التنويريتربية وتعليم

أي دور للحياة المدرسيَّة في بناء المدرسة التي نريد؟

أنجز مجموعة من مستشاري التوجيه المدرسي والجامعي التونسيين، منذ أشهر، كتابا جماعيا عنوانه “أي مدرسة نريد؟” قدم له الأستاذ عبد الباسط بن حسين رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان ونشره المركز الوطني البيداغوجي التابع لوزارة التربية. وقد تمحورت مقالات هذا الكتاب الثمانية حول جوانب هامة من الحياة المدرسية وتلعب دورا أساسيا في بناء المدرسة التي يريدها الشعب التونسي لأبنائه. كما دققوا عديد المفاهيم وأوضحوا الكثير من الممارسات حول واقع التربية والتعليم ومستقبلهما في تونس. وقد كان لتخصص هؤلاء المستشارين في الحياة المدرسية وإلمامهم بكل جوانبها العامل الحاسم في عمق أفكارهم ونفاذ تحاليلهم وجديّة الحلول والإقتراحات التي قدموها.

ونظرا لقيمة هذا العمل ولعمق التشخيص الذي بني عليه وقيمة البدائل والإستشرافات التي اقترحها، حتى وإن لم يُحط بجميع جوانب الحياة المدرسية التي نعلمها، فقد ارتأينا عرضه على القراء وتقريبه لأفهامهم لعله يكون حافزا للمهتمين منهم ولأهل الإختصاص على الإلتفات إلى جانب حاسم في بناء المنظومة التربوية وحسن اشتغالها رغم سقوطه أحيانا من الإهتمامات وبقائه طي النسيان بعد أن جرى التركيز دائما على التعلمات وعلى المقاربات والجوانب الفنية والبيداغوجية. وكان ذلك من عوامل التعثر المستفحل لهذه المنظومة المتداعية وتآكلها وضعف مخرجاتها. فماهو التعريف الذي جاء به هذا الكتاب للحياة المدرسية؟ وماهي غاياتها ؟ وكيف يكون العمل على تطويرها؟ وماذا يمكن أن نأمل أخيرا من هذا الجهد الحتمي الذي يفرضه واقع الحياة المدرسية؟  

1 – في معنى الحياة المدرسية وحدها:

في مقاله عن “جودة الحياة المدرسية وتجذير الشعور بالإنتماء” يقول الباحث سامي الحبيب أن “الحياة المدرسية هي كل ما يعيشه التلميذ في مختلف الفضاءات المدرسية (الساحة والنوادي والمكتبة والمطعم ودورات المياه وقاعات الدرس والفضاءات المتاخمة) وعلى امتداد الزمن المدرسي وزمن الراحة والتنشيط”(ص 41/42) ولتوضيح ذلك أكثر هو يستعير من الأمر عدد 2437 لسنة 2004 المتعلق بتنظيم الحياة المدرسية القول بأنها تتمثل “فيما يتعاطاه التلاميذ من أنشطة تربوية وثقافية وترفيهية ورياضية وما يسدى لهم من خدمات اجتماعية وصحية في انسجام مع رسالة التربية ووظائف المدرسة”. وبذلك تتضح قيمة الحياة المدرسية وأهميتها للتلاميذ وللمؤسسات إذ هي “تمثل تجربة عيش مشترك”(ص42) تتأثر بالمناخ المدرسي و”تقوم على مجموعة محاور تتوافق مع متطلبات المدرسة من بينها التنشيط والحياة الديمقراطية والمشاركة والإنضباط الذاتي”(42) لتمثل بذلك “الإطار الملائم للتلميذ لإثبات أنه ليس مجرد فرد في مجموعة الفصل، بل هو طفل ومراهق وإنسان في تعدد أبعاده وتنوع إهتماماته”(43). تنضاف هذه الحياة المدرسية بالطبع إلى الجانب البيداغوجي الذي يقوم عليه المدرسون ويبلّغون من خلاله للتلاميذ مقررات معرفية متنوعة وفق مقاربات يعلمونها وتدربوا عليها ويخضعونه لتقييمات متواترة. ووفق ما نقله سامي الحبيب عن الفصل الأول من الأمر المنظم للحياة المدرسية أيضا، تعتبر الحياة المدرسية “إمتدادا طبيعيا للتعلمات وإطارا لتنمية شخصية المتعلم ومواهبه علاوة على التمرس بالعيش الجماعي”. وبها يكتمل تكوين التلميذ ويتساند الجانبان: البيداغوجي والمدرسي.

