القراءة والكتابة في مسار سيّري
مسرات القراءة ومخاض الكتابة: فصل من سيرة كاتب
حواس محمود[1]
كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي الذي صدر حديثاً “مسرات القراءة ومخاض الكتابة فصل من سيرة كاتب” من الكتب النادرة – في وقتنا الراهن – التي نعثر عليها أحيانا، ونحن نبحث عن المتعة والفائدة معا في قراءاتنا المتعددة للإصدارات الحديثة؛ فالمؤلف يعكس صورة أي مؤلف آخر من خلال ما يتقاطع وينسجم عليه المؤلفون وبخاصة في بدايات انطلاقتهم القرائية، وعشوائية مطالعاتهم جاهدين للعثور على المفيد والممتع من الكتب، ولكن هذا يستغرق منهم وقتا ثمينا وتذهب جهودهم سدى وهم يقرؤون الكتب الرديئة أو الكتب التي لا تساهم في بناء وتنمية الذائقة الأدبية والثقافية، والكتاب غني بالتفاصيل المهمة الكثيرة التي تتعلق بالكتابة والقراءة وسيكولوجيتهما، وحقيقة أنّ هذا الكتاب سيكون له أثر ثقافي مهم في المشهد الثقافي العربي الراهن، ولدى القارئ الخاص والعام في آن.
مسرات القراءة
في مطلع هذا القسم يتحدث المؤلف عن تعلقه بالقراءة وشغفه بها، فيعد نفسه قارئا قبل كل شيء وأنه لن يترك القراءة ما دام حياً، وأنّ قراءته تتغير بتغير الواقع والوعي وتغير المزاج وعوامل أخرى لا يدركها، تفعل فعلها في انتقاء نصوص واستبعاد اخرى، كما أنّ رفقة الكتب استغرقت معظم أيامه، وأنه أنفق عمره معها أكثر بكثير مما أنفق برفقة البشر، وهو لا يستطيع العيش بلا منبع للمعنى في حياته؛ فالقراءة كانت وما زالت ترفد حياته بأعذب معانيها. ويبيّن الرفاعي أنه بعد رحلته القرائية هذه، أصبح كاتباً إلا أنّ القراءة ما زالت تلازمه وتفرض حضورها كأولوية على الكتابة؛ إذْ “لا تصمد مواعيد الكتابة وجداولها الزمنية لحظة يتّقد شغف القراءة، حين أضجر من الكتابة أستريح بالقراءة، وحين أفقد التركيز بعد ساعات من القراءة لا يستفيق وعيي إلا بالقراءة” ص 7
ويظهر المؤلف شغفه بقراءة الصحف منذ نعومة أظافره؛ فمنذ الصف الرابع كان يقرأ الصحف والأخبار، ولا يزال على هذه العادة الجميلة؛ إذْ يقرأ الصحف والأخبار عبر الإنترنت، ويستغرق منه ذلك ما لا يقل عن ساعتين من يومه.
إنّ شغف المؤلف بالكتب شغف قديم، يعود إلى مرحلة مبكرة من حياته، والإدمان على حضورها الدائم ترسخ بمرور الأيام، وهو يعيش مع الكتب كأنها كائنات حية تتكلم بلغة يتحسسها ويسكن إليها؛ فوجود الكتاب يشعره بالأمن النفسي، ويؤنسه حين يشعر بوحشة الوجود.
مخاض الكتابة
في هذا القسم، يشير المؤلف إلى أنه قد وجد نفسه منذ بداية العقد الثاني من عمره مولعاً بالمطالعة، وفيما بعد صار يحلم بالكتابة أيضاً، رغم أنّ هذا بدا له أشبه بالمعجزة، واختار أن يكتب حكايات والدته وصاحباتها بلغة تخرجها من العامية إلى الفصحى، ويكتب من نسج خياله حكايات عابرة وقصص قصيرة، وهو لا يتذكر أنّه قد عرض هذه الكتابات على أحد، ويكتفي بكتابتها وحسب، ويشعر بالبهجة والفرح لبرهة، ومن ثم في اليوم التالي يعود لقراءتها ثانية بهدوء وينتابه الشك في ما كتب، ويستمر في هذه المحاولات الكتابية ويتخبط في فوضى التجريب والتكرار الممل، ممزوجين بشغف غريب يلابسه خوف يبلغ حد الذعر أحياناً، ويأس من النجاح في التجارب التالية.
كان المؤلف دائم التفكير للقيام بما يتوجب عليه، لكي تكون خطوته الكتابية الأولى ناجحة، وهذا التفكير قاده إلى ممارسة أشكال متنوعة من الكتابة، فانتقل فجأة إلى الشعر، وكان متعجلا في هذا المسعى، فبدأ بديوان فرغ من وضعه، على ما يظن بعشرة أيام، وقد اتسع له دفتر لا يتذكر عدد صفحاته، تضمن ما لا يقل عن عشرين قصيدة، كان كل وقته مكرساً للشعر في تلك الفترة، يكتب القصيدة ويشطبها، يحذف ويضيف منها هنا وهناك، كل هذا وهو لم يخبر أحداً عن محاولاته هذه، ويحتفظ بدفتره في مكان خاص لكي لا يراه غيره، يأمل أنّ ما يكتبه ضرب من الشعر، ليس بالضرورة أن يمتثل لمعايير الشعر المتداولة. ويعود إلى قراءة ما كتبه في ديوانه هذا، ويصل إلى نتيجة مفادها أنّ هذه المحاولة ما هي إلا ضربٌ من هراء مراهق لم يخلق للشعر، ويعترف أنه قد استفاق من هذا الوهم الذي مكث في أسره، ومزق ديوانه، ومن ثم أحرقه، لكيلا يعود لمثل هذه المحاولة التي سماها بالعقيمة.
هذا الموقف ربما كان مفتاحاً لأن يقف بشجاعة أمام نفسه، ويمتلك قدرة محاكمتها مبكراً. يذكر المؤلف أنه بدأ تمارين الكتابة في المرحلة الثانوية، ولم تتشكل لغته إلا بمشقة بالغة، ولم تنضج وتصطبغ ببصمتها المميزة إلاّ بعد سنوات من التمارين المتواصلة المملة، وفي الأخير اغتنت لغة كتابته بمعجمها، وصارت تفرض عليه نوع الكلمات وأسلوب التعبير وبناء النص.
الكتابة في نظر المؤلف داء ودواء، فهو قبل الكتابة يقلق، وحين يفرغ منها يهدأ، وبعد النشر يسكن، وفي الأخير ينسى ما كتب لحظة انشغاله بما هو جديد، وإن كان لا يغادره بشكل نهائي؛ إذْ ربما تستجد رؤية موازية أو مضادة لرؤيته، فيعود إلى النص ثانية وباستمرار إضافة أو حذف أو كليهما، من غير أن يتعجل النشر، بل يتركه ريثما يتخلق على مراحل ويرتسم بصورة ترضيه، فهو لا يرى في كتابته نصّاً مقدساً كما يرى بعض الكتاب في كتاباتهم.
ويتحدث الرفاعي عن آلية تشكل الكتابة لدى الكاتب، فيرى أنّ “الكتابة ليست عملاً فردياً بحتاً، كل كتابة حقيقية تختزل سلسلة طويلة من قراءة كتب متنوعة، وكل ما تشبع به وتمثله وعي الكاتب، وترسب في لا وعيه، لا يتكون الكاتب الاّ بعد أن يقرأ كل شيئ وينسى معظم ما قرأ. الكتابة منجز مشترك تنصهر فيه عناصر مختلفة لأعمال طالعها الكاتب، فتولدت منها مادة مركبة تتكلم بلغته، وتعبر عن تمثله لها وتفاعلاته معها، ويتعرف عليها القارئ لنسخة من صورته الصوتية، في كل نص ترقد طبقات من النصوص، في كل نص تتكلم نصوص متنوعة تحيل إلى معجم الكاتب اللغوي ومرجعياته ورؤيته للعالم، وتنكشف فيه ثقافته وما أنتجته قراءاته وتفكيره وتأملاته”. ص 73
وحول موضوع الكتابة والوصاية، يرى الرفاعي أنّ الكتابة لا تكون صادقة الاّ بالتحرر من الوصايات، وأنه من أشد الوصايات ما تلزم به جماعة أفرادها بالرضوخ لمعتقداتها وقناعاتها وشعاراتها، فتقحم أقلامهم في صراعاتها ومعاركها.
الكتاب صادر عن منشورات تكوين والرافدين الكويت / بيروت / بغداد ط1 – 2023
[1] كاتب سوري.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.