أيُّ بؤْسٍ هو هذا الذي يَدْفَعُنَا إلى الكِتَابةِ؟ وأيُّ مرارةٍ تلك التي تَدْفُعنا إلى حَصْرِ انْسِيابيَة الزَّمان؟ هل حقًّا نكتُبُ من أجل مواجهةِ مصيرنا أم أننا نكتبُ من أجل الفرارِ منه؟
يبدو أنَّ الكتابةَ حول الكتابة أمرٌ في غاية التَّعقيد؛ فلا أحدَ بوسعه أن يفسِّر بالمعنى الدَّقيق المعنى الذي به تتحوَّلُ هذه الحروف التي تبني كلماتٍ إلى معاني راسخة، ولا أحد بإمكانهِ أن يدركَ اللحظة الأولى التي تمكَّن الإنسانُ من خلالها إلى تحويل العالم إلى رمز/رموز لها دلالتها. لا بدَّ من أن حصرَ موضوع الكتابةِ في نطاق ذي دلالةٍ هو الأصلُ الذي من خلاله يمكّنُنا من اتخاذها موضوع نظرٍ، ومعنى ذلك أن التفكير في الكتابةِ بواسطة الكتابةِ، أمرٌ يجعلنا في مستوًى مختلفٍ تماماً عما عساهُ تكون “الكتابةُ” حقًّا، لكن لا بأس من المحاولة والتَّفكير، ما دمنا أمام موضوعٍ بهذا التَّعقيدِ. أوَّلاً – وقبل كلِّ شيء – الكتابَةُ أداةُ الإنسانِ من أجل استيعاب الوجودِ وإدراكه، وكلَّما اتسعَ نطاقُ أدراكه كلَّما مالتْ كتابتهُ نحوَ التَّعقيدِ والدِّقة، وبالتَّالي فإنَّ الكتابةَ ملازمةٌ لمستوى الإدراكِ، وهي مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بالوعي الإنسانيّ، وهي انعكاسٌ له.
لطالما كانت الكتابَةُ رغبةً في استمراريةِ الوعي الإنسانيّ في الزمان، وانعتاقه من إيسار وربقة اللحظة والرّاهن، إنَّ الكتابةَ هي دائماً استباقٌ وإعادةُ بناءٍ للزمان، إنها تعبيرٌ عن الوعي في شقائه وبؤسه وحسرته، نحن نكتبُ حينَ نخسرُ قدرتنا على القولِ وعلى الخطاب، ونكتبُ حينَ يكون الأوان قد فات رغبةً من في استباق الخسارةِ الكليةِ، ما الأدب؟ ما الرواية؟ وما الشعر؟ وما الفلسفة؟ كلّ تلك المجالاتِ استباقيةٌ بطبعها وبلغتها وكتابتها. الكتابةُ إدراكٌ وتداركٌ واستدراكٌ، قد نخالُ من خلال هذا التّعريفِ أنَّهُ مدحٌ في حقّ الكتابة لكنه الأمرَ بخلافِ ذلك تماماً، لا يتعلَّق الأمرُ بأي نوع من الشاعرية التي يحملها الإنسانُ تجاه الكتابة، إنَّ الغاية منها تلميعُ النقص والحاجة الإنسانيتين وإظهارهما بمظهر حسنٍ، ومحاولةٌ لتوجيهه إلى مصير يتغافلُ فيه تماماً عن جمالية الوجود، تمثّل الكتابةُ لحظة انهيارٍ في مسار البشرية، إنّها بمثابة المنعطف الذي ضيّع عندهُ الإنسانُ مصيرهُ وصار إلى نقطة اللاعودة، إنَّ الكتابةَ تدارك مستمرٌ للمعنى الذي لا يرغبُ في الكشف عن نفسه إلا بواسطة الخطابِ والتعبير والحركات والسكنات، بل بالصّمت أحياناً والغياب واللامبالاة.
