إذا كان اختراع المطبعة يعتبر أهم خطوة نحو مرحلة انتقالية في التاريخ الأوروبي، فإن اختراع الكاميرا يعد من أهم الابتكارات التي غيرت مسار تاريخ الحضارة الإنسانية وربما كانت تأثيرها أكثر عمقا على الوضع البشري والجيوسياسي من غيرها. ترى المفكرة الأمريكية سوزان سونتاغ أن التصوير الفوتوغرافي يتجاوز الغاية الوظيفية من وجوده إلى معنى أسمى، إذ أنه أكثر من مجرد أداة للتوثيق أو التعبير، بل هو وسيلة تؤثر على فهمنا للأحداث واستيعابنا لما يحدث في هذا العالم المادي الذي يزخر بالمتغيرات الظرفية. في كتابها حول الفوتوغراف (On Photography) وكتاب الالتفات إلى ألم الآخرين (Regarding the Pain of Others)، تطرح سونتاغ أسئلة متنوعة حول الصورة ودورها في تشكيل الوعي وخلق جو من التعاطف مع معاناة الآخرين. تستخدم سونتاغ في كتابها حول الفوتوغرافيا تشبيه كهف أفلاطون لتفسر لنا كيف يشكل التصوير الفوتوغرافي إدراكنا للواقع، وغالبًا ما يحد من فهمنا للعالم بدلاً من توسيعه[1]. تقترح الكاتبة أن التصوير الفوتوغرافي يوفر فهمًا سطحيًا للواقع، مثل الظلال في كهف أفلاطون، ويخلق شعورًا بالمعرفة من خلال الصور. ومع ذلك، تتطلب المعرفة الحقيقية التشكيك في موضوعية الصور الفوتوغرافية والاعتراف بطبيعتها الذاتية. كما تقترح أن التصوير الفوتوغرافي يمكن أن يقدم وجهات نظر ورؤى جديدة، لكنه يتطلب تفاعلا نشطا معها، والتساؤل عن معناها وتحدي افتراضاتها.
الفوتوغرافيا والحرب
نعيش اليوم ظروفًا إنسانية حالكة في ظل تفشي الحروب والأزمات السياسية، وقد ساهم التصوير الفوتوغرافي في إظهار أهوال هذه الحروب وما تعجز بقية الوسائل التعبيرية عن إيصاله من معاناة وعنف ومأساة. تضع الصورة المُشاهد مباشرة أمام الحقيقة بكامل حدتها رغم صعوبة استساغتها، وتقدم له تفاصيل تفوق بلاغة اللغة بدرجات، وذلك بهدف إيقاظ الضمير الإنساني والدعوة إلى رفع الظروف المأساوية التي تولدها الحرب عن ضحاياها. إلا أن هذا الخطاب البصري يحمل تناقضًا واضحا في طياته؛ ذلك بأن كثرة المشاهد والصور التي تجسد العنف والدمار تخلق حالة من الجمود وركود المشاعر لدى المرء، وتقمع انفعالات النفس بحكم التعود على المشهد الذي يصبح بدوره عنصرا موضوعيا منزوعا من سياقه، فلا يعود يؤثر في المتلقي بالطريقة المتوقعة، بل قد يصبح مشهد الألم والعنف جزءا من روتين يومي لا يستدعى فيه التعاطف بقدر ما يتم استهلاكه كنمط بصري.
مع انتشار الأخبار والصور الجاهزة للاستهلاك، أصبح تدفق المعلومات المستمر يجر المشاهد إلى حالة من الإحباط، خاصة وأن الفوتوغرافيا لا تقدم حلولا عملية بل تكتفي بعرض الحروب والكوارث الطبيعية والإنسانية. يخلق التكرار تخديرا عاطفيا لدى المشاهد، ويعود هذا الأخير إلى متابعة حياته بشكل طبيعي وهو على يقين أنه عاجز أمام كتلة المآسي التي تسود في العالم بأسره، بينما تستمر معاناة اللاجئين والشعوب المضطهدة. هنا تظهر مفارقة شاسعة بين ما ينقله الإعلام من صور تثير انفعالات لحظية وآنية، وبين ما يحتفظ به الواقع المرئي للأشخاص الذين يقطنون في مناطق منكوبة من كوكبنا. ويُحَجِّمُ هذا التعاطي غير المتفاعِل مأساة الحرب، فيجعلها تبدو كأنها مجرد حادث اعتيادي لا يدعو للقلق أو مشهد متكرر من عمل سينمائي لا يمت للواقع بصلة يفقد المتلقي إزاءه حس الاستعجال والمسؤولية.
إن مصوري الحرب الذين سهروا على توثيق حروب تاريخية مثل حرب فيتنام وحرب العراق قد ساهموا في نقل معاناة المدنيين وكشف الثمن البشري الحقيقي للنزعة العسكرية للنواة الإمبريالية (Imperial Core)، إلا أن توثيقهم لجرائم الحرب بأدق تفاصيلها لم يكن له أثر يذكر في الواقع. حول عجز القانون الدولي أمام جبروت الإمبراطورية هؤلاء المصورين إلى شهود صامتين على مأساة الحروب، يوثقون انتهاكات حقوق الإنسان ودمار الشعوب، بينما يبقى النظام الدولي عاجزًا عن محاسبة القوى الكبرى التي تدير الصراعات وتستفيد منها. هكذا أصبحت صورهم مجرد أرشيف للمعاناة الإنسانية التي لا تجد من ينصفها، والتي يقف ضحاياها عاجزين عن تحقيق عدالة لا تعدو أن تكون مجرد شعار خال من أية معاني.
من خلال مقالاتها وكتبها، تظهر سوزان سونتاغ قناعة عميقة بكون الفوتوغرافيا علامة حضارية لفهم الدولة الأمريكية الحديثة، إذ أنها تعكس القوة والهيمنة التي تتمتع بها الدولة بمختلف مكوناتها. كما أن رواد الفوتوغرافيا في الولايات المتحدة الأمريكية ليسوا فقط مصورين يوثقون ما يرونه جديرا بالتوثيق، بل إن انتمائهم الجغرافي يخول لهم إعادة تشكيل الواقع كما يحلو لهم، وبالتالي السيطرة على السرديات السائدة فيما يخص السياسة والثقافة.
أخلاقيات الصورة والحقيقة
تطرح سونتاغ أيضًا تساؤلات حول أخلاقيات الفوتوغرافيا، الحق في الخصوصية، والدوافع وراء توثيق المعاناة الإنسانية. يرى البعض أن تصوير مشاهد القتل والدمار في سياق الحرب يسيء إلى الضحايا والمنكوبين وينتزع منهم حق الخصوصية وفرصة سرد الأحداث من منظورهم الخاص، كما يسلب منهم كرامتهم في لحظة ضعف. إن تصوير أشخاص في حالات من الألم والمعاناة يدفعنا إلى التسائل حول قضايا الاستغلال، خاصة إذا كانت للمصور أو المؤسسة الإعلامية أغراض ربحية أو هدف تحقيق الشهرة. تدفعنا هذه الإشكالية القيمية إلى التفكير المعمق في دور المصورين الصحفيين في اتخاذ قرارات أخلاقية حول ما يمكن التقاطه ونشره من صور، وعن الانتقاءية في النقل الموضوعي للأحداث من خلال عدسة الكاميرا. إن قرار تحويل صورة حرب إلى الأبيض والأسود على سبيل المثال يجب أن يقع على عاتق المصور وحده، وليس محرر جريدة أو منصة إعلامية، لأن هذا التحويل يجب أن يكون اختيارًا فنيًا متعمدًا لغرض واضح وهو أمر غير لائق في سياق حرب أو أزمة إنسانية. لا شك أن تعديلا كهذا قد يكون له هدف تقني يكمن في جعل الصور الجرافيكية أكثر قبولا للنشر، ومع ذلك فإن هذا القرار ينبغي له أن يكون نابعا من رؤية خاصة للمصور وليس كممارسة تحريرية عارضة أو اختيار سلطوي يتخذه فريق التحرير كون هذه الانتقائية غير محايدة، بل ترتبط بالمصالح السياسية والإعلامية، فتخلق سرديات منحازة أو خاطئة تضع المتلقي تحت تأثير روايات تفتقد الموضوعية والشفافية.
غالبا ما يكون للصور الفوتوغرافيا تأثير عاطفي قوي بالنسبة للمتلقي، إلا أن هذا التعاطف نادرا ما يثير نقاشا نقديا أو تحليليا حول محتوى الصورة وكيفية التعامل مع المشكل الذي تعالجه الصورة، إذ أن الاستجابة العاطفية الحادة لهذا المعطى البصري يجعل عملية التفكير المنطقي أكثر عسرا على المشاهد. لهذا فلطالما كانت الصور الفوتوغرافية جزءا من البروباغاندا التي تنتجها الدول والأنظمة نظرا للغموض الذي يشوب هذا الصنف التعبيري، فهو تارة أداة دعائية تخفي من الحقيقة بقدر ما تبدي، وتارة وسيلة لتوثيق الواقع الملموس بموضوعية ودون انحياز. كما ترى سونتاغ أن الإفراط في التركيز على إحياء ذكرى الماضي من خلال الصور قد يؤدي إلى نشوء “عبادة الحنين إلى الماضي”، وإعطاء الأولوية للذكريات على التجارب الحالية والتطلعات المستقبلية. وقد يؤدي هذا التركيز على الماضي إلى الشعور بالانفصال عن الأحداث الحالية وتناقص الشعور بأهمية معالجة القضايا المعاصرة.
أزمة الذات في عصر الفوتوغرافيا
تحدث كارل ماركس في كتابه “المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844” (Economic and Philosophic Manuscripts of 1844) عن مفهوم سماه بالاغتراب (alienation)، وهو حالة من الانفصال تعزل العامل عن نتاج عمله وشعور غالبا ما يتواجد ضمن سياق المنظوم الاقتصادية الرأسمالية. ليس الاغتراب الماركسي بالظاهرة المرتبطة حصرا بعلاقة العامل بما ينتجه، بل يمتد ليشمل علاقته بنفسه وبأقرانه وبالمجتمع ككل. ففي سياق العمل، يصبح العامل منعزلا تماما عن عملية الإنتاج، وعن المنتوج الذي يتمخض عن هاته العملية فيصبح هذا الأخير ملكا للعالم الخارجي وأصحاب الرساميل الذين يضعون سعرا محددا لوقت الإنسان ومجهوده. هكذا يصبح العمل مصدرا للمعاناة والاستغلال بدلا من أن يكون أداة لتحقيق الذات.
أما في السياق الاجتماعي، فإن وتيرة العمل التي تتطلبها استمرارية النظام الاقتصادي تقلص مساحة التفاعلات الاجتماعية الحقيقية وتستبدلها بأخرى منزوعة المعنى، تصب في مصلحة العمل الإنتاجي والترويج الإعلاني. بالتالي، يتعرض الفرد لاغتراب اجتماعي عبر فقدان العلاقات الإنسانية أو ندرتها. يؤدي هذا الاغتراب إلى الشعور المزمن بالعزلة والوحدة، مما يساهم في تكريس الصراعات الطبقية والانقسامات الأيديولوجية التي تخلق بدورها فوارق شاسعة بين مختلف مكونات المجتمع الواحد. في ظل ظاهرة الاغتراب الماركسي، يعيش الفرد أزمة تعيقه عن تحقيق ذاته واستغلال إمكانياته بشكل كامل، وتؤثر هذه الأزمة بدورها في سيرورة الحياة الاجتماعية وتخلق حالة من الانفصال بين الأفراد والمجتمعات.
في عالم أصبحت فيه الفردانية قاعدة لا استثناء لها، تكاد المجتمعات الرأسمالية تفقد هويتها الجماعية، خاصة مع انتشار ظاهرة تسليع الثقافة، حيث تتحول الرموز الثقافية والقيم الاجتماعية إلى منتجات تستهلك وتباع ضمن منظومة اقتصادية ربحية وبراغماتية. يعيد هذا التحول تشكيل هوية الأفراد والجماعات بناء على الاستهلاك المادي، وذلك باعتباره أولوية ومؤشرا تنمويا، بينما تستمر القيم الثقافية بالتآكل والتلاشي. يؤدي فقدان الهوية الجماعية إلى ما يسمى ب “التمركز حول الذات”، إذ يصبح الفرد منعزلا عن الجماعة ويتبنى نظرة براغماتية تدفعه للسعي وراء مصالحه على حساب المصلحة العامة للمجتمع الذي ينتمي إليه. يتسبب هذا التمركز حول الذات في تفكيك أواصر التضامن والتآزر الاجتماعي، وكذا الهياكل التقليدية التي كانت تشكل أساسا للهوية الجماعية.
تجد الفردانية المتطرفة بيئة مناسبة لها في أوساط العمل المؤسسية حيث يحظى المجهود الفردي بفائض من الثناء والمكافأة، بينما يتميز العمل المشترك بالتعقيد والتصادمات التي قد يسببها اختلاف الآراء ووجهات النظر. يجد الفرد أمامه فرصة ذهبية لكي يثبت لرؤساء العمل والزملاء قدرته واستحقاقه لأسمى المناصب، وقد يتطلب منه الأمر أن يُغَلِّبَ مصلحته الشخصية على المصلحة العامة، وإن كان في ذلك ضرر للآخرين أو إهانة لهم. إن نشأة مجتمع الحاجات قد خلقت علاقة وطيدة بين الذات والمهنة، حتى أن المهنة باتت شأنا اجتماعيا عوض كونها شأنا فرديا؛ فهي تحدد التصور الذي يحمله الآخر عن الفرد، والطبقة السوسيواقتصادية التي يدرجه المجتمع فيها، بناء على تقسيم العمل التاريخي بين العمل اليدوي-العضلي والعمل الفكري. فالعمل الفكري غالبا ما يرتبط بالطبقات الاجتماعية الأعلى، بينما ينظر إلى العمل اليدوي على أنه أقل مكانة. في هذا السياق، يصبح الفرد الذي يحقق نجاحات مهنية في المجال فكري أو الإداري أكثر قيمة اجتماعيا مقارنة بمن يعمل يدويا، مما يرسخ الفوارق الطبقية ويعزز من الاغتراب بين الطبقات المختلفة. ما يحدث أحيانا هو أن هذه الفجوات والفوارق تخلق نقصا في بعض المجالات التي هي في حاجة ماسة إلى عمالتها، بينما تصبح المجالات الفكرية أو الإدارية مكتظة ونادرة. يصبح اختيار المهنة جزءا من اختيار هوية للذات، في حين يصبح كل من الشغف والإرادة في خبر كان.
بات الإنسان المعاصر فريسة سهلة لشتى مظاهر الاغتراب عن النفس وعن الآخر، خاصة وقد حولته الرأسمالية إلى ترس في آلة العمل الإنتاجي التي لا تتوقف. رغم تمتعه باستقلالية ظاهرية في عمله، فإنه يعيش في ظل متطلبات متزايدة للكفاءة والإنتاج، ويتم توظيفه كأداة لأجل رفع الإنتاجية وزيادة الأرباح في الشركات والمؤسسات الربحية. هذا الوضع يعمق الشعور بالاغتراب، حيث يفقد الفرد القدرة على السيطرة على جهوده ووقته مما يساهم في تفاقم العزلة والانفصال عن ذاته ومجتمعه.
في عصر الفوتوغرافيا، يأخذ مفهوم الاغتراب الماركسي أبعادًا جديدة، حيث أصبح الأفراد أكثر انخراطًا في إعادة إنتاج ذواتهم وصورهم بشكل مثالي من أجل عرضها على منصات التواصل الاجتماعي. هذا التوجه يجعل الأفراد يميلون إلى خلق “شخصيات” أو “هويات” رقمية تتوافق مع معايير معينة من الجمال والنجاح، مما يؤدي إلى انفصالهم عن هويتهم الحقيقية وبالتالي اغترابهم عن ذواتهم. حينها تصبح الفوتوغرافيا مجرد أداة تسليع للهوية الشخصية والمعاناة، مما يعزز شعورًا جديدًا بالاغتراب؛ فالأفراد، سواء كانوا عمّالاً أو مستخدمين عاديين للتكنولوجيا، يصبحون غرباء عن تجاربهم وعن أنفسهم أثناء السعي لتحقيق “صورة مثالية” تمليها قوى السوق ومتطلباتها ومعايير المجتمع الاستهلاكي.
يعتبر الوعي البروليتاري خطوة أساسية نحو التحرر من الاغتراب، إذ أن وعي العمال بالاستغلال الذي يتعرضون له من شأنه أن يمكنهم من تنظيم أنفسهم والنضال بشكل جماعي ضد القوى الرأسمالية التي تستنزف طاقتهم ومجهوداتهم وتشتريها بثمن بخس. قد تساهم الفوتوغرافيا في إظهار معاناة الطبقة الكادحة ووضعها على واجهة الإعلام، إلا أن الفوتوغرافيا حين تجرد هذه المعاناة من سياقها وأسبابها المباشرة فقد يكون لها تأثير عكسي تماما. هذا التبسيط يمكن أن يُفقد الصورة عمقها ويجعلها مجرد صورة عابرة، بدلاً من أن تكون أداة فعالة للتوعية والنضال. في مثل هذه الحالات، تتحول الفوتوغرافيا إلى وسيلة للتشويق أو الاستهلاك البصري، مما يُعزز من حالة الاغتراب ويُضعف من قوة الحركة العمالية. لذا، من الضروري أن تُستخدم الفوتوغرافيا كوسيلة لرفع الوعي وتعزيز الفهم العميق للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها الطبقة العاملة، بدلاً من أن تكون مجرد أداة لتسجيل المعاناة دون تقديم سياقها وتفسيرها بشكل صحيح.
[1] Sontag, S. (2008). On Photography. Penguin Classics.