن الفلسفة. ففي النهاية رأى يعقوب المنصور أنه النصر الذي حققه في الأندلس يؤهله شعبيا ويمنحه الشرعية الدينية والسياسية للحكم كإمام للمسلمين وقائد للجهاد، وهكذا أصبحت الفلسفة والمذهب الموحدي عبئاً على الشرعية السياسية للدولة أمام الشعب الذي يعتنق المذهب المالكي فتمت التضحية بالفلسفة أولا مع نكبة بن رشد للتقرب من الفقهاء، ثم التضحية بالمذهب الموحدي نفسه مع الخليفة المأمون الموحدي.
وهكذا فإن بن رشد ليس فيلسوفا فقط التقط أنوار الفلسفة والفكر اليوناني كظاهرة فكرية فردية، بل يجب النظر إليه كابن عصره وربيب زمانه وذاك حال كل فلسفة على حد نظر هيغل. فهو بدأ فقيها شرعيا ثم قاضيا ثم فيلسوفاً وكان في الحالات جميعاً تحت عين السلطة وبين يديها يسعى بها وتسعى به فعندما اتفقت أهدافها في نصرة العقل والنظر في النصوص ومواجهة تزمت الفقهاء والانفتاح على المجهودات الكونية للقدماء في تنوير العقل وتحرير الإنسان وإصلاح الشأن العام للأمة ارتفع إسمه وعلا نجمه وتولى القضاء ونال المكانة وألف كتبه ونشر افكاره، وحين تعارض في ما سعى إليه مع غاية الدولة كانت نكبته فنفي وطرد وأبعد، وسفهت افكاره واحرقت كتبه. لكنه في الحالات جميعاً يمثل أمته أصدق تمثيل لقد ابتدأ ابن رشد فقيهاً وكذلك ابتدأت أمته بداية دينية ثم صعد إلى السلطة بالعلم والمعرفة تماما كما ارتقت أمته بالترجمة العلوم والفلسفات وتعلمها وكتابتها وإطلاق العنان للعقل والنقد والابداع والتفكير. وكما انتهت حياة ابن رشد بالنفي والنكبة ستنتهي الحضارة العربية الإسلامية الى الانحطاط والنكبة بنفس الطريقة إلا انها اوسعُ نطاقاً وابعد تأثيراً، تحاكي بذلك دورة الزمان الذي يرفع الأشخاص كما يرفع الأمم -على حسب تقديرهم للعلم والمعرفة- من الحضيض ثم إلى أعلى القمة ومن ثم إلى الهاوية عندما تحتقر عقلها وتنسى سبب نهضتها الأول ثم منحت للآخر الغربي بلاد الأندلس، ثم ثراث ارسطو، ثم ابن رشد، ثم منحته نفسها، وأرضها، وقيمتها وقدرها في الأمم حتى تمثلت بذلك قول المتنبي:
ومَن جَهِلَت نَفسُهُ قَدرَهُ
رَأى غَيرُهُ مِنهُ مَا لا يَرَى.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.