الآثار التي أحدثها التعلُّم الرقمي على المنظومة التعليميَّة
المغرب أنموذجًا
لعلّ المهتم بالتعليم وتاريخه وطرائق تدريسه في المغرب قد يلحظ ما عرفه من تطور على مستوى المناهج التعليمية والموارد الرقمية، وذلك من أجل التجويد من العملية التعليمية-التعلمية، بدءًا من التدريس ببيداغوجيا المضامين إلى التدريس بالكفايات، ومن ثم من اعتبار الأستاذ هو مالك المعرفة إلى موجه ومرشد للتلميذ، حيث صار هذا الأخير غير مكتفٍ بالتلقي والاستماع السلبي، بل أصبح مشاركًا ومنخرطًا أيضًا في بناء المعرفة. وهذا ناجم عن ما أحدثه التعلم الرقمي، حتى باتت المعلومة متوفرة لدى الجميع بأقل تكلفة زمانية ومكانية. بيد أنه قبل أن نغوص في هذا الموضوع، علينا أن نتساءل: ما هي الآثار التي أحدثها التعلم الرقمي على المنظومة التعليمية عامة وعلى المغرب خاصة؟ وما هي العوائق التي تعوق تقدم التعلم الرقمي في المغرب؟
لا يمكننا أن نتغافل عن أهمية التعلم الرقمي على المنظومة التعليمية، ذلك لما له من آثار إيجابية، حيث صار من السهل على المتعلم الحصول على المعلومة، مما ينعكس على تحسين التعلم الذاتي وتنمية البحث لديه، ليصير بذلك أكثر اعتمادًا على نفسه ومشاركًا أيضًا في بناء المعرفة داخل الفصل.
فكما جاء في المقاربات التشاركية، يُعتبر المتعلم هو المحور الأساسي في سيرورة التعلم، يعمل على حل المشكلات في سياق وضعيات تعليمية-تعلمية بتوجيه من المدرس، انطلاقًا من تمثلاته الخاصة النابعة من مكتسباته السابقة المعرفية والوجدانية والحس-حركية، والناتجة عن ثقافاته واهتماماته. ومن ثم، يعطي معنى لما يتعلمه. من هنا، لم تعد المعرفة مطلقة وثابتة ومتعالية على واقعه وطموحاته، يمتلكها المدرس، ويعمل على تلقينها للمتعلم.
كما تجدر الإشارة إلى ما مرَّ به المغرب من تطور في النظام التعليمي قبل الألفية، حيث كان التشبث بالدين الإسلامي ومبادئه المتعلقة بالعلم والتعلم والمعرفة، ثم مرحلة ما بعد الاستقلال، إلى أن وصلنا إلى تطور النظام التربوي المغربي بعد سنة 2000.
وعليه تم صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والكتاب الأبيض، والمخطط الاستعجالي، والرؤية الاستراتيجية. وبالتالي، فإن العولمة كانت العامل الرئيس وراء هذا الإصلاح التربوي؛ أي التحديات الكبرى الناتجة عن عولمة الاقتصاد والمعرفة، بالإضافة إلى تنامي دور الإعلام العالمي في التنشئة الاجتماعية وضرورة التصدي له عن طريق التعليم، وكذا عولمة التعليم.
إن هذا ما كشفت عنه جائحة كورونا؛ فقد عرّت هذه الجائحة الحاجة الملحة إلى الاستعانة بالتكنولوجيا ومدى أهميتها في فترة عصيبة كتلك. إن اعتمادها أثناء هذه الفترة أدى إلى استئناف الدراسة عن بُعد من أجل تفادي انتشار العدوى في صفوف التلاميذ. لذلك، نجد أن عددًا من الأساتذة ساهموا في مشاركة دروس الفصل على موقع يوتيوب، كما تم إحداث بوابة إلكترونية “Telmid Tice” من طرف وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي، هذا إلى جانب بث برامج مدرسية على قنوات تلفزيونية خاصة لتقديم حصص الدعم والمراجعة.
أما بخصوص التعليم الجامعي، فقد خصصت كل جامعة مغربية منصة إلكترونية رهن إشارة الأساتذة والطلبة من أجل تحميل المحاضرات والدروس. هذا من الناحية الإيجابية، أما من الناحية السلبية، فلا يمكننا أن نتغافل عن بعض المشاكل. حيث كثير من الناس يعتمدون على الذكاء الاصطناعي في كافة المجالات، مما قد يؤدي إلى غياب الموثوقية، أي عدم الرجوع إلى المصدر الأصلي أو الكتاب، وبالتالي فإن سوء استخدامه قد يعزز العجز والكسل لدى المتعلم والباحث. وفي هذا السياق نجد محمد عزيز الحبابي يعترف على سبيل المثال بأن هناك نجاح في التجارب التكنولوجية في مقابل نسيان التجارب الوجودية ذلك أن الشعب لا يصير متقدما إلا بتجاوزه مرحلة الخضوع للآلات نحو مرحلة التفاعل معها، حينئذ يدرك الشعب التطور والتقدم أي توسيل العلم لخدمة الانسان. إن ما وصل إليه المغرب من تطور على المستوى الرقمي، الذي ساهم في رفع وتيرة تنمية المجتمع المغربي، ساهم أيضًا في تطوير وتفعيل البحث العلمي، إلا أننا لا نتغاضى عن حقيقة أن المغرب هو أحد الدول العربية التي تشكو من إشكاليات وثغرات مزمنة يصعب تجاوزها، خاصة تلك التي تعوق كل محاولة لإصلاح وتأهيل منظومة التربية والتعليم، مثل عائق “عدم توفر جميع المؤسسات التعليمية على وسائل رقمية حديثة وضعف تكوين الأساتذة في هذا المجال”.
إن هذه التطورات والتحولات التي أحدثها العصر الرقمي تتطلب عدة مهارات، تهدف إلى جعل المتعلم قادرًا على مجاراة العصر. فاستخدام التكنولوجيا في التعليم يستدعي بالضرورة وجود أدوار جديدة للمعلمين، وبالتالي انفتاحهم على أساليب تربوية حديثة تساعدهم في إنجاح الدرس. أما غياب التكوين الجيد في هذا المجال، فقد يؤدي إلى عرقلة إنجاح هذه العملية التعليمية-التعلمية.
هكذا إذن يمكن القول بأننا صرنا أمام ثورة رقمية تغزو تكتسح كل المجالات، بدءا من ما دعا إليه غاليلي “الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات ولغتها هي الدوائر، والمثلثات وأشكالٌ أخرى هندسية، وبدونها فلا يستطيع الإنسان فهم حتى كلمة واحدة من الطبيعة والكون، وبدونها يظل الإنسان في دهليزٍ كبيرٍ مظلم .” إلى أن نصل إلى ديكارت أي تسييد الإنسان على الطبيعة عبر إبداع الآلة والتقنية. ثم الفترة المعاصرة التي أظهرت بأننا أمام عالم مضاعف آلاف المرات عن العالم القديم، إننا أدخلنا هذا العالم المعقد والملغز إلى المختبرات وصرنا نتعامل معه بلغة الأرقام والرياضيات وبالتالي ضرورة الافتتاح عن هذه التقنية قد أدى إلى نسيان الذات، إننا بتنا أمام ما يطلق عليه “انسان الديجيتال” . في ظل هذه التحولات كيف يمكن أن ينفتح المتعلم عن هذه التكنولوجيا دون أن تستلبه ؟
هل يمكن لهذا التطور أن يجعلنا ننتقل إلى مجتمع بلا مدارس؟
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.