2 – أهمية العناية بالحياة المدرسية :

يعتبر الإلحاح على تطوير الحياة المدرسية السمة المشتركة البارزة لجميع المقالات الواردة بهذا الكتاب الجماعي وذلك وعيا من هؤلاء الباحثين بقيمتها في إنجاح الفعل التربوي الذي خصته تونس بالأولوية وأفردته بعديد التضحيات المكلفة. ومع ذلك جاءت المردودية هزيلة ودون المستويات المأمولة. فبقي هذا المبحث مفتوحا يقاربه كل مجتهد من زاويته باعتبار الاهتمام به هو من “مسالك التفكير في واقع المدرسة ومستقبلها” وهو عين ما قاله الباحث منصف الخميري الذي اشتغل بعمق على النموذج التونسي واختار لمقاله نفس هذا العنوان الذي ذكرنا ، منطلقا من راهن المدرسة الذي غابت عنه بهجة الحياة لدى المتعلمين وذوت دافعيتهم حيال الفعل التعليمي والمشهد المدرسي عموما فأورثهم ذلك “الإحباط والإحساس بالضجر والملل وفتور العزيمة أمام مدرسة عمومية بالية بفضاءات متداعية وتجهيزات متهالكة ظلت في حدها الأدنى منذ عقود”(ص13)، يضاف إلى ذلك تعلّمات متواضعة لا ميزة لها “عمّا هو متاح بالمنصات والتطبيقات الرقمية، وإطار تربوي (ضجر هو كذلك) منهك تآكلت دفاتره الورقية وتقادمت مؤهلاته الذهنية”(ص13).

هذا الواقع البائس للوضع التربوي يتطلب ضرورة الإرتقاء بالحياة المدرسية وليس بالتعلمات والمقاربات البيداغوجية فقط، فذلك من شأنه إذكاء الحماسة والدافعية الضرورية وشحذ عزائم التلاميذ وتحفيزهم. وفي هذا الإتجاه يؤكد منصف الخميري أن “الحياة المدرسية ليست مجرّد مناخ للعلاقات والتفاعلات خارج إطار الفصل يحيط بالتعلمات ويشكل إمتدادا لها فحسب، بل هي رافعة من رافعات التنشئة الاجتماعية ومساحة من مساحات إقدار المتعلمين على تصليب عودهم ونحت ملامح هويتهم وتحصين ذواتهم ثقافيا ومواطنيا وعلائقيا”(ص13). ولما كانت المسألة بهذه القيمة فهذا وحده كاف لتأكيد الإلتزام بتطوير الحياة المدرسية وتنشيطها ومعالجة سلبياتها، فهي فعلا من المسالك الحاسمة للتفكير في واقع المدرسة وضمان مستقبل زاهر لها. وهذا يتطلب في حده الأدنى مراجعة الأنظمة الداخلية للمؤسسات بشكل تشاركي يبنيها على رؤية تربوية “حافظة لضوابط العيش معا ومشيدة لصرح إنسان جديد متوازن وسوي”(ص14) بدل المقاربة الزجرية الجزائية الحالية التي يكرسها نظام تأديبي متكلس ومزعج لأنه يستهدف أشخاص المتعلمين بدل سلوكهم ومواقفهم كما يجب أن يكون. وهذا يستدعي تخليص المؤسسات من العنف المستشري بها بأشكاله المختلفة وتعديل إيقاع التعلمات وفق تواتر يومي وأسبوعي “متناسب أكثر ما يمكن مع النسق الاجتماعي والزمن العائلي”(ص14). فالحياة في أغلب مدارسنا قاتمة وهي عبارة عن “ترسانة من القواعد والضوابط والمحاذير ترافق مضامين دراسية تلقن للناشئة وفق منوال تربوي تقليدي”(ص15). كما يستدعي ذلك أيضا “انخراط جميع الفاعلين التربويين في النهوض بالمشروع التربوي لمؤسستهم واستبطان ذلك في سلوكهم وأدائهم”(ص19) حتى لا يبقى حبيس الأوامر والتعليمات الفوقية. وهنا لابد من جودة الحوكمة والتسيير التربوي الذي يحرص على تحقيق النتائج المرجوّة ويقدر على تجنيد الجميع لذلك وتوفير ممهدات النجاح لهم.

إن بناء مدرسة المستقبل يستدعي ضرورة الإقلاع عن أفكار قديمة ثبت خطؤُها ومحدودية تأثيرها تربط بين الإصلاح التربوي وتغيير المقررات واستجلاب ما لدى الآخرين من برامج مهملة الاهتمام بالوسط الذي سيحتضن هذه جميعا ويدعم تبليغها أي مهملة للحياة المدرسية ومناخاتها التي بدونها تبقى المؤسسات شبيهة “بالمحتشدات”(ص30) حسب عبارة الباحث منصف الخميري الذي أكد “أن تعزيز شعور الإنتماء للفضاء المدرسي لدى الأطفال والشباب أيضا يمرّ حتما عبر إضفاء المعنى على الوجود داخل أسوار المدرسة لمدة ساعات طويلة وزرع مشاعر التعاطف والسعادة المدرسية”(ص31).

3 – غايات الحياة المدرسية:

من خلال جميع البحوث الواردة بالكتاب، تبرز الحياة المدرسية بأنشطتها المذكورة كمكون ثابت وأساسي في المنظومة التربوية ولا استغناء عنه في دعم واستكمال رسالتها “في تكوين فرد متوازن مندمج في بيئته ومنفتح على أرحب الآفاق”(43) ومكتمل الهوية الفردية والمواطنية. كما أن ثراء الحياة المدرسية وحيويتها ينمّي لدى التلاميذ، حسب استقصاءات سامي الحبيب لهم، الشعور بالإنتماء ويجذره وفي طليعته الإنتماء للمؤسسة ذاتها التي يرتادها خاصة “كلما تم تشريك هؤلاء التلاميذ في الإقتراح والبرمجة وتحميلهم مسؤولية  التنظيم والإعداد لأي نشاط بحرية”(61). وهو الطلب الملح للمستجوبين والذي يجب أن تستجيب له الحياة المدرسية وتشتغل جميع أطرها عليه. فالإعتزاز بالمؤسسة المدرسية ينعش اقبال التلاميذ على الدرس ويمنع نفورهم منه ويقوي عزمهم على النجاح إشباعا لطموحهم وحرصا على تشريف مدرستهم فيتيسّر بذلك تعاملهم مع جميع الأطراف ويصبح تواصلهم داخلها مثمرا.

لذلك يجب أن تصغي المدرسة لأبنائها وتحتفي بقدومهم إليها منذ أول يوم في الدراسة وتخصهم بالأنشطة المفيدة وتجعل كل فضاءاتها ونواديها وإطاراتها الفاعلة على ذمتهم. وهذا من شأنه أن يضمن كذلك جودة الفعل التربوي ويرتقي به وهي الغاية النهائية للحياة المدرسية. أما الباحث الخبير محرز الدريسي في متابعته ل”نماذج من أواصر الشباب وتفاعلاتهم” فقد جعل من تطوير الجانب العلائقي عبر تنمية التضامنات المدرسية الإيجابية بين التلاميذ إحدى الغايات الهامة التي تهدف إليها الحياة المدرسية. إذ هي تثبّت لديهم قيم المواطنة وآليات العيش المشترك و”تؤهلهم للحياة في مجتمع حر ديمقراطي”(ص213) سمته التعددية في الرأي والأفعال. كما أنها تمتص عاصفة الأزمات النفسية والسلوكية والعلائقية للشباب المراهق بفضل “أنشطتها والأثر الإنساني والحضور الرمزي للمدرسين ولأسلاك التأطير”(211) بما هم قدوات فاعلة تذوب في حضورهم الظواهر اللامدنية مثل العنف والسلوكات المنحرفة. كما تنمي التضامنات الإندماج بما هو تفاعل وتقاسم لنفس المعايير والقيم يذهب الإقصاء والتهميش والسلبية. وحسب ما أفرزته نتائج هذا البحث فقد تغيرت التضامنات التلمذية بالوسط المدرسي وتعددت أشكالها واختلف ايقاعها. فقد تشظّت التضامنات المؤسسية التي تنسجها الفضاءات الداخلية من مبيتات ومطاعم وأنشطة ثقافية ورياضية وتدعم العلاقات البينية والمشاعر والأحاسيس المشتركة وشهدت تراجعا بسبب “عدم توفير أرضية تربوية لتخصيب العلاقات البينية ولتمتين الصلات وتعميق التفاعلات “(214) مما “أفقد المدرسة الكثير من جاذبيتها وحولها إلى مؤسسة شحيحة في حفاوتها وصداقتها”(214) لا تفرز إلا تضامنات جزئية (مسرحها الساحات والزوايا المدرسية) “وفرعية في الصف والإختصاص الدراسي والإمتحانات” أو النتائج المدرسية (المتدنية والمتميزة)، إضافة إلى التضامنات الضبابية حسب الإنتماء إلى هذه المؤسسة أو هذا الحي أو الفريق الرياضي أو التضامنات المناسباتية (الباك سبور) أو الطرفية (ارتياد بعض الساحات الملاصقة أو المقاهي وقاعات الألعاب) أو ما افرزته الشبكات الاجتماعية والألعاب الألكترونية من صلات افتراضية هشة . وقد أفرزت جميعا “سلوكات تضامنية داخل المدرسة مضادة لها وضد معاييرها”(214) وحولتها إلى “مجرد مساحة للمرور إلى عالم الحياة ” في حين كان يجب أن تكون المدرسة هي “عالم الحياة والإندماج الفعلي” بزخمه التربوي والثقافي والإجتماعي الراقي. وبهذا شخص الدكتور محرز الدريسي واقع المؤسسات التربوية المجدب والمنفر الذي يستدعي التعجيل بتطوير الحياة المدرسية ومعالجة هناتها حتى تنجز الإرتقاء بالتضامنات التلمذية وتخلصها من الهامشية والإبتذال، وذلك كمدخل ضروري للمساهمة في تحقيق الجودة التربوية المنشودة والإرتقاء إلى مستوى النظم التربوية المتميزة.

أما الباحث محمد رحومة العزي فقد أكد في مقاله عن “الإنقطاع المدرسي بين حدة الظاهرة ومحدودية المعالجات” أن الحد من الهدر المدرسي ومعالجة مشكلة الإنقطاع المبكر هو من أوكد غايات الحياة المدرسية. فهذه المشكلة أصبحت ظاهرة مؤرقة فعلا للمشرفين على المنظومة، خاصة بعد أن ناهزت أعداد المنقطعين سنويا المائة ألف أو يزيد. وهي تسبب خسائر مادية هامة تمس المنظومة والعائلات جميعا وتحيل 20 % من ميزانية وزارة التربية إلى هباء منثور. “والخطير في الأمر أن المنقطعين سيكونون عرضة لمخاطر الإستقطاب والتوظيف في أنشطة غير قانونية وإجرامية مثل التهريب والتجارة الموازية وتجارة المخدرات والتسول وقطع الطرقات أو النشل والسرقة والإرهاب أيضا والهجرة غير المنظمة”(ص89). ويكون تطوير الحياة المدرسية فعالا جدا في مواجهة هذه المخاطر لأنها تجعل المؤسسات التربوية جاذبة تحتفي بروّادها وتحفزهم على الإجتهاد وعلى التمسك بمؤسساتهم وعدم اليأس منها أوالتفكير في مغادرتها والإنقطاع عنها . أما الحل الوقائي الثاني الذي يقترحه هذا الباحث فيكون عبر استجابة المنظومة لواقع التلاميذ وأحوالهم بتوفير الفرصة المجزية لكل منهم حتى يدرس وفق إمكانياته الإجتماعية والبدنية ومؤهلاته الذهنية والعقلية واقتفاء المسار الذي يضمن له النجاح والتقدّم وحتى التميّز أيضا. وهذا يستدعي مراجعة مسارات التعليم وتعديل خارطة الشعب والإختصاصات المهنية والعامة  حتى تستجيب لملمح كل تلميذ ولمواهبه ، وكذلك تعديل مقاييس الإرتقاء والإستعاضة عن النظام التأديبي بغيره يكون أكثر تفهم لواقع التلاميذ. وهذا يعني إصلاحا تربويا شاملا يجعل من الحياة المدرسية داعما فعلا للنجاح والتوفيق المدرسي ويجعل من المقاربة الفارقية اختيارا مجسّما على أرض الواقع بإقرار تغيير المسار عوضا عن الرفت من الدراسة والدفع إلى الإنقطاع عنها.

4 – مداخل تطوير الحياة المدرسية:

أورد هذا الكتاب الجماعي مجموعة من المداخل التي يمكن من خلالها تطوير الحياة المدرسية والإرتقاء بها دون أن ينتهي القول فيها جميعا بالطبع .

أ – وأولى هذه المداخل تخص مسألة الزمن المدرسي ، وهو ما جعله الباحث خالد الشابي محور مقالته “نحو زمن مدرسي يراعي نسق التعلم لدى الناشئة والأزمنة التي يحدث فيها” حاثا فيها على “حسن توزيع ساعات الدراسة خلال الأسبوع وتخفيف اليوم الدراسي وبرمجة التعلمات في فترات زمنية يكون فيها تركيز التلاميذ في أعلى مستوياته”(ص68). فانتباه التلميذ وقدرته على معالجة المعلومة التي يتلقاها عن معلمه ومدى استيعابه لها مرتبط بالتوقيت الذي يتم فيه بثّ هذه المعلومة أي بالزمن البيولوجي ويستدعي “تخصيص فترات راحة يومية وأسبوعية وسنوية للمتعلم ليتمكن من استرجاع مؤهلاته وقدراته حتى لا يؤثر التعب على نسق الآداء لديه”(ص70). “فتنظيم الزمن المدرسي مهمّ جدا ليتوافق مع نسق الإنتباه لدى المتعلم”(72). إذ “هناك فترات مساعدة على التعلم خلال اليوم الدراسي ويكون فيها العقل البشري متحفزا للتعلم ودافعيته كبيرة وانتباهه في أعلى درجاته”(73). وكما لا يجب أن تتجاوز الحصة الواحدة 45 دقيقة، يتعيّن تفادي إغراق الذاكرة بكم كبير من المعلومات. ومن الضروري تواتر العمل والراحة خلال اليوم دون أن تزيد مدّة الدراسة اليومية عن 6 ساعات(ص74) على أن يحصل التلميذ على راحة قصيرة بين الحصص وراحة مطولة نوعا ما في منتصف اليوم. “ولا يمكن أن يتجاوز وقت الدراسة 3 ساعات في اليوم بالنسبة لسن 6 سنوات و4 ساعات بالنسبة لسن 9 سنوات و6 ساعات بالنسبة لسن 12 سنة فما فوق”(ص74). كما أن الإنتباه لدى المتعلم لا يكون كبيرا في بداية الأسبوع (يوم الإثنين ولا قبل الساعة التاسعة). ويبدأ بالفتور بداية من يوم الجمعة (ص75). ولابد من تمتيعه أيضا بعطلتين طويلتين على الأقل في السنة(ص77).

وقد فصل الباحث كل هذه المعطيات في مقاله مركزا على النسق اليومي وحجم الحصة والنسق الأسبوعي والعطل ملحا على ضرورة عدم الإرتجال في ضبط الزمن المدرسي وبناء ذلك على مقاربات علمية ترتقي بالحياة المدرسية وتدعم سعي التلميذ إلى النجاح. منتهيا إلى أننا في قطاع التعليم مقبلون على تغيرات عميقة يفرضها توظيف تطبيقات الذكاء الإصطناعي وأن المدرسة ستعمل في أفق العقدين المقبلين “بصورة مغايرة لما تعودنا عليه في المدرسة التقليدية اليوم”(ص84) وهو ما يجب الإستعداد له بكل جدية والأخذ بعين الإعتبار خصوصيات التعليم عن بعد والتعليم الألكتروني.

ب – ومن الضروري جدا كذلك تطوير التوجيه المدرسي حتى يكون آلية فعالة للوقاية من الإنقطاع عن الدراسة أولا وللإرتقاء بالحياة المدرسية وضمان الجودة التربوية المنشودة ثانيا، وهو ما اقترحه محمد رحومة العزي في الجزء الأخير من مقاله المذكور آنفا. فالإستجابة لرغبات التلاميذ ومسايرة مؤهلاتهم ومهاراتهم في توافق تام مع انتظارات الأولياء والخيارات التنموية والإقتصادية للبلاد معادلة تجب مراعاتها والحرص على تجسيدها رغم ما ينطوي عليه ذلك من عسر، وهذا الحل “يجب اعتماده مبكرا في بداية المرحلة الإعدادية… ولا مبرر منطقيا لدفع جميع التلاميذ دون تمييز في مسار التكوين العام والمشترك على مدى سنوات”(ص105) تفوّت عليهم فرص تطوير مهاراتهم المهنية مبكرا. “فقديما كان توزيع التلاميذ على المسالك الدراسية يبدأ إثر النجاح في السنة السادسة ابتدائي” وفق مؤهلاتهم الذهنية وتقدمهم الدراسي وأعمارهم والفرص المتوفرة بسوق الشغل في التخصصات الصناعية والتجارية والإدارية وغيرها كثير مثل الصحة والرياضة والفنون… الخ بما ينعش أمل الجميع في النجاح ويجعل المنظومة زاخرة بالفرص والآفاق التي تجعلها مصعدا إجتماعيا فعليا وليس معبرا للمجهول. ويضاف إلى هذا “تيسير الإلتحاق بالتكوين المهني مبكرا أيضا ومراجعة إختصاصاته وتطويرها لتواكب المستجدات التكنولوجية الحديثة وتخفيف شروط الإلتحاق به”(ص106) حتى يكون متاحا للجميع ومستجيبا لرغباتهم وانتظاراتهم .     

ج – هذا التجديد سيفرض وفق الباحثة فاطمة رحوي مديوني التأسيس لإجراء مهم آخر ترتقي به الحياة المدرسية وتُثرى هو خيار التربية على التوجيه أو على الإختيار الذي أوضحت كل تفاعلاته في مقالها عن “التربية على الإختيار ، نافذة على المستقبل“. وهذا “يكسب التوجيه المدرسي والمهني معان جديدة تقوم على أبعاد تربوية تجعل منه عاملا من العوامل التي تسهم في نماء التلميذ الفرد وفي تحقق نضجه المتمثل في تحمله بصورة مستقلة المسؤولية في اختياراته لمسلك دراسته والإستعداد لدخول عالم الشغل”(ص112). وهذه المقاربة ستساعد التلاميذ على بناء مشاريعهم الدراسية والمهنية “وتسلحهم بجملة من الكفايات والمهارات مثل الإستقلالية وحل المشكلات وأخذ المبادرات لتعدّهم إلى مواجهة المستقبل وإلى التفاعل الإيجابي مع المتغيرات”(ص113). كما تنمو لديهم أيضا “مهارة الإعتماد على الذات وكفاية العمل الجماعي وإعداد المشاريع وهو ما من شأنه أن يؤهلهم إلى مسألة الإختيارات الواعية وإلى أخذ القرارات المدروسة ووضع المعالم الأولى لاكتساب نظرة استشرافية”(ص113). وهذا “يطرح على المنظومة التربوية أن تدرج هذه المقاربة الجديدة للتوجيه في مخططاتها واستراتيجياتها”(ص114) وتعدّ لها الإطار الكُفأ اللازم الذي يقدر على مرافقة التلاميذ والإستجابة لانتظاراتهم ومساعدتهم على بلورة مشاريعهم الدراسية والمهنية وتعديل تمثلاتهم المختلفة بالطريقة العملية الصحيحة. وهذا يفرز، حسب الباحثة، تنوعا في أدوار المستشار وحاجة متأكدة لتطوير آلية المرافقة وتجديدات بيداغوجية متأكدة وفي مقدمتها المقاربة بالمشروع وتوظيف بعض المواد المدرسية لهذه الأهداف وتوفير زمن مدرسي للتوجيه  ومؤسسة بحثية خاصة بالتوجيه توفر جميع المدعمات الضرورية وتتابع تطوير البحث في المجال وتعميقه (ص127).

د – وليست المرافقة الآلية الوحيدة التي يجب أن تعتمدها الحياة المدرسية حتى تجوّد دورها وترتقي بمردودها وتحتفي فعلا بتلاميذها، بل لابد من الإصغاء الإيجابي للتلاميذ واعتماد دراسة الحالة والمقابلات الفردية الفعالة، وهو ما أكد عليه الباحث فتحي بوغرارة في مقاله الذي شارك به في هذا الكتاب وعنوانه “توظيف منهجية دراسة الحالة في المسار الإصغائي ملامح تجربة إصغائية لمستشار في الإعلام والتوجيه” مبرزا ضرورة الإستجابة إلى “الأشكال المتنوعة من الطلب التلمذي للإصغاء والتفهم والمساعدة وحتى النجدة”(ص145) “حتى وإن إكتفى فيها المصغي بالحدود الدنيا للإصغاء فذلك أفضل بكثير من ترك التلميذ لأشكال خطيرة من العزلة والإنغلاق والضياع. مهم أن تُفتح للتلميذ زوايا للبوح والتنفيس والتعبير في إطار من الثقة والسرية”(ص146). غير أن الميدان يشهد بنقص نشاط الإصغاء “وبضمور أشكال المرافقة الفردية للتلميذ” في مقابل سيطرة الإعلام الجماعي خاصة الموجه منه لتلاميذ الأولى والثانية والباكالوريا(ص146) . ويجزم الباحث أن هذا النشاط بعيد كل البعد عن الكفاية والجدوى إذا لم تسنده وتكمله أنشطة أخرى نوعية تستهدف التلميذ من حيث هو فرد ذو خصوصية”(ص146). ويؤكد الباحث أنه في اللقاءات الفردية “هناك دائما ما يمكن تقديمه لذات التلميذ: تدريبه على التفكير المنطقي، مساعدته على تنظيم أولوياته، تحسين قدرته على الحوار والتعبير، مساعدته على الوعي بمسؤوليته الفردية والتدرب تدريجيا على تحملها، دعوته إلى توضيح رؤيته للمستقبل واكتشاف ميوله وموازنتها مع قدراته…”(176-177) وجميعها حيثيات لا توفرها الحصص الجماعية. وبهذا يفتح هذا الخبير آفاقا كبيرة أخرى أمام التوجيه والإرشاد المدرسي يمكن أن تثري إلى حد كبير الحياة المدرسية وتجذر عنايتها بالتلاميذ واشتغالها على صعوباتهم ومشاكلهم بشكل فردي منفصل عن الوضعيات المعممة. وهذا يستدعي تأطيرا تشريعيا حديثا يحصّن أطراف عملية الإصغاء ويفرض التجذير القانوني للحياة المدرسية وأنشطتها.

ه – غير أن تطوير الحياة المدرسية لا يكتمل حسب هؤلاء الباحثين إلا بالحرص على مسايرة التطور التكنولوجي المشهود الذي تعرفه الإنسانية والإستفادة من فرصه والتحصن من مخاطره. وهذا يستدعي تربية رقمية خصوصية وتعاملا عمليا مفيدا مع وسائل الإعلام، وهو ما حرص على ابرازه المستشار العام الخبير مصطفى شيخ الزوالي في مقاله عن “التربية الرقمية في مواجهة أزمة المدرسة: من أجل بناء الفرد وإعادة صياغة مفهوم المواطنة“. فالوضع لدى شبابنا صار حساسا جدا بعد أن أثبتت الدراسات “أن معدل الساعات التي يقضيها الطالب مع الفايسبوك تجاوز 6 ساعات يوميا” وضعف هذا العدد تقريبا لدى تلاميذ الثانوي الذين وصل معدل الإقبال على الفايسبوك لديهم إلى ” 10 ساعات يوميا”(ص217). والإستفادة من هذه التكنولوجيا الحديثة مرتهن بحسن التصرف في هذا الزخم الإتصالي المتنامي والنجاح في توظيفه التوظيف الحسن حتى يكون في خدمة المدرسة ومن ضمانات نجاح مرتاديها من الأطفال والشباب اليافع. بل “يتطلب منا هذا الواقع الجديد إعادة التفكير بعمق في رؤيتنا لدور التربية في المجتمع وتأسيس رؤية جديدة تختلف كليا عن التربية التقليدية وعن تربية عصر الحداثة”(ص218). و”قد تساعد التربية الرقمية على مواجهة الدور المتنامي لتكنولوجيا الإعلام والإتصال في ثقافة الأطفال والشباب، كما قد تساعد على فهم متطلبات العصر الرقمي وخلق فكر يأخذ في الحسبان تعقيد العالم”. فتتاح بذلك “الفرصة لمقاومة الأفكار الأحادية المشوهة، المبسطة، الدوغمائية التي تواصل الإزدهار اليوم لأننا لم نخلق نظاما تعليميا قادرا على المواجهة”(ص219) حسب عبارات إدغار موران. أما محليا “فيشهد المجتمع التونسي اليوم انتقالا من نمط علاقات اجتماعية قائم على الهرمية والتسلط إلى نمط علاقات جديدة قائم على رفض هذين المبدأين والمطالبة بالمساواة والمشاركة والحرية”(ص224). والمؤسسة التربوية ليست معزولة عن هذه التطورات بل هي من أوّل المتأثرين بها وتتحمل وزر “إدارة التناقض بين وظيفتين أساسيتين للتربية : وظيفة المحافظة التقليدية لضمان استمرار المجتمع واستقراره، ووظيفة التكيّف باستمرار مع التغيرات الدائمة التي تفرضها تعقدات الحياة والتطورات المجتمعية المتلاحقة”(ص226-227). لذلك أصبحت التربية الإعلامية أو التربية على الميديا من أوكد ما يجب أن تضطلع به المنظومات التربوية الحديثة باعتبار الخدمات التي تقدمها للناشئة وباعتبار تأثيرها على الحياة المدرسية وتحفيزها على الإقبال على المؤسسات وعلى النجاح وتنويع إستشرافها للمستقبل. إذ “تساهم التربية على الإعلام والميديا اليوم في إعداد التلاميذ أن يكونوا مواطني الغد، تعلمهم البحث عن المعلومة وتحديد مصدرها وفهم آليات صناعة المعلومة والصورة، كما تعلمهم كيفية إرسالهم للمعلومة وتسمح لهم بتعلم كيفية ممارسة حريتهم…”(232). ويصبح عالم المدرسة بالتالي متنوعا وجاذبا ولا يقل غنى عن العالم الخارجي، وتتواتر فيه فرص تنمية المواطنة الرقمية التي “تستخدم الأنترنيت بشكل منتظم وفعال”(ص239). ويوضح الباحث بتفصيل الأهداف التربوية للمواطنة الرقمية ومحاورها التسعة(ص240). كما يضع الإصبع على النقائص المفزعة لمنظومتنا التربوية حيث “لم يجد أثرا لحضور مفهوم التربية على وسائل الإعلام في كل الإصلاحات التربوية السابقة في تونس كما لم يجد أثرا مباشرا وصريحا لاستخدام مصطلحي التربية الرقمية أو المواطنة الرقمية في الخطاب الرسمي للإصلاح التربوي الراهن بتونس”(249) رغم ما لذلك من قيمة في تكوين التلاميذ وفي الإرتقاء بالحياة المدرسية بصفة عامة.

الخاتمة :

إن تعدد البحوث في هذا الكتاب يطلع قارئه على واقع المدرسة التونسية التي تحلّق بجناح واحد بسبب تعدد نقائصها في مجال الحياة المدرسية خاصة التي لازمها الإهمال واللامبالاة واستهان الجميع بتأثيراتها على كل المنظومة التي ترتبط قيمتها بصلاح الحياة المدرسية فعلا . غير أن المسؤولين على تقييم المؤسسة التربوية وإصلاح آدائها يركزون فقط على الجانب البيداغوجي وعلى المقررات والمقاربات ويجتهدون دائما في محاكاة التجارب الناجحة دوليا والمرتبة في المراكز الأولى في التقييمات التربوية الدولية غير مدركين أن ذلك لن يجدي كثيرا في واقع الفوضى التي تعم المؤسسات وتراكم نقائصها وتعكر المناخ المدرسي وغياب الرعاية والمتابعة للفضاءات وللتلاميذ وسوء التصرف في المتاح بالمؤسسات. وهو ما شخصته المقالات الواردة بهذا الكتاب ووضعت الإصبع على منافذه وتمظهراته في العلاقات التربوية السائدة وفي الزمن المدرسي والمسارات الدراسية المقترحة والإنقطاع على الدراسة ومواكبة التجديدات التكنولوجية. ومما يزيد في مصداقية التحاليل الواردة في الكتاب أن مؤلفيه الثمانية من خبراء الحياة المدرسية الذي قضوا السنين الطوال في معايشة المنظومة والتعامل معها تدريسا وإرشادا وبحثا وتكوينا ، إضافة إلى تكوينهم العلمي المرموق الذي يجعلهم قادرين على حسن التشخيص وسلامة التحليل ووجاهة البدائل التي يقترحونها. ومع ذلك يبقى القول في الحياة المدرسية غير منتهي إذ هنالك مداخل كثيرة أخرى يمكن مقاربتها منها ، مثل الأنشطة الثقافية والإبداعات التلمذية والعنف المدرسي والحوكمة والتسيير وجمالية الفضاءات والدعم المدرسي والتسليع التربوي وعلاقة المؤسسات التربوية بمحيطها وواقع التلاميذ النفسي والإجتماعي ، إلى غيرها من المسائل التي يستدعي أمرها من هؤلاء الباحثين وغيرهم أن يعيروها لفتة واهتماما . 

__________

*محمد رحومة العزي

قابس في 07/11/2024


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة