التنويريمكتبة التنويري

سيرة معرفيَّة يكتبها صوت النقد

كتاب مسرّات القراءة ومخاض الكتابة

كه يلان محمد[1]

القراءة فعل مؤسس في رسم معالم وجود الفرد من خلاله يمكن تحقيق المعرفة وبناء وعي الإنسان وتحفيزه على التفكير والكتابة وإنتاج المعرفة بدوره، لكن لا تنحصر المعرفة بالحياة في القراءة، وهذا ما يؤكده عبدالجبار الرفاعي في سيرته بعنوان “مسرّات القراءة ومخاض الكتابة.

‏ الغرض من العودة إلى البدايات في السيرة المعرفية هو الكشف عن خط التطور الفكري، والنضوج في الرؤية، والإلمام بأدوات النقد، هذا إضافة إلى الاعتراف بأنّ التجربة لم تكن بعيدة من الانسداد الفكري غير أنّ الاستمرارية بنفس بروميثيوسي هو ما يرفع الغشاوة عن العقل ويزيد من الحس الاستكشافي.

إنّ الانقلاب على ما هو بمنزلة المسلمات والوثوقيات في التشكيلة العقلية والعقائدية قوام للرحلة الفكرية. الأمر الذي تراه بوضوح في سيرة عبدالجبار الرفاعي إذ يتناول في كتابه الموسوم بـ “مسرّات القراءة ومخاض الكتابة” مراحل مفصلية من حياة القراءة وتوسعِ الاهتمامات المعرفية، ويشار إلى أنّ مفردة “فصل من سيرة الكاتب” ترافق العنوان الأساسي وما يفهم من منطوقها أنّ ما يضمه المؤلف ليس كل ما عاشه واختبره على امتداد حياته. وبالتالي لا يزال الأفق مفتوحا للمعاينة والتنقيب عن المعطيات الجديدة قبل أن يستعيد محطات القراءة المبكرة.

مقالات ذات صلة

عصامية المعرفة

يشير الرفاعي إلى أنّ الكتاب قد أصبح حاضرا في يومياته ولا يزاحم القراءة أي شيء آخر في برنامجه. لم تمنحه القراءة إجازة ليوم واحد، وما أنفقه من السنوات برفقة الكتب يفوق ما أمضاه بصحبة البشر، وهو يقول إنّه لو كان له الاختيار بين أن يعيش مع البشر أو الكتب لأقام بجوار الكتب، لأنّه يستمد المعنى مما يقرأه.

لا مبالغة في القول إنّ الكتابة محاكاة للقراءة غير أنّ هذه الرغبة للمحاكاة تنشأ على إيقاع القراءات الجادة. وتكمل الكتابة دور القراءة في الخروج من السياقات المقفلة. ومن المعلوم أنّ الكتابة يرافقها النشاط الفكري، وما يكسب الكتابة قيمة برأي الرفاعي هو ما يستتبعها من ضيق الفضاء بالأجوبة وتوالدِ مزيد من الأسئلة. وهذا ما يجعل الذهن مسكونا بالسير في الطريق ولا ينساق وراء غواية الوقوف بالمحطات. هنا يتداعى في الذاكرة ما قاله نيتشه: إذا رغبت في تحصيل راحة البال والسعادة فعليك بالإيمان، أما إذا رغبت في أن تكون من مريدي الحقيقة عند ذاك عليك بالبحث.

ما يرويه الرفاعي في بداية سيرته قد يخالف توقعات المتلقي، إذ يسود الاعتقاد بأنّ الشغف بالقراءة يبدأ بتأثير البيئة التي ينشأ فيها المرء حيث يقع النظر على العناوين، ويتعرف على أسماء فكرية وأدبية على غرار ما حظي به سارتر وهو يقول في “الكلمات”: “بدأت حياتي كما سوف أنهيها بلا شك بين الكتب، ففي حجرة مكتب جدي كانت الكتب في كل مكان”. كذلك كانت الحال بالنسبة إلى الفيلسوف البلغاري تودوروف فقد كان والداه يمارسان مهنة أمانة المكتبة لذلك توفرت الكتب في البيت بأعداد كثيرة الأمر الذي حدا به لتعلم القراءة بسرعة. لكن المكتبة لم تكن جزءا من مكونات المكان الذي قد عاش فيه صاحب “الدين والظمأ الأنطولوجي” سنوات الطفولة، ما عدا الكتب المدرسية لم ير كتابا آخر عندما كان تلميذا بالمرحلة الابتدائية. واقتصرت علاقته بالقراءة على كراسات يجلبها أخوه الكبير معه من العتبات المقدسة.

يتوسع خيال الطفل مع قراءة القصص التي يتابعها “المياسة والمقداد”، و”السندباد البحري”، و”عنترة بن شداد”، ومع مضي الوقت يكون الكتاب حاميا نفسية المبتدئ من الكآبة والوحشة، إذن كانت الكراسات والأدعية الدينية نواة لمكتبة الرفاعي، وبذلك يثور على واقعه دون الجلبة، وتتأخر مرحلة المطالعات الجادة إلى أنْ ينتقل إلى الشطرة، وهناك يؤرخ لولادته ثقافيا، حيث يكتسب فيها شيئا من تقاليد المدن. يكتشف الرفاعي مكتبة لبيع الجرائد والكتب في البيئة الجديدة ولا يشغله سوى البحث عن الكتب التي تشفي غليله المعرفي، ولا تستهويه المجلات الفنية على منوال أصدقائه المفتونين بمتابعة أخبار النجوم. وقد لاحظ بأنّ أقرانه الذين توقف اهتمامهم في حلقة الأسبوعيات الفنية فشِل أغلبهم في إدراك عالم الكتب. ومن المؤلفات التي تأخذ بمجامع قلب الفتى في مرحلة البدايات هي الجزء الأول من كتاب “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” لعلي الوردي و”معالم في الطريق” لسيد قطب. كما ينجذب إلى مجلة “العربي” الكويتية بمحتوياتها الثقافية والفكرية المتنوعة.

 لا يكتسب المرء صفة القارئ النوعي دون أن تخيّب ظنه عدد من العناوين التي قد أعجبته لأول وهلة، ومن ثّم يكتشف بأنها كلفته وقتا ثمينا وبالمقابل لم يظفرْ بمعلومة جديدة. وقد استغرق الأمر ردحا من الزمن إلى أن غادر الرفاعي حالة الولع الفوضوي بالكتب ليصبح انتقائيا في اختياراته. ويستقي من عراكه المعرفي مبدأ مفاده بأنّ الإنسان عليه أن ينتقي الكتاب الذي هو منبع أساسي في بناء وعيه ومهارته كما يحرص على انتقاء أحسن الأشياء من كل شيء. وينصح الروائي الياباني هاوركي موراكامي الشباب بقراءة العديد من القصص والتشرب بالكتابات الرائعة وبالكتابات الرديئة أيضا. والطريف في مروية الرفاعي هو ما يقوله عن نفر من رجال الدين الذين لا يعرفون الكتابة ويتحدثون بثقة عن كل شيء يعرفونه ولا يعرفونه، وما إن تتكدس الأموال في رصيدهم حتى يتم تجنيد الطلاب المحتاجين لقوت يومهم لتأليف الكتب من خامة كلامهم وخطبهم.

ربما هذا الواقع التراجيكوميدي قد أقنع الرفاعي بأن ما يفقر العقل ويشيع الجهل من الكتب أكثر مما يحرك الوعي ويفعِل الإدراك العقلي. يلفت الرفاعي إلى موجة الكتب الرائجة عن التنمية البشرية وعلم الطاقة النفسية مشيرا إلى ما يخلفه كل ذلك من تبلد العقل وتضخم الأوهام. بينما الهدف من القراءة يجب أن يكون إثارة الأسئلة في ذهن المتلقي وانتشال العقل من مستنقع المألوف.

الكتب والوعي

لا شك أن من تذوق القراءة والبحث عن الكتب وتحمل عناء تكوين المكتبة يدرك بأنّ التواصل مع عالم الكتب يتخذ طابعا وجدانيا. يستعيد الرفاعي في سياق سرده النكبة التي حلت بكتبه مرة في النجف وأخرى في الكويت، مشيرا إلى القصص التي وردت في كتب التراث عن مصير المكتبات بعد رحيل أصحابها، وقد لا يكترث الورثة بصيانة الكنز الثقافي مستهينين بالقيمة التاريخية للمصادر المعرفية نتيجة تفاوت الاهتمام بين الأجيال.

 والأسوأ على هذا الصعيد هو استهداف الغزاة للمكتبات مثلما حصل في بغداد، إذ أباد المغول الوجه الثقافي للمدينة، وتتكرر المحرقة الفكرية في غرناطة إذ أوعز الكاردينال سيسنيروس بحرق مكتبة “الزهراء”. والكلام عن مصير الكتب يحلينا إلى أشخاص أتلفوا كتبهم، فقد أشعل أبو حيان التوحيدي النار في مؤلفاته احتجاجا على الظروف البائسة ومزق سفيان الثوري صفحات كتبه، وأقدم داود بن نصير تلميذ أبي حنيفة على إبادة كتبه وإغراقها في الفرات وامتناعه عن إقامة المجالس العلمية والمشاركة في مجالس غيره والإفادة بإجابة عن أسئلة توجه إليه غضبا من تردي الواقع الاجتماعي والثقافي حسب رواية الباحثة التونسية نسرين بوزازي.

كتابة السيرة المعرفية ليست مجرد تحبير للمساحات البيضاء بتواريخ جامدة أو استعادة للمحطات الحيوية من الحياة، بل يتشابك السرد السيري مع الصوت النقدي والملمح التأملي، ويقابل المتكلم بين الأزمنة التي يسترجعها وما يعاينه في لحظة الكتابة من التحولات التي تلقي بظلالها على العقول وطريقة العيش. على الرغم من أن نشأته كانت ذات خلفية محافظة لكن ذلك لم يمنع الرفاعي من ارتياد حقول ثقافية متنوعة، واللافت في هذا الإطار هو مرونته العقلية في فهم الوقائع وإيمانه بتعددية مصادر المعرفة، وتفوق الطاقات الجديدة في التمكن من الأخذ بأعنّة الآليات والإحداثيات التي تمثل روح الحضارة الرقمية.

 تخلو لهجة الكاتب من استنكار حظوة الوسائط الرقمية وهيمنتها على المشهد والأهم من ذلك هو اعترافه الصريح بأنّ القراءة والكتابة لا تكسبان العقل وعيا فائقا ولا تبصّرا بالضرورة إذ علمته تجارب الحياة “أنّ بعض الأشخاص، ممن لا يعيشون بين أوراق الكتب يعرفون الإنسان جيدا من خلال تفاعلهم اليومي مع الواقع” ربما أكثر مما يعلمه معشر القراء والكتاب. إذن يعلن الرفاعي بأنّ الواقع في مكان آخر لا في الكتب، ويلتقي على هذا المستوى بالفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري الذي كان يبحث عن حقيقة العالم بين دفات الكتب فإذا به يكتشف أنّ حقيقة العالم تكمن في العالم على حد تعبيره.

يتناول الرفاعي في مفصل آخر من سيرته تجربة الكتابة ومحاولته لنظم الشعر محاكيا في ذلك قصائد النثر التي كان يقرأها آنذاك، إذ يتفرغ من كتابة ديوان شعري في غضون عشرة أيام. وما لبث أن تأكد الفتى بأنه ليس كائنا شعريا، ويتناول جانبا من كواليس كتاباته وهو يعيد غربلة وتمحيص النص ويحرره من الفائض اللفظي، لأنّ التمرس يعني الاقتصاد في الكلمات والتكثيف في التعبير. ويتعامل المؤلف مع كتبه على اعتبار أنها نسخ مسودة باستمرار يتم تنقيحها في طبعات لاحقة. ويأبى الرفاعي الإقامة في برج الأيديولوجيا ولا يتوسم من الكاتب القيام بأعمال بطولية لأنّ قناعاته الأساسية قد تتغير بعد أن تصطدم بمنطق الواقع. يمضي الرفاعي في رفض الأيديولوجيا معتبرا إياها مفسدة للكتابة. ويعلن في الوقت نفسه بأن خراب الأوطان نتيجة كارثية لأيديولوجيات منفصلة عن الواقع. أما عن تعلم الكتابة فيعتقد بأنّه “كما أن الاقتصاد سياسة مكثفة كذلك الكتابة مطالعة مكثفة”، ولا ينكر دور القراءة في التقدم، فأحد مفاتيح النهضة اليابانية تجده في كثافة القراءة وثقافة مطاردة المعلومة. فوزن الإنسان في الثقافة اليابانية بعدد ما قرأ من الكتب لا بعدد الكيلوغرامات التي يمتلكها.

 ما يشد الانتباه في مسيرة الرفاعي ليس افتتانه بالكتب لأنّ هناك من يشاركه هذا الوتر، ولا إرادته المستميتة في إعادة بناء مكتبته، لأنّ ذلك قدر معظم القراء. إنما تواضعه وروحيته المسالمة البعيدة عن الاستعراض فهذه فضيلة نادرة في كل العصور. ما قاله سارتر بأنّه لا يولد قارئا إنما تهفو النفس إلى عالم الكتب إثر الإدراك بأنّ الواقع محدود ينطبق على مسلك عبدالجبار الرفاعي.


 [1] كاتب عراقي


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة