التصوُّف البَصْرِي وتطوّره بعد المقدّمات الرهبانيَّة
مقدمة
ارتبط تاريخ إنشاء مدينة البصرة بالإذن الذي أعطاه الفاروق عمر بن الخطاب (ت 23هـ) للقائد عتبة بن غزوان بتمصير معسكر البصرة سنة 14 أو 17 هـ ( ياقوت الحموي 432 ج1 ). والبصرة أول تجربة عربية مكونة من نسيج عمراني تقطنه أخلاط من قبائل شتى تختلف نسبًا وعصبًا وهو غير مألفهم. نعم لقد عهدوا مدينة القبيلة الواحدة ومدينة ذات التعدد القبلي ولكن ضمن معاهدات الحلف. ولكن أنموذج البصرة هو أول مكان مدني أنشأ من شبه عدم على منهج أخوة الإسلام وأخوة البشرية دون إملاءات وشروطات معاهدات الحلف.
ولكن هناك شيء آخر مهم، وعلى من يقطن البصرة أن يستعد له، وهو مرتبط بكون العراق خليط ديانات سماوية وبشرية. ومن بين الديانات المنتشرة في العراق الديانة النصرانية المسيحية، حيث كانت أغلب نصارى العراق من أتابع الكنيسة النسطورية، وهنالك أقليات من أتباع الكنيسة اليعقوبية وكذلك اليهود والمندائية. في هذه المقالة سنتطرق إلى المدن القريبة من البصرة المندرسة والباقية ذات توجهات مسيحية. فتح هذا البعد في هذه المقالة سيقودنا إلى استدعاء التصوف بين الحركات الرهبانية التي أسلمت في محيط البصرة وانتقلت للإقامة فيها والتي رصد قدماء المسلمين تواجدهم وسلوكياتهم وتناقلوا الروايات عنهم.
ننطلق هنا بالتحدث عن مدينة قريبة من البصرة مندرسة اسمها “إسكندرية الفرات”، وبها كنائس نسطورية وسنتحدث عن والد التابعي محمد بن سيرين ونشأته في مدينة “عين التمر” المتاخمة لـ “نجران الكوفة” التي غلب عليهما تواجد للمسيحين النساطرة وأتباع الكنيسة الأرثوذكسية. بعد ذلك نذكر روايات ابن سرين عن رهبانية المتصوفة القدماء. لنؤكد أنَّ ابن سيرين ر. فهم توجيهات الرسول ص للروحانيين من الصحابة. حيث إن الرسول ص أوقف تسرب “الرهبانية الخشنة” ولكنه ص. أطلق العنان “للروحانية الناعمة”. فهذا هو ابن سيرين لا يستنكر الرهبانية الناعمة (والتي اتخذت اسم “التصوف” لكي تستقل عن الرهبانيات الخشنة) بل يستنكر أي اقتباس ذو طابع خشن من الرهبان. نجح ابن سيرين بفهمه هذا من بسط تأثير على بقية الفقهاء الذين خلفوه. فنشاط الفقهاء القدماء في تصويب الرهبانية لم يتوقف بل استمر ليكون قوة ضاغطة على من تصوف من الرهابنة لكي يتركوا برارية وخشونة رهبانيتهم لصالح انخراطها في المشروع الروحاني الإسلامي لصالح روحانية مدينيّة ناعمة.
نساطرة “إسكندرية الفرات”
هناك دويلة نسطورية ذات تاريخ حافل بكنائسه وثقافته والتي كان لها دورا بارزا في خلق بيئة عراقية مسيحية، وتبعد هذه البلدة فقط عدة كيلومترات عن موقع مدينة البصرة. فبالقرب من موقع مدينة البصرة بنى الإسكندر المقدوني عام 324 قبل الميلاد مدينة اسمها “إسكندرية الفرات” أو خاراكس سپاسينو. يمكن استخلاص تاريخ مدينة خاراكس من النصوص القديمة ومصادر علم المسكوكات.
بعدها انتقلت المدينة إلى الإمبراطورية السلوقية بعد وفاة الإسكندر، حتى دمرت في وقت ما بسبب الفيضانات.
سمح عدم الاستقرار السياسي الذي أعقب الغزو الپارثي لمعظم الإمبراطورية السلوقية هسپوسنس بإنشاء دولة مستقلة، اسمها مملكة “ميسان”، في 127 قبل الميلاد.
المصدر
عادل هشام علي، “الاسكندر الكبير والوجود البحري الهيلنستي في جنوب بلاد الرافدين والخليج”
استمرت “خاراكس” عاصمة الدولة الصغيرة لمدة 282 عاماً، علما أن مسكوكاتها النقدية تشير إلى أنها دوباة يونانية، متعددة الأعراق، ذات روابط تجارية واسعة. إستعادها الرومان السيطرة على المدينة أثناء حكم تراجان (Trajan) في عام 116 بعد الميلاد ثم أعيد استقلال ميسان بعد 15 عاماً تحت حكم ميثريديت (Mithridates) وهو نجل الملك الپارثي پاكوروس (Parthian King Pacoros) ، خلال الحرب الأهلية على العرش الپارثي (Parthian throne). في الفترة من 221 إلى 222 بعد الميلاد، قاد أحد أبناء العرق الفارسي أردشير، الذي كان حاكم المقاطعة من فارس، ثورة ضد الپارثيين، وأسس الامبراطورية الساسانية. ووفقاً للتاريخ العربي اللاحق، هزم قوات ميسان، وقتل آخر حاكم لها، وأعاد بناء المدينة وأطلق عليها اسم گرگان-أردشير[الطبري] المنطقة المحيطة بخاراكس التي كانت مملكة ميسان كانت معروفة عندها بالاسم الآرامي/الاسم السرياني “ميسان”، والذي تم تعديله لاحقاً من قبل الفاتحين العرب. تابعت خاراكس، باسم ميسان، بالنصوص الفارسية التي تذكر الحكام بشكل متنوع خلال القرن الخامس.
أهم ما يجب علينا أن نضعه في حساباتنا أن هذه المدينة المتاخمة للبصرة ذكرها القدماء بأنها ذات كنيسة نسطورية.
المصادر:
(https://www.marefa.org)
(https://iranicaonline.org/articles/characene-and-charax-spasinou-in-pre-islamic-times)
ابن سيرين البصري
ماهي خلفية التابعي ابن سيرين. فقد تحدثت رواياته المنقولة إلينا عن تصوف نصارى من منطقة البصرة. فابن سيرين وأسرته لهما تاريخ مرتبط ومتاخم ومحتك مع نساطرة محيط مدينة البصرة. واسمه أبو بكر محمد بن سيرين البصري، (32 – 110 هـ) ولد في البصرة بعد خمسة عشر عاما من تأسيس مدينة البصرة وتوفي فيها.
(الطبقات الكبرى لمحمد بن سعدج7ص121)
والد ابن سيرين من رعايا بلدة “عين التمر” والتي كان يقطنها كثير من النصارى مع المجوس. كما أن الطبري ذكر في تاريخه أن بلدة أو هجرة “نجران الكوفة” تقع ناحية بلدة عين التمر. وكما ذكرنا أن نصارا نجران كانوا خليط من النساطرة والأرثوذكس. ونجران الكوفة، على يومين من عين التمر. ونجران الكوفة سكنها أهل نجران لما أجلاهم عمر بن الخطاب ر.، فسموا الموضع باسمهم. وعين التمر: بلدة في طرف البادية على غربي الفرات، أكثر نخلها القسب، ويحمل قسبها إلى سائر الاماكن.
(مراصد الاطلاع). شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 250.
معنى سيرين
اسم علم مؤنث فارسي، مركب من “سِير: الشبعان” و “ين”: علامة اسم التفضيل العليا، أو لاحقة التشبيه والنسبة.
معناه: الكثيرة الشبع، الممتلئة، العبلاء.
وسيرين بنت شمعون أخت السيدة مارية القبطية زوج رسول الله (ص). وسيرين بنت شمعون خالة إبراهيم ص. ابن السيدة مارية والابن الوحيد الذي أنجبه النبي ص. من كل زوجاته بعد السيدة خديجة. وهي أيضاً زوج حسان بن ثابت شاعر الرسول وأنجبت له الصحابي عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. ترجم لها ابن عبد البر في كتابه الاستيعاب في معرفة الأصحاب وابن حجر في كتابه أسد الغابة في معرفة الصحابة وغيرهما، وروى عنها ابنها عبد الرحمن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى عنها ابنها عبد الرحمن أنها قالت: حضر إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم الموت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما صحت أنا وأختي نهانا عن الصياح وغسله الفضل بن العباس ورسول الله والعباس على سرير ثم حمل فرأيته جالسا على شفير القبر ونزل في قبره الفضل والعباس وأسامة وكسفت الشمس يومئذ، فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكسف لموت أحد ولا لحياته ـ الحديث. [أسد الغابة – ابن الأثير – ج 5 – الصفحة 486].
مرقد الحسن البصري ويجاوره ضريح
الامام محمد بن سيرين في البصرة
روايات ابن سرين عن رهبانية المتصوفة القدماء
في الرواية التالية نقرأ إقرار من ابن سيرين، وهو ذلك التابعي الزاهد المطلع على أحوال الناس في منطقته، أنه رصد فريق من الناس قبل أن يتصوفوا كانوا رهابنة. هذه الرواية التي أفادها ابن سيرين مهمة جدا خصوصا وأن اسرته محتكة جدا بالنصرانية قبل إسلامها مما يجعله خبير بعاداتهم.
روى أبو الشيخ الأصبهاني
(أبو الشيخ الأصفهاني (274 هـ – 369 هـ = 887م – 979 م)، أبو محمد، عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، الأصبهاني، المعروف بأبي الشيخ، صاحب التصانيف) بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف فقال: إن قوما يتخيرون الصوف يقولون: إنهم متشبهون بالمسيح ابن مريم وهدي نبينا أحب إلينا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره أو كلاما نحوا من هذا.
المصادر:
مجموع فتاوى ابن تيمية، (7/11).
الذهبي، محمد بن أحمد (1405 هـ). تحقيق شعيب الأرنؤوط (المحرر). سير أعلام النبلاء (ط. 3). بيروت: مؤسسة الرسالة. ج. مج16. ص. 276–280.
فهمنا يجب أن يدرك ابن سيرين لا يمارس اجتهادا ذاتيا يتعامل معالمسوح-الصوف . فلبس المسح أو الصوف كام مألوفا بين المجتمعات متعددة الديانات خصوصا لدى ابن سيرين الذي أتى والده من بلدة عين التمر وهي مدينة ممتلئة بالنصارى وهي بمحاذات “نجران الكوفة” وهي قريبة من كنيسة النساطرة الواقعة في جنوب البصرة. إذا ابن سيرين لا يستنكر مألوفات طفولته وأسرته. بل إنه يستنكر شيء آخر. يستنكر تسلل خشونات الرهبانية إلى الإسلام. وهي ذاتها التي استنكرها الرسول ص.
ابن سيرين بمواقفه الفقهية يواصل سنة الرسول ص القائمة على مقاومة السلوكيات الرهبانية الخشنة الصّلبة لصالح أنسنتها عبر سلوكيات روحانية ناعمة. وذلك برفض لبس القماش الخشن لصالح قماش قطني يناسب الطبيعة الإنسانية.
فهم ابن سيرين ر. توجيهات الرسول ص للروحانيين من الصحابة. حيث أن الرسول ص أوقف تسرب الرهبانية الخشنة بين أصحابه ولكنه ص. بالمقابل أطلق العنان للروحانية الناعمة. فهذا هو ابن سيرين لا يستنكر الرهبانية الناعمة والتي اتخذت اسم “التصوف” لكي تستقل عن الرهبانيات الخشنة بل يستنكر فقط اقتباس الخشونة منها. نجح ابن سيرين بفهمه هذا من بسط تأثير على بقية الفقهاء الذين خلفوه. فنشاط الفقهاء القدماء في تصويب الرهبانية لم يتوقف من كونه قوة ضاغطة على من إبتدء تجرية التصوف الاسلامي من بعد تجربة الرهابنة النصرانية تضغط لكي يتخلى الرهباني الذي تصوف عن البرارية الصحراوية والخشونة لصالح الانخراط في المشروع الروحاني الإسلامي بممارسة روحانية مدينيّة ناعمة. وممن فهم خطوط ابن سيرين الفقهية الفقيه سفيان الثوري والحسن بن الربيع وبشر بن الحارث:
فقد نقل عن سفيان الثوري أنه قال لرجل عليه صوف: لباسك هذا بدعة. كما روى عن الحسن بن الربيع أنه قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول لرجل رأى عليه صوفا مشهورا: أكره هذا، أكره هذا. وروي عن بشر بن الحارث أنه سئل عن لبس الصوف. جاء عبد الكريم بن ابي المخارق البصري ابو امية المعلم (ت 126 هـ) إلى أبي العالية وعليه ثياب صوف، فقال له أبو العالية: (إنما هذه ثياب الرهبان، إن المسلمين إذا تزوروا تجملوا فشق عليه، وتبين الكراهية في وجهه، ثم قال: لبس الخز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار. نقل ابن عبد ربه في (العقد الفريد) عن حماد بن سلمة أنه قال لفرقد السنجي حينما رآه لابسا الصوف:
“دع عنك هذه النصرانية”.
وأورد ابن الجوزي مثل هذه الرواية بسنده حيث قال:
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد، حدثنا حمد بن أحمد الحداد , حدثنا أبو نعيم الحافظ , حدثنا أبو حامد بن جبلة , حدثنا حمد بن إسحاق , حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث , حدثنا هارون بن معروف , عن ضمرة , قال:
سمعت رجلا يقول: قدم حماد بن سلمة البصرة، فجاءه فرقد السنجي وعليه ثوب صوف، فقال له حماد: ضع عنك نصرانيتك هذه، فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم – يعني النخعي – فيخرج علينا وعليه معصفرة.
كل الروايات تؤكد أن الفقهاء لم يعترضوا على طرق السلوكيات الروحانية، واقتصرت تعابير الروايات لتطلق موقف الفقهاء من منع توغل المخاشن الرهبانية الى الإسلام.
من القلالي البِرَاريّة إلى “ الفَقْرِيّة ” أو دُوَيْرَة للصوفية في المدينة
شاءت الأقدار أن تكون سنة أهل الرهبانية أن يخرجون الى البراري والصحاري والخلوات يتأملون ويمارسون المناجاة والنهامة والتبجيل لله.
وكانوا يسكنون في “محابس” تحبسهم عن بقية الناس ليقل احتكاكهم بالبشرية فلا يشغلهم عن الله شيء وتزداد فرص الخلوات التعبدية. فكانوا يلجؤون الى المغارات، وإن لم يجدوا بنوا قلة (القلالي). وإذا اشتهر مكان براهب في قلته تبعه راهب آخر فيبني قلة له ليقطن ليس بعيدا عن الراهب آخر. هكذا تجتمع القلال فتسمى قلالي. ثم يحفرون بئرا للماء. وقد يبنون كنيسة وثم إذا شعروا بخطر غارات أهل البادية عليهم يحوطون قلاليهم بسور فيسمى هذا المجمع الديني ديرا.
نتيجة توجيهات الرسول ص لأصحاب الاحتياجات الروحانية أن لا يمارسوا الرهبانية الصلبة، قرر الرهبانيون الذين اعتنقوا الإسلام أن يؤنْسِنُوا الدور لتكون دور التأملات الروحانية لا ببنائها كمحابس إنفرادية في البراري بل بتشييدها في المدن لكي يلتقي فيها جماعة الروحانيون في نطاق ومحيط المدينة، لتتمشى مع سنة النبي ص. يذكر ابن تيمية الحراني تطور سلسلة من المتصوفة أحمد علي الهجيمي، الذي صحب عبد الواحد بن زيد، الذي صحب الحسن البصري. ومن أن أحمد علي الهجيمي ومن اتبعه من المتصوفة بنوا دويرة لهم تسمى الفقرية أو دويرة التصوف. وهي أول دار للتأمل الروحاني بُني في الإسلام. وكان البصري عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري (ت 198 هـ) وغيره يسمونها “الفقرية”.
أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية هو أحمد بن عطاء الهجيمي (المُتوفَّى سنة 200 هـ)، وهو من أصحاب عبد الواحد بن زيد (المُتوفَّى سنة 177 هـ)، وبن زيد من أصحاب الحسن (البصري). إذا فإن شيخ الصوفية، العابد القانت، أحمد بن عطاء الهجيمي (المُتوفَّى سنة 200 هـ)، البصري قد نصب نفسه للأستاذية، ووقف دارا في بلهجيم (حي من أحياء البصرة يقطنه بنو الهجيم، بني الهجيم أو بلهجيم أو بلهجم قبيلة من بني تميم) للمتعبدين والمريدين يقص عليهم، قال ابن الأعرابي (واسمه أ حْمد بن مُحَمَّد بن زِيَاد بن بشر بن أَحْمد بن يحيى بن دِرْهَم بن عبد الله الْعَنزي، ت 340 هـ) في طبقات النّساك: وأحسبها أول دار وقفت بالبصرة للعبادة.
ثاني دُوَيْرَة للصوفية
استثمر الشيخ البصري أَحْمَدُ بنُ غَسَّانَ الزَّاهِدُ (المُتوفَّى سنة 230 هـ)، أجواء التصوف في مرحلتها الجنينية الراغبة بالجلوس في خلوات تسمح لمريدي التصوف من ممارسة التألملات الروحية في صمت. وهذه الشخصية أي أحمد بنُ غَسَّانَ الزَّاهِدُ معضودا بَأَبُو بَكْرٍالعَطَشِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الحَمَّالُ، أصبح شيخ متصوفة البصرة بعد رحيل شيخه أحمد بن عطاء الهجيمي (المُتوفَّى سنة 200 هـ)، فجَلَسَ فِي المَشْيَخَةِ ابْنُ غَسَّانَ، فَوَقَفَ دَاراً لِنَفْسِهِ. هكذا أطلق بنُ غَسَّانَ الزَّاهِدُ العنان لسُنّة تأسيس ” الفَقْرِيّات “ أو دُوَيْرَات للصوفية لتلبية احتياجاتهم.
ترجمه الذهبي في ” تاريخ الإسلام ” وفيات (221-230) ص (49) فقال – رحمه الله -: أحمد بن غسان البصري العابد أحد مشايخ العابدين بالبصرة، صحب أحمد بن عطاء الهجيمي الزاهد، وبنى دارا للزهاد، وكان يعظ ويتكلم على الأهوال بعد شيخه، ولكن كان يقول بالقدر ورجع عنه، فلما كانت أيام المحنة أيام المعتصم أبى أن يقول بخلق القرآن فحمل إلى بغداد وحبس بها، فاتفق معه في الحبس أحمد بن حنبل والبويطي، قال علي بن عبد العزيز البغوي: سمعت البويطي يقول: قلت لأحمد بن حنبل: ما أحسن كلام هذا الرجل – يعني أحمد بن غسان – قال: إنه بصري وأخاف عليه – يعني القدر – إلا أنهما سمعا كلامه وأعجبهما هديه، وخاطباه في القدر فرجع عنه. . . قال: ومات فيما أحسب ببغداد في السجن، وأخبرني أحمد بن محمد الحراني أنه سمع أبا داود يقول: قال أحمد بن حنبل: ما خرجت حتى رجع أحمد بن غسان عن القدر.
بعد صدر الإسلام دخلت مفردات غير عربية لتدل على دُوَيْرَات للصوفية منها: الخانقاوات والتكايا والزوايا.
.
تنظيم التصوف بين شيخ ومريد ودويرة
ولهؤلاء من التعبد المحدث طريق يتمسكون به مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع، وضار لهؤلاء حال من السماع والصوت حتى إن أحدهم يموت أو يغشى عليه).
يقول زكريا بن محمد بن محمود القزويني (ت 682هـ) في ص 361 من كتابه “آثار البلاد وأخبار العباد” الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير. وهو الذي وضع طريقة التصوف وبنى الخانقاه، ورتب السفرة في اليوم مرتين، وآداب الصوفية كلها منسوبة إليه، وكذا الانقطاع عن الدنيا.
عَبْد المنعم بْن مُحَمَّد بْن طاهر بْن سعيد بن فضل اللَّه بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم، أبو الفضائل بن أبي البركات بن أبي الفتح بن أبي طاهر بن [أبي] سعيد بن أبي الخير الصوفي. وهو من أهل ميهنة، من أولاد المشايخ وأعيان الصوفية، ولم يكن في أولاد الشيخ أبي سعيد في وقته مثله، سمع الحديث بمرو من أبي الفتح عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن أردشير الهشامي وأبي بكر محمد بن منصور بن عبد الجبار السمعاني، وب بنج ديه من أبي الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ المروزي، وسمع أيضا من والده أبي البركات ومن الإمام أبي حامد الغزالي الفقيه، وقدم بغداد واستوطنها إلى حين وفاته برباط ابن المجلبان المعروف ب البسطامي بالجانب الغربي شيخا للصوفية ومقدما على مشايخ وقته، وحدث ببغداد، سمع منه الشريف أبو الحسن عليّ بْن أَحْمَد الزيدي وإبراهيم بْن محمود بن الشعار، وروى لنا عنه ولده أحمد، وكان شيخا صالحا نزها، عفيف النفس، مشتغلا بما يعنيه، كثير العبادة والتهجد، صائنا نفسه عن القاذورات، وكان يأوي في أكثر الأوقات إلى مسجد الشونيزية ويخلو فيه نفسه.
المصدر: أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي أبو بكر ابن النجار (ت 463 هـ) في كتابه ذيل تاريخ بغداد.
مات أبو الفضائل شيخ رباط البسطامي في يوم الجمعة ثالث عشري المحرم سنة خمس وستين وخمسمائة، وكان شيخا حسنا، له ثمانية وسبعون سنة وله سماع في الحديث، ذكر غير صدقة أنه دفن بالشونيزية في صفة الجنيد مقابل قبره.
أول من نعت بالصوفي
وذُكر في “سلم الوصول” أن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة خمسين ومئة (150 هـ)، قدوة الزهاد أبو هاشم الصوفي، من أجفة مشايخ الشام، المتوفى سنة خمس وخمسين ومائة أصله من الكوفة وهو أول من انتسب إلى التصوف واشتهر بالصوفي وكان سفيان الثوري يقول: لولا أبو هاشم ما عرفت دقيق الريا وما أعلم ما الصوفي وكان أبو هاشم يقول قلع الجبال بالإبر أيسر من إخراج الكبر من القلوب.
المصدر
سلم الوصول إلى طبقات الفحول، تأليف: حاجي خليفة، ج1/ص106.
ذكره ابن خلدون في تاريخ ظهور اسم التصوف ما ذكره الكِنْدي ـ وكان من أهل القرن الرابع ـ في كتاب “ولاة مصر” في حوادث سنة المائتين: إنه ظهر ب الإسكندرية طائفة يسمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف.
ومن اللافت أن التصوف تطور وتجاوز الفردانية ليتقولب في شكل جماعة ذات رسالة وقيم مجتمعية نبيلة. فيفيدنا للذهاب الى هذا القول ما ذكره أبي عمر محمد بن يوسف الكندي المصري (ت 350 هـ) في كتاب “ولاة مصر” أنه في حوادث سنة المائتين “ إِنَّهُ ظَهَرَ بِالاسْكَنْدَرِيَّةِ طَائِفَةٌ يُسَمَّوْنَ بِالصُّوفِيَّةِ يَأْمُرُونَ بِالـمَعْرُوفِ”.
كتب في التصوف قديمة:
الحارث المحاسبي، المتوفى سنة 243 هـ، ومن كتبه: بدء من أناب إلى الله، وآداب النفوس، ورسالة التوهم.
أبو سعيد الخراز، المتوفى سنة 277 هـ، ومن كتبه: الطريق إلى الله.
أبو نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي، المتوفي سنة 378 هـ، وله كتاب: اللمع في التصوف.
أبو بكر الكلاباذي، المتوفي سنة 380 هـ، وله كتاب: التعرف على مذهب أهل التصوف.
أبو طالب المكي، المتوفى سنة 386 هـ، وله كتاب: قوت القلوب في معاملة المحبوب.
أبو قاسم القشيري، المتوفى سنة 465 هـ، وله الرسالة القشيرية، وهي من أهم الكتب في التصوف.
أبو حامد الغزالي، المتوفى سنة 505 هـ، ومن كتبه: إحياء علوم الدين، الأربعين في أصول الدين، منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين، بداية الهداية، وغيرها الكثير. ويعد كتاب إحياء علوم الدين من أشهر -إن لم يكن الأشهر- كتب التصوف ومن أجمعها.
التصوف الشرعي
لكي يسهل علينا استيضاح ما خفي من جدل بين القوم يجدر بنا أن نرفع عناوين تجلي ما هاض في الأفق من عج. هناك تدين شرعي مثل ما أن هناك تدين شعبي. ومن أتباع التدين الشرعي هم شيوخ التصوف شيخ الطائفة الإمام الجنيد من الذين يمثلون التصوف الشرعي خير تمثيل.
قَالَ الجنيد: من لَمْ يحفظ الْقُرْآن وَلَمْ يكتب الْحَدِيث لا يقتدى بِهِ فِي هَذَا الأمر، لأن علمنا هَذَا مقيد بالكتاب والسنة.
أخبر أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول عَنِ الجنيد: مذهبنا هَذَا مقيد بأصول الكتاب والسنة
وَقَالَ الجنيد: علمنا هَذَا مشيد بحَدِيث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل للجنيد: من أين استفدت هَذَا العلم فَقَالَ: من جلوسي بَيْنَ يدي اللَّه ثلاثين سنة تَحْتَ تلك الدرجة، وأمأ إِلَى درجة فِي داره.
سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يحكي ذَلِكَ وسمعته يَقُول: رؤى فِي يده سبحة فقيل لَهُ أَنْتَ مَعَ شرفك تأخذ بيدك سبحة فَقَالَ: طريق بِهِ وصلت إِلَى ربي لا أفارقه.
وسمعت الأستاذ أبا عَلِيّ رحمه اللَّه يَقُول كَانَ الجنيد يدخل كُل يَوْم حانوته ويسبل الستر ويصلى أربع مائة ركعة ثُمَّ يعود إِلَى بيته.
وَقَالَ أَبُو بَكْر العطوي كنت عِنْدَ الجنيد حِينَ مَات ختم الْقُرْآن ثُمَّ ابتدأ من البقرة وقرأ سبعين آية ثُمَّ مَات رحمه اللَّه.
المصدر
عبدالكريم القشيري “الرسالة القشيرية” ج 1 ، ص 80.
التصوف الشعبي
قد وافقَ أكثر الدارسين على التزام من عُرِف بالتصوف بقواعد الشريعة الإسلامية على مذهب أهل السنة، لكنَّ بعض المستشرقين الغربيين نتيجة عدم قدرتهم على التميز بين التدين الرسمي والتدين الشعبي مثل لرينولد نيكلسون ذهب إلى أن تدينات بعض الشعبيين مهَّد بمبالغتهم في اتباع الأوامر الدينية لظهور مذهب جديد أوشك في النهاية أن يتحلل أصحابه من تلك الأوامر الدينية، وأن التصوف دخل خلال القرن الثالث الهجري دورًا جديدًا، بعدما طغت عليه اتجاهات فلسفية بعيدة عن الإسلام.
المصدر
لرينولد نيكلسون، Nicholson، Reynold Alleyne /ترجمة أبي العلا عفيفي/ ص69 –70.
“صوفيٌّ في مواجهة صوفيٍّ”
المتصوفة الشرعيون القدماء واجهوا ظاهرة التصوف الشعبي/الفلكلوري مبكراً جداً، فهم أول مدرسة تقف بالمرصاد أمام “ذاتها”. قال المتصوفة الشرعيون إنَّ “الاستقامة (الشرعية) أعظم كرامة”. وعند بداية ظهور المعتقدات الشعبية المتنافسة مع المعتقدات الشرعية قام الصوفي أبو القاسم الجنيد بن محمد الجنيد البغدادي (ت.297 هـ)، بنقد المعتقدات القائلة بالطيران والمشي على الماء وطول عمر الإنسان، على أنها علامات للدِّين الشرعي والصلاح:
“إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تلتفتوا إليه فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب ويمشي على الماء ولكن انظروا في اتباعه الكتاب والسنة، فإن الشيطان لا يقدر على ذلك أبدا”.
ورد هذا النص عن الإمام الجنيد في ص 126، في كتاب من وضع الشيخ محمد فتحا بن عبد الواحد السوسي/النظيفي الدرة الخريدة شرح الياقوتة الفريدة ج2، والذي نشرته دار الفكر في عام 1984.
علما أن أغلب الجماعات قامت على مبدأ النصرة، في حين أن الصوفي ينصر “القيمة” و”المبدأ”، ولم ينصر الرِّجال بلا تحرٍّ ونقد، لذلك نجد أغرب ظاهرة قديمة في الحركات الإسلامية؛ “صوفي ضد صوفي”، من أجل نصرة الحقيقة.
تنميط التصوف في أطر جاهزة، هو جزء من حبكة كلامية موجَّهة تحديداً ضدَّ المتصوِّفة، ومفادُها أنهم حركةُ عوامٍ وخرافات. نعم، هناك تصوف شعبي موثق في بعض نواحي العالم الإسلامي. أشهر من استخدم هذه الحبكة الكلامية التنميطية ضد المتصوفة هم أتباع الحركة الاستشراقية والسَّلفية. ولكن هناك فقهاء متصوفة يتواجدون بكثافة في الجزيرة العربية، وقد قاموا بدحض مثل تلك الآراء ويخوضوا نقاشات فقهية مع فقهاء سلفية في الجزيرة العربية. كتب السيد محمد بن علوي المالكي الحسني (ت. 1425 هـ) كتاباً بعنوان “مفاهيم يجب أن تُصَحَّح”، والذي نُشر في الإمارات في عام 1985. في هذا الكتاب، وضَّح أهميَّة التمييز بين التَّصوف الشعبي والتصوف الشرعي، بل أقام الحجة على وجود تيار جدلي ونقدي ذاتي صوفي شرعي، في مواجهة تيارٍ صوفيٍّ شعبي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.