تعتبر مجموعة النصوص القصصية “سيلفي “للقاص المغربي المصطفى كليتي إضافة نوعية لمجاميعه القصصية؛ سواء القصيرة، أو القصيرة جدا، حيث يتجلى مسار التنويع والتجديد القصصي لدى القاص الذي يُناِوب بين القص القصير والموجز لتأسيس إواليات نمط سردي موسوم بالغنى والتعدد والتنوع مما يؤكد قدرته على إغناء تجربته القصصية في نوعين سرديين ( القص القصير، والقصير جدا )، وما يستلزمه ذلك من دربة ومراس إبداعيين يزاوج فيهما بين التكثيف والاقتضاب في القص الموجز، ودقة الصياغة، وحبكة الحكي في القصة القصيرة .
ففي أضمومة “سيلفي “،وهي نصوص قصصية، يمكن إدراجها ضمن نوع القصة القصيرة يعمد القاص إلى تجريب أشكال سردية تمزج بين الرصد، والتصوير، والاقتباس، والتضمين المنفتح على مواضيع يتآلف فيها الديني بالتراثي بالاجتماعي بالفني بالمعرفي بالفكري بالتاريخي لصياغة قصص ترسم مشهديات وصور تنزاح، أحيانا، عن المألوف والنمطي بما تنسجه من قصص بميولات ونزعات تنحو نحو آفاق تنضح بالغريب، وتعج بالعجيب مما يستدعي مقاربة مبنية على نهج الاستقراء والاستبئار لفك بعض شفراتها، واختراق صفاقة استيهاماتها . ولعل ما يميز نصوص المجموعة هو طغيان الواقع وبروزه في استقاء الأحداث، واستلهام الوقائع وصياغتها سرديا لتغدو متعددة السياقات، متنوعة الأطوار، متعددة الأشكال سواء على مستوى الأحداث التي تتوزع بين فضاءات مختلفة مثل ( الحان ) في قصة “ومن الحب ما قتل “، حيث تتعدد أسماء نجمته المعروفة ب ( عبلة ) بين : “زهرة ونجاة أو نادية أو شرين حسب المواقف والحالات . “ص 29 ، والتي تذعن لتعليمات مدير ( البار) إن أرادت المحافظة على مكانتها: “أتجاذب مع الزبائن النكت والهزل، أغريهم بالإقبال على مزيد من الشرب وأسقي هذا وذاك وأهمس بلطائف الكلام ويدخل ذلك في المهمة التي أتكفل بها، حسب تعليمات مدير البار الصارمة وإلا سأطرد ولا يسمح لي أن أضع رجلي هنا ثانية … “ص 27، ورغم أنها نجمة البار فإن مهمتها مهددة بالفقدان إن بدا منها تهاون، أو تقصير في جلب الزبائن وإرضائهم بشتى الطرق والوسائل: “لقد أصبحت نجمة الحان وصوري تزين جوانبه … “ص 27، وما حتم عليها التشبث بعملها ما تعيشه أسرتها من ظروف صعبة، وما يتطلبه ذلك من مصاريف لإعالة والدها المتقدم في السن، ووالدتها العليلة، وشقيقها المختفي حسب ما صرحت به: “أرقص وأغني والحان مورد رزقي، بواسطته أدبر تكاليف عيش قاسية لأب زحفت عليه عوائل الشيخوخة القاسية وهو مجرد شاوش سابق بالبلدية وأم هدتها سلسلة أمراض، وأخ خرج ذات صبيحة ولم يعد . “ص 27، وقد عاشت الملقبة ( عبلة )، واسمها الحقيقي ( حادة بنت الحداد )، ظروفا متقلبة حيث تزوجت من أشخاص مختلفين ينحدرون من وسط يعج بفساد قيمي وأخلاقي كالجريمة: “قبل أن تربطني علاقة الزواج ب ( المعطي بوراس ) المدعى عنترة ولست أدري كيف دبر وثيقة طلاقي من عيروض … كنت متزوجة أول الأمر لمدة طويلة ب ( قدور ولد لعرج ) الملقب وسط الدرب ب ( عيروض المسخوط )… “ ص 29، فقبل أن تشتغل بالحان عملت خادمة بيوت في ظروف تعرضت فيها لتحرش متواصل من قبل أفراد العائلات التي اشتغلت عندها: مراهقون، وشيوخ كما تروي ذلك: “اشتغلت خادمة بيوت ولما بدأ صدري يهتز وينهد، بدأت الغيرة تأكل قلوب النساء وأزواجهن يغسلونني بنظرات اشتهاء ولم أسلم حتى من فتيان العائلات الذين أدركتهم نعرة المراهقة، فكانوا يحتكون بي قصدا، ويقومون بغارات ليلية لإطفاء حريق، رغبتهم المحمومة اشتغلت عند ( المعلمة البتول ) زمنا فضبطت زوجها الشيخ الذي لا يكاد يتحرك إلا استنادا على عكازه قد فاتته صلاة الصبح وهو يلهث متشمما مؤخرتي وأنا غارقة في عز النوم، فطردتني من بيتها شر طردة . “ ص31، تحرش استمر حتى خارج بيوت الأسر المُشَغِّلة داخل المحيط الذي تتحرك فيه من طرف عيروض والذي كان يحظى بسلطة رهيبة وسط فئات تؤثث فضاء المحيط من بائعي السجائر بالتقسيط والحشيش، والخمور المهربة: “وهو المتحكم في دائرة كبرى داخل المدينة لا أحد يجرؤ لدخول ( سكتور عيروض ) سواء كان بائع سجائر بالتقسيط أو حشيش أو خمورا مهربة … “ص31، فقد كان، أي عيروض، يلاحقها إلى أن تمكن منها: “ـ جاء ذلك اليوم المشؤوم وأنا عائدة إلى منزلنا، إذ به يتربص بي مهاجما من الخلف واضعا خنجره على جبيني … لم أستطع أن أستغيث أو أطلب النجدة … شلح ثيابي قطعة قطعة مزقها إربا إربا … فض بكارتي، اغتصبني بشراسة … “ ص 32، فما عاشته حادة بنت الحداد / عبلة من حياة عاصفة ومتقلبة كخادمة بيوت، وراقصة ومغنية بالحان الذي كان مسرحا لنزاعات ومعارك ضارية قد تصل حد القتل كما حدث مع عنترة الذي ذبح عيروض: “فنحره بزجاجة ( روج ) كسرها على حاشية ( الكونطوار) وذبح بها عيروض حتى طاش وبقبقب دمه على الأرض وشاح كذبيحة يوم العيد … “ص 30، مشهد مأساوي ومرعب شهدت فصوله متذكرة علاقتها بالرجلين، عنترة وعيروض: “ـ تذوقت عسل الحب مع عنترة … “ص 34، “كان عيروض في الحقيقة ضحيتنا، كان كريما معي … وانقطعت عن زيارته مرغمة وعاش في السجن ردحا من الزمن … “ص35، بموت عيروض على يد عنترة الذي زج به في السجن تنتهي فصول علاقة جمعتها بهما، وتتذكر أيضا علاقتها بشهرزاد واصطيادهما لفئة معينة من الزبائن بتوجيه من عيروض: “ـ كنت أنا وصديقتي شهرزاد نصطاد أصحاب السيارات الفارهة، عيروض كان يوصينا بأن لا نقرب سيارات الموظفين وسيارات الأجرة والغلابة من الناس، علينا أن نركز على الأثرياء من سكان الأحياء الراقية والفيلات الفخمة لنسرقهم، فهم يسرقون مال الشعب فحلال سرقتهم .. “ص34، وتضمنت، أغلب نصوص المجموعة، مشاهد وصور مستقاة من واقع يعج بشخصيات تقترف من أنواع الرذائل ما قد يصل حد القتل والإجرام دون أي رادع قيمي أو أخلاقي كعنترة وعيروض، وما أفرزه من ضحايا مثل حادة / عبلة في قصة “ومن الحب ما قتل “ويزة، وإن كانت تختلف بشكل نسبي ونوعي عن حادة / عبلة، في قصة “تقشير الأحلام “، وما كانت تحظي به من مكانة داخل الدوار لتعدد وحساسية مهامها التي تجمع بين قابلة ( مُوَلّدة تقليدية ومفسرة أحلام، وخطابة): “بحضور( يزة ) قابلة الدوار ومفسرة الأحلام، والخطابة التي تتوسط في تزويج العذارى … “ص 86، وخادم الضريح مولاي الطاهر الذي يستغل جهل الوافدات على الضريح لاغتصابهن كما حدث للزاهية التي تخلصت من اعتدائه بعد مقاومته بكل ما تملك من قوة .
هذه نماذج تبرز مرجعية الواقع، وما يعج به من مظاهر، واختلالات… لتشكيل نصوص المجموعة الزاخرة بتيمات متنوعة، وأدوات وعناصر سردية ساهمت في إثراء متن المدونة القصصية لتغدو أكثر رحابة وانفتاحا وتشعبا .
وارتباطا بوقائع الواقع، و في طرائق صياغتها وتشكيلها، عبر شخوص يحملون هموما يومية متعددة الحمولات الحسية والذهنية كما في نص “منديل أبيض “حيث يصدم الابن بخبر وفاة والدته: “انتهى إلى مسامعي صوت مواسيا معزيا: ـ البركة في راسك، أمك في ذمة الله . “ص79، لتنطلق حكاية مرض الأم التي كانت تعاني من فشل كلوي، ومتابعتها لعلاج مضن ومستنزف في تصفية الكلي، ومعاناة الابن الذي يرافقها إلى العيادة، ويعود رفقتها في نفس اليوم إلى قريتهم( كدانة ) قبل أن تسلم الروح لبارئها بعد رحلة علاج متعبة ومكلفة: “سجيت أمي داخل سيارة نقل الموتى وأحكمت إغلاق عينيها إلى الأبد … “ص 83، معاناة تتجسد في نص “الزغبي “التي يكابد فيها الشخص الذي يعول أسرة تتكون من أطفال: “أطفالك يغطون في سابع نومة …”ص 110، وزوجة تعاني من السكري: “زوجتك العليلة تنفك مترددة على المرحاض، فارتفاع السكري يصيبها بسلاسة التبول، تفاقم ضعفها … واستسلمت لمعاركها الخاسرة مع الأمراض . “ص 110، وأم عجوز: “أمك العجوز انتهت من صلاتها جلوسا …”ص 110، وضع يرخي بكلكله على زوج لم يسلم هو الآخر من لعنة الأوصاب ( شقيقة الرأس وآلام الظهر وحريق يفري المعدة … ) ص 111، ولا يعفيه ذلك من مهام أسرية مرهقة: “عليك أن تعد فطور طعام الصباح … للأولاد، وتحقن زوجتك بإبرة الإنسولين …”ص111، وضع يرتفع منسوب إلزاماته وإكراهاته بتدبير متطلبات يومي مثقل بتكاليفه وواجباته: “قنينة الغاز فارغة، عليك استبدالها عند البقال ُمحَمَّاد ، طابور الزبائن يمتد طويلا إلى حدود الرصيف العام … “ص111، في مشهد يجسد وزر المعاناة وضغوطاتها: “بالكاد تتمكن من حمل قنينة الغاز على كتفك، تصعد الطابق الخامس لاهثا وأنفاسك تتقطع المصعد ـ معطوب ـ كالعادة ـ … سطل النفايات في بيتك فاض وفاح بروائح زنخة،من اللازم إخراجه قبل فوت الشاحنة،حان موعد تقديم الدواء لزوجك وعقاقير اعتيادية مهدئة لأمك المصابة بمرض الزهايمر المزمن … “ص112. فمن رحم الواقع الذي اعتمده القاص كمرجع لتأثيث نسيج نصوصه، تبرز حالات لشخوص وأحداث يتم تسريدها عبر طرائق حكي طافح بزخم جِدَّة إبداعية قوامها التجريب والتجديد . وفي تساوق مع سياق الواقع بمستجداته ومستحدثاته داخل نسق زمني بارز ورد ذكر انتشار وباء كورونا، ورصد مظاهره في الكثير من المواقف، والعديد من المشاهد، وما استعمل فيها من أدوات ( كمامات ): “الكمامات كالفطريات تكسو الوجوه وتحجب ملامحها إلا من عيون حذرة متربصة … “ص 111، و(بروطوكولات) الحِجْر الصحي كتصريح مغادرة البيت: “طلب منك شرطي شاب تصريح مغادرة البيت … “ص 114، والإجراءات الصارمة المتبعة في ذلك: “العمارة محاصرة، والكل سيخضع للفحص المخبري والمعاينة الطبية الإجبارية المفروضة . “ص 115. وهناك عناصر سردية عديدة يصعب الإحاطة بها جميعا، وسنقتصر على بعضها كالاقتباس والذي تم، في غالبيته،من النص القرآني، كما في سورة “النمل “، حيث نقرأ في أولى نصوص الأضمومة “نزوة “: “يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم . “ص 9، وقصة آىم وحواء مع ورق التوت الذي كان يستر عوراتهما أثناء مقامهما بالجنة : “متجردين من ملابسهم إلا أوراق توت تستر سوءاتهم … “ص 108، وفي تحوير لما ورد في سورة “مريم “: “وقد اشتعل رأسه وأسته شيبا … “ص 113، بإضافة ( إست ) إلى ( رأس ): “رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا “كما في القرآن الكريم، وتم أيضا، أي الاقتباس من الأدب، وأدب الخطابة بالخصوص، من خطبة قس بن ساعدة الإيادي المعروفة ( أيها الناس اسمعوا وعوا ) والتي تم توظيف نفس عبارة الاستهلال بها في قصة “خبر: عن الموقع أسفله المشنوق أعلاه !!”، ومن سورة “الناس “: “ـ مجرد وسواس استعذ برب الجنة والناس “ص 137؛ والعنصر الغرائبي الذي يطالعنا بدءا من النص الأول “نزوة “في تصوير لنمط حياة النمل المنظمة بامتلاكهم لإذاعة: “فقد أذاعت ( محطة النمل ) في نشرتها الرئيسية …”ص 10، وأن يتحول العض المتسبب في السعار من الكلب إلى الإنسان: “عضة الرجل مسمومة أصابت الكلب بالسعار … “ص103، وما ترتب عنه من رفع دعوة ضد رجل عض كلبا وتسبب له في سعار، في مشهد غريب وعجيب، وتنازل بعد ذلك عن الدعوة: “لتتقدم بملتمس التنازل عن الدعوة، حتى يخلى سبيل الرجل المعتقل بسبب عضه لكلبها … “ص 104، وخروج الشخوص من دفتي الرواية، ومغادرة مجريات أحداثها والانتشار داخل فضاء غرفة القارئ : “انتبهت إلى الغرفة كأنك تراها لأول مرة، فهالك أنها تجدها مكتظة بشخصيات الرواية التي تسربت من الأسطر واستوت شخصيات بلحم وشحم وضجيج وصخب… “ص 117، والتحول الذي لحق الرجل الذي صار كلبا في قصة “هاو .. هاو .. مع الإصرار “، وكشك الجرائد الذي غدا مطعما: “ـ المطعم جديد كان في السابق على ما أتذكر كشك جرائد وكتب … أليس كذلك ؟ “ص 149، في إشارة إلى ما أصاب مجال تداول الجرائد والكتب من كساد وتردي . وتتضمن قصص المجموعة كذلك عنصر المفارقة في قصة “كبرياء “بعقد مقارنة بين ماضي الحصان وما كان ينعم به من عناية ورعاية من طرف مالكته: “كانت تحرص على تحميمك بيدها، وتدعك ظهرك بالليفة والصابون، وتعطرك بأزكى وأذكى العطور … “ص 16، وما آل إليه من إهمال، وسوء حال: “حصان لا يأكل إلا ما لذ وطاب أضحى يتقوت من فضلات الطريق وقد ضمر وهزل كَشْحِك. “ص18، مفارقة تطالعنا في نص “سيلفي “: “وأوصلتها إلى حي واطئ حيث تسكن في ضواحي المدينة، يتشكل من دور عشوائية قوامها قزدير وبراريك، تعجبت كثيرا كيف كانت تحتفظ بأناقتها وجلال حضورها ورفعتها، وهي تنتمي لهذا المنبت الغارق في الفقر المدقع . “ص 60، فالقصتان تصوران حالة مفارقة طرفاها حصان انحدر من نمط عيش مجلل بالرفاه، وحسن العناية إلى مستنقع إهمال وتشرد، وفتاة جميلة الشكل، أنيقة المظهر تعيش في أدران الفقر والبؤس . بالإضافة إلى موضوعات وتيمات كالخرافة والشعوذة في قصة “المطمورة “: ـ عليك أن تقضي ليلة في قبة الضريح، متخففة من كل لباس مخيط، وأن تستحمي بالماء الفاتر وماء الورد، وأن تنامي على شقك الأيمن وتغمضي عينيك حتى تحضر بركة السيد وتزول عنك ( تباريح الألم ) . “ص39، مجموعة سلوكيات ومعتقدات تكرس ظاهرة انتشار الجهل داخل فئات عريضة من المجتمع وخصوصا العنصر النسوي ومدى ثقتهن ووثوقهن بقدرة أساليب وطقوس الشعوذة على العلاج والتعافي من المرض . وتمسك القابلة طامو بدوارها الذي يحتضن ضريح السيد ( والو)، وما يملكه من قدرات على تحقيق الزواج، وشفاء السقيم، وإنجاب العاقر، وعودة الغائب: “طامو القابلة انفجرت صائحة، لا يمكن أن نهجر دوارنا والولي الصالح “سيدي والو “نعلق على ( كرمة البركة ) ملابسنا ومنادلنا فتتحقق أحلامنا فيتزوج العازب، ويشفى المريض، وتلد العاقر، ويحضر الغائب .. “ص 75، وموضوع الخديعة وما يخلفه من أزمات نفسية، وإحباط وجداني مثل ما حصل لمهندسة البناء في نص “ويكاند “بعد أن وثقت بشخص تعرفت عليه عبر الفايسبوك والذي ادعى أنه مدير شركة، إلا أنها سرعان ما طفقت تكتشف خيوط الخديعة التي ابتدأت بسنه: “لم يكن الرجل شابا كما بدا في الصورة بل كان كهلا قد غزا الشيب فوديه… “ص44، ورغم بلوغها سن الأربعين، ولم تسعفها التزاماتها العائلية على الزواج مبكرا إلا أنها خدعت في سن الرجل وشكله: “سرعان ما جاء الرجل وهو أكبر مما كانت تعتقد، ويضع باروكة واضحة تستر صلعته … “ص 45، إلا أن خيوط الخديعة اكتملت وجَرَّعَتْها مرارة خذلان مؤلم عندما قضى منها وطره في غرفة الفندق بعد أن وضع لها مخدرا في المشروب، وعندما سألت عنه في الصباح أخبرتها وصيفة الفندق بأنه انصرف وترك لها غلافا . وتكرر موضوع الخديعة في قصة “على مبسم سيجارة شقراء أحمر شفاه “ حين تعرف سائق السيارة على الشابة فاطنة / فاتي بعد أن أرجع لها حقيبتها من شخصين سطواعليها وهما على متن درا جة نارية فتعقبهما بسيارته وتمكن من انتزاع الحقيبة منهما وإعاد تها لها، لتتطور الأمور بينهما وترافقه إلى فندق قضيا به ليلة اكتشف خلالها ما عاشته من تجارب مريرة، أكسبتها حنكة وتجربة، بدءا بما تعرضت له من اعتداء جنسي من طرف زوج أمها مما قادها لهجر البيت والتقلب في عدة أشغال توزعت بين خادمة بيوت، إلى نادلة، إلى منظفة مراحيض، إلى بائعة متجولة لمواد تجميل . وعانت بسبب جمالها اللافت من أنواع التحرش والمضايقة، بل الاغتصاب المتكرر مما حتم عليها التسلح بعزيمة فولاذية لمقاومة مد ألوان الظلم و الاعتد اء التي تواجهها ليكتشف الشخص المنقذ الذي قضت معه ليلة بالفندق بحقيقة صادمة ومزلزلة تتمثل في حملها لفيروس السيدا وخضوعها للعلاج والمتابعة الطبية: “ـ المرأة التي كانت معك ( فاتي )، هربت من الحجر الصحي المفروض عليها، وهي تتلقى حصص علاج دائم، مع الأسف أن أخبرك أنها مصابة بالسيدا ، وأنت في أمس الحاجة إلى إجراء تحاليل فحص دقيق .”ص 52. ومن موضوعات الأضمومة كذلك الراهن المزري للعرب، وما يطبعه من مآسي ونكبات بسبب ما تعيشه بعض البلدان العربية من حروب أدت إلى تهجير الساكنة وهجرتها إلى مختلف بقاع المعمور كما هو الحال في سوريا: “ـ لعنة الحرب جعلتنا شتاتا موزعا على الأرض، سوريا أمست قطة جائعة تلتهم أولادها دون رأفة . “ص 149، كما ورد على لسان سوري مقيم بمدينة القنيطرة المغربية حيث يملك مطعما، وليست دول عربية أخرى بأحسن حال، وهو ما نلمسه في مشاهد الرعب الذي يطالهم في العديد من الملاجئ مثل ما ورد في قصة “في انتظار وقف إطلاق النار “: “دوي الإنذارات يثير الرجفة الكل يبحث عن منفذ خلاص … الهلع يكبس الأنفاس المنكسرة وعلى رأسها ومن كل الاتجاهات عصف طيران، هدير قوي تعقبه انفجارات صواريخ متتالية وأزيز رصاص يصم الآذان، تدافع عرم نحو المخابئ … الأمهات قلوبهن أدركت حناجرهن والخوف يمسك بخناقهن ينادين بأسماء فلذات أكبادهن … “ص 155.
أما على مستوى عناصر السرد وأدواته فنصوص المجموعة اعتمدت أسلوب الحوار تارة ، والاسترجاع طورا من خلال النبش في ثنايا ماض مثقل بذكريات ظلت محفورة في الذاكرة والوجدان . والوصف أيضا الذي تخلل الكثير من القصص، وأضفى عليها جمالية دلالية وتعبيرية: “كان نحيلا نحول مسمار ويكاد جسمه أن يكون هيكلا عظميا متحركا … “ص68، ليتحول، أي الوصف، من تصوير الشكل والهيئة، إلى اتخاذ منحى شاعريا ينضح رقة ورهافة: “لكنه غازلها بكلمات شاعرية تتفجر عذوبة … فانسكبت كلماته رحيقا حلوا على قلبها … “ص11، وعنصر المكان، كمكون سردي، والذي هيمنت عليه فضاءات القنيطرة بذكر ( سوق الخبازات، وساحة الشهداء، وبئر أنزران، وسينما بلاص وفانطازيو والرياض والأطلس وطانكرا ) . فضلا عن الجانب الفني والأدبي والفكري والصوفي بذكر أعلام من قبيل: شارلو، وفان كوخ، وتشيكوف ، وبيكاسو، ودالي، والجاحظ، والحلاج، ورابعة العدوية، وولادة بنت المستكفي، وفاطمة المرنيسي، وأحمد بوزفور، ومحمد زفزاف، وعبد الجبار السحيمي، ونجيب محفوظ، وخليل جبران، وفولتر، ورامبو وما يجمع بينهم من قيمة إبداعية ساهمت في تخليد أسمائهم بسجل تاريخ التراث الإنساني . والجانب التراثي الفولكلوري المحلي بمختلف فرقه وأنماطه كرقصات أحواش، والكدرة، وأحيدوس، والهيت، والدقة المراكشية، والطقطوقة الجبلية، في غناها وتنوعها . والشخوص الذين اختلفت فصائلهم وأصولهم بين الحيوانات كالدب، والحصان، ؛ وطيور كالديك والدجاجات، ثم الخنفساء، والحلزون، والضفادع، والسرغوف للانتظام داخل سياق حكي موسوم بالثراء والتعدد والاختلاف، وما عرفه من تساوقات وتعالقات متحت من الواقع في التقاط الكثير من المشاهد والصور والوقائع وتسريدها عبر نمط حكي ( قصة قصيرة ) في تعدد تمظهراتها وتجلياتها، وتنوع امتداداتها ومسلكياتها متوسلة بأدوات قص تنأى عن المألوف، وتشذ عن الشائع مما يستعصي معه الإحاطة بكل جوانبها الجمالية والدلالية والتعبيرية، وتحديد ما ترهص به من معالم وملامح ونزعات.
عبد النبي بزاز ـ المغرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ سيلفي ( نصوص قصصية ) المصطفى كليتي .
ـ مطبعة: سليكي أخوين ـ طنجة 2024 .
ـ لوحة الغلاف: هناء ميكو.