التنويريمنوعات

أرواحنا والأحجار الكريمة

تميزت عدّة من الأحجار عن سواها، لجمالها وجوهرها الثمين، فأطلق عليها اسم (الأحجار الكريمة)، وما حقيقتها إلا مجرد حجر، لكن المثقال اليسير منها يُحْسب له قيمة. من تلك الأحجار القيمة التي تباع وتشترى: (الماس، والعقيق، والزبرجد، والفيروز، والزمرد، والياقوت، وسوها)، هل سألت نفسك يومًا لماذا كانت هذه الأحجار لها يقيمة مادية؟ وتحفظ في صناديق مغلقة؟ ولها سوق يتنافس عليها باعة الجوهر؟، وبقية الأحجار تلقى في قارعة الطريق ولا يُعَار لها أي اعتبار؟

باختصار الأحجار الكريمة مميزة وتختلف عن بقية الصخور والحصى، حتى هذه الأحجار النفيسة يختلف سعرها عن غيرها من ذات النوع وذات الصنف، باختلاف التركيب، فالتجاويف والشوائب تقلل من قيمتها، وكلما زاد النقاء ارتفع الثمن، والعكس صحيح، حديثنا ليس عن هذه المجوهرات، بل عن شيء آخر نعرضه الآن، وهو أن هذه النفس البشرية، كالحجر النفيس، والأعمال التي يفعلها المرء تنعكس على هذه الروح التي بين جنبيك خيرًا فخير، وشرًا فشر، لهذا قد نجد بشرًا من نوع خاصّ مجرد النظر إلى وجوههم ترتاح لهم الأفئدة وتطمئن لمحياهم النفوس وكأنما هذا البشر في جوهره ما هو إلا ملاك يسير على الأرض، وعلى النقيض تمامًا قد نرى بشرًا آخرًا تنفر منه النفوس وتستوحش وتشمئز لمطالعته وكأنما لا نرى أمامنا إلا مجرد شيطان رجيم والعياذ بالله!

فما هو السر الذي يجذبنا لهذا وينفرنا من ذاك؟، لماذا ننسحر لهذه الروح وكأن مغناطيسًا يسحبنا إليها، وعلى النقيض ذلك الذي لا نراه إلا إبليس اللعين، هل هناك سر يميز أحدهما عن الآخر؟ البعض ينهمك في العبادة فلا نرى على محياه ذلك الأثر النوراني، ولربّ مُقل نرى الإنجذاب إليه والارتياح!، هل وراء ذلك من سر؟ يتفق الجميع أنّ الاعتبار بالكيف لا بالكم، فلتكن أعمالنا كيفًا، مع ذاك يصر البعض على الكميات دون النوع. روي في الأثر أنّ عابدًا عبد الله خمسمائة سنة فدخل النّار، بينما صحابي لم يصل في حياته ركعة واحدة، قال عنه النبي: “إنّه لمن أهل الجنّة”.

البعض يظن أنّ ورود الجنّة بكثرة الأعمال، بينما نشاهد نماذج كثيرة تفصح أنّ الجزاء ليس بالكم، إنما بالكيف. الخلاصّة المستوحاة أنّ الله لم يخلقنا ليجهدنا في عبادته، فما يصنع بعبادتنا وهو الغني المطلق؟، لم يخلقنا ليربح علينا، إنما خلقنا لنربح عليه، وذلك متحقق بالقليل من العبادات. فرب ركعة؛ خير من آلاف الركعات، فكيف نصحح المسار؟

مقالات ذات صلة

لقد خلقنا الله وقد وهبنا ماله واستقرضنا إياه، ومع ذلك

يضاعف لنا الواهب الموهوبات: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). هناك من الصالحين من يستهدف صلاة مائة ركعة في اليوم الواحد، فهل فكر هذا العابد تأدية صلاة الخاشعين؟!، إنّ صلاة الخشية، هي المطلوبة، وهي الكنز الذي غفلنا عنها، وهي تلك الصلاة التي بالفعل تنهى عن الفحشاء والمنكر. السؤال: ما فائدة الصلاة إذا تجردت من روحها؟، ما فائدة الصدقات إذا استهدفت التفاخر والرياء؟، إنّ الله لا ينظر إلى كثرة الأموال أو قلتها، إنما ينظر إلى القلوب التي تهب الصدقات وتغيث الملهوف، فالأعمال بالنيات.

ولنا في قصة ابني آدم قابيل وهابيل خير موعظة، حيث يتجلى لنا درس التقوى، وإنّه من الأسس الهامة لقبول الأعمال، قال تعالى على لسان هابيل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، وفي غير محل تركّز الآيات على هذا البعد: (وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ)، (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)، وهنا نطرح السؤال: لماذا نجرد العبادات من محتواها القدسي، ونتمسك بالقشور؟

ربّ فقير يدفع درهمًا واحدًا، خير من ذلك المتبجح الذي يدفع أطنان الذهب، هل نعي خطورة الأمر وفداحته؟، ربّ مبلغ زهيد نفع، وربّ مبلغ كبير أضر وأسخط، فما هو الاعتبار؟، الجواب في الآية الآنفة: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، إذًا الإعتبار بالكيف لا بالكم. يقول تبارك اسمه: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء)، إذًا لا فائدة من الزبد الخالي من المحتوى، ما يصنع الله في اللحوم والأضاحي والدماء الكثيرة باهظة الثمن؟، المطلوب أن يتحرك هذا الوجدان للمعاني النبيلة، السؤال الجوهري: لماذا نحتبس بين جدران الطقوسية؟

إنما الهدف بلوغ التقوى التي تفتح بوابة الصفاء والإنشراح، وحالة القرب من الله. فربّ كلمة خفيفة على اللسان هي ثقيلة في كفة الميزان، إذا حملت المعاني الرفيعة وأثرت في صاحبها. لهذا لزم الصدق في القول والإخلاص في العمل وتطهير النية.

ما فائدة التبتل الطويل والقلب ساهٍ لاه؟ ربّ ركعة أدخلت صاحبها الجنّة، وربّ سجدة أسكنت مؤديها الفردوس. فلماذا لا نركّز على الكيفية؟، ونغرق في (كاف) الكم. الكم جيد، ولكن الاعتبار بالكيف. لهذا يتبخر العمل ويتحول لرماد، إذا خالط العمل (راء) الرياء. لهذا ورد: “أنا أغنى الشركاء عن الشرك”. والنصيحة المميزة الخالدة إذا اهتم الناس بكثرة العمل، فليكن همّك إجادته والخلاص فيه. فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؟، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب؟

نعود لحديث الأحجار، وقبل أن توضع روحك في الميزان، عليك أن تتفكر أي حجر كريم تنوي أن تكون، وعلى هذا النهج تحرك وكن متميزًا في قولك وفعلك وفي  نواياك، فالحجر النفيس ينافس غيره بما يحتوي من جوهر أصيل، فشكّل روحك لتكن ذلك المَلاك الذي ينجذب إليه الجميع ولا تهتم بالقيل والقال، فالجوهر يُعلى ولا يعلى عليه.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة