يكره تلاميذ المدارس في مصر مادة التاريخ، ويعتبرونها مادة ثقيلة الدم، مدرسها ثقيل الظل، يحفظون منها التواريخ والأحداث لكي يدونوها نهاية العام في كراسة الإجابة، دون أن تدرك وزارة التعليم أنها بهذه المناهج الشنيعة إنما تدمر جانبا مهما لبناء الشخصية الوطنية والولاء للوطن، هذا ما أراه مع أبنائي وأبناء أخوتي وأقاربي، لذا بات من المُلح أن ننظر إلى الأمر نظرة عميقة ونفحصه ونحلله، لماذا يكره هؤلاء التاريخ؟
إن أول شيء يقابلنا هو طريقة وضع مناهج التاريخ، فهذه المناهج كانت تصلح إلى أواخر القرن العشرين إلى حد ما، لكن مع عصر الإنترنت والعالم الرقمي، لن تكون هذه المناهج سوى التخلف في حد ذاته لدى الأجيال الجديدة، فهم يحتقرون كتاب التاريخ، لأن واضعه يفكر بطريقة دفنت مع مبتكريها منذ سنوات طويلة، فالتاريخ السياسي ليس إلا جانبا من التاريخ، فالأطفال في عصر الإنترنت والناشئة في مرحلتي الاعدادية والثانوية، يفكرون ويطرحون أسئلة:
– كيف نشأت الحضارة على أرض مصر؟
– كيف تطورت المجتمعات وظهرت الدولة؟
– تكنولوجيا الأشياء والأدوات كيف نمت وتطورت؟
وغيرها من الأسئلة التي يبحثون عن إجابات لها، ثم إن الصورة والفيلم التسجيلي هما أداتان مكملتان لمادة التاريخ، فالسرد الذي عليه كتب التاريخ اليوم، وهو سرد كتبه شخص عادة ما يفتقد روح اللغة العربية، فهو يسرد حقائق جافة إذا قرأتها ستكره من كتبها، بينما التاريخ قصة تروى بصورة شيقة وممتعة تجعل من يقرأه يحب التاريخ بل يعشقه، وفي هذا الصدد استحضر كتابين جيدين الأول عن حضارة مصر القديمة للراحل العظيم الدكتور عبد العزيز صالح والثاني عن التاريخ اليوناني الروماني لمصر للدكتور عبد العزيز صالح، وإذا كنت تروي تاريخ مصر فإن قصة اللغة المصرية القديمة بعلامتها تعد مدخلا مشوقا لتلاميذ المرحلة الابتدائية لكي يعرفوا منه حضارة مصر القديمة، كما أن ذلك يرتبط بالرحلة المدرسية لأماكن الزمن التاريخي الذي يدرس، إذ إن هذا الترابط بين المكان والزمان يثبت الحدث في ذهنية المتلقي أكثر من أن نرغمه على الحفظ، وإذا جعلنا ذلك مرتبطا بقراءة المزيد في مكتبة المدرسة ليكون البحث المركز في خمس صفحات أو ملخص لكتاب تاريخي يقرأه التلميذ، هو الامتحان الشهري الحقيقي، سيولد ذلك لدينا أجيالا تقرأ تاريخ مصر، هذا يقتضي أن يقدم المدرس أفلاما وثائقية في الفصل لتلاميذه، ثم يناقشهم في موضوع الفيلم، فمثلا أنتجت مكتبة الإسكندرية فيلما في 26 دقيقة يحكي حياة جمال عبد الناصر، يركز فيها حقبة من تاريخ مصر، ثم علي الأستاذ مناقشة ذلك مع تلاميذه، هذا يجعل من التاريخ متواكبا مع ثقافة الصورة التي هي اليوم أحد أهم مصادر الثقافة لدى الأجيال الجديدة.
كما أن طلب الأستاذ من تلاميذه البحث علي شبكة الإنترنت عن معلومات تاريخية يجعلهم في سباق لكي يحصلوا على معلومات حول الزمن أو المكان، هذا ما دفع مكتبة الإسكندرية لتوفر للأجيال الجديدة موقعين علي شبكة الانترنت أحدهما هو مصر الخالدة والثاني هو ذاكرة مصر المعاصرة، لذا فإن إنشاء المزيد من هذه المواقع الوطنية أمر ضروري، وإلا ستذهب الأجيال الجديدة للبحث عن تاريخنا الوطني إلى مواقع أخرى.
كما أن التاريخ المرتبط بالمكان الذي يعيش فيه الطالب، فضلا عن معالم هذا المكان يجب أن يكون جزءا من اهتمام الطالب، من هنا فإنه يجب ترك مساحة لمدرس التاريخ في حدود 5 حصص سنويا، لتاريخ المنطقة والمدينة والمحافظة التي بها المدرسة، لأن مثل هذه المساحة ستعزز الولاء لدى التلميذ للوطن، بل وستعطي المدرس دور الفاعل في المنهج التاريخي، وليس فقط دور الملقن.
من هنا فإن امتحانات التاريخ بوضعها الراهن إنما هي تولد البلادة وفقدان الشعور بالاعتزاز الوطني، فالامتحان يجب أن يبنى على صح وخطأ، في ثلثه الأول وفي ثلثه الثاني حول موضوع تاريخي يطرح فيه التلميذ رؤيته ليس من خلال كتاب مدرسي، بل من خلال الرحلات والقراءات المتنوعة والبحث، لذا فمهارة الأستاذ تأتي في تقييم الطالب الذي يستوعب مناهج التاريخ ويعطي مخرجات مختلفة عن أقرانه تعبر عن قدرته على الاستيعاب.
هذا كله أيضا يقتضي تغيير جذري في اعداد مدرسي التاريخ، لأن الوضع الراهن في أقسام التاريخ في كليات الآداب والتربية، أبعد ما يكون عن إعداد مؤرخ أو مدرس تاريخ جيد، فهناك غائبة عن هذه الأقسام مثل فلسفة التاريخ وتاريخ التاريخ والأنثروبولوجي، فما زالت هذه الأقسام تركز إلى الآن على العصور التاريخية في سرد مقيت، هذا ما سبب تراجعا نسبيا للمدرسة التاريخية المصرية، وهو ما يقتضي إعادة النظر في وضع وإنتاج الأبحاث التاريخية في مصر.