تمتدِحُ الكتابةُ نفسها بالكتابةِ لأنّها مفرغةٌ دائماً من الفكر، أو لأنّها تكراريةٌ بطابعها تميلُ إلى إعادةِ استحضارِ الصيغ المسكوكة التي اندثرت وانتهى بريقها. حينما كتبَ سارتر بأنَّ: «المعرفة بالكتابة تقتضي، بالفعل، الكتابة جيِّداً» (savoir écrire c’est déjà savoir bien écrire) ( J. P. Sartre, Qu’es ce que la littèrature ? p95.)، فلم يكنْ في كلامه ما يشي بأنَّ الكتابةَ “الجيدةَ” شيء يمكنُ تحديدُهُ أو رسمُ ملامحه، ف “الجيدُ” نسبيٌّ حينما يتعلَّق الأمرُ بالمنتج الأدبيِّ أو الفكريِّ، بخلاف الكتابة العلمية التي يكون الجيّدُ فيها شيئاً جديداً غير مسبوق، لكن مساحة الميتافيزيقا تحتلُ العالم ما بين الكاتب (المؤلِّف، الخاطّ) باعتباره مصدر العملية الكتابية والعمل المكتوب المؤلّف المخطوط. تختفي، إذن، رهانات الكتابة “الجيدة” والرديئة بمجرّد أن نعلن أن الكتابة كلّها عملية رديئة، وتقتضي قلباً معيناً في مسار الوعي، إننا نؤمن بأنَّ الكتابةَ في أرقى تجلياتها تعبيرٌ عن وعي ما، لكنه بكل تأكيد وعي شقي، يحاولُ حصر زمن الوجود وصيرورته.
ثمَّة أمرانِ يقضّان مضجع الإنسانِ ويقلقانهِ، وهما الدَّافعان الأساسيانِ اللذان يدفعانه إلى الكتابةِ، إننا نكتبُ هروباً من الفراغ وخوفاً من الفناء. يبدو أنَّ النظر إلى السماء ومن خلالها إلى الكون الفسيح قد خلق نوعاً من الهلع لدى الإنسان والحيرة، ما الذي عساه يكون خلف هذا المدى الذي يتَّسع باستمرار؟ لم يكنْ هذا الامتدادُ ليجعل من الإنسانِ كائناً بسيطاً، بل إنهُ يسعى من خلال تساؤلاته تلك إلى فهم النظام الحقيقي الذي تسيرُ وفقه قواعدُ الطبيعة كلِّها، وفهم القوانين التي تحكم الكون، وبذلك يحاولُ أن يعلن استمراريته الفكريةِ التي تتجاوزُ قواعد اللغة البسيطة، لكن سرعان ما يواجهُ الإنسانُ بالحقيقة التالية: ماذا بعد هذا الفراغ الكليّ؟ ماذا بعد هذا العدم الذي يقع على الحدود من كل ما هو فكريّ؟ تلك العتبةُ التي “تقلق” هذا الكائن وتعيدُه دائماً إلى مساحته الضيِّقة، بل وتحاصرهُ وتجمِّدُه كانت – هي عينها – الدّافع إلى الكتابة؛ حيثُ نحاول الكتابةَ من أجل تناسي هذا الفراغ الذي يحيطُ بنا من الجهات كلِّها، بل يمكننا القول إنه: “فراغ أصليّ فينا لا يقبل الامتلاء“.
هل تعوِّضُ الكتابةُ هذا الفراغ؟ لا بدّ أن نشير إلى طبيعة هذا الفراغ، إنه فراغ نفسيّ بكلّ ما تحمله كلمة نفسيّ من دلالات، إننا نخشى أن نكونَ وحيدين وملقًى بنا في هذا الوجود، ومن دون جدوًى نقاوم هذا الشعور المرير، تأتي الكتابةُ بكل سلطتها لتضعنا أمامَ الحقيقة الوحيدةِ والثابتة والراسخة التي لا تقبلُ الزوال، لوجودنا معنًى ثابت وقارٍ، إنه ما تؤكدهُ الكتاباتُ كلها، في سيرورتها تلك تقاوم الفراغ الذي يأسرنا ويقودنا إلى الجنون، وهذا المنحى الوجودي (الأنطلوجي) الذي لا تكون به الكتابةُ شيئاً غير التعبير عن الفراغ الموجود هنا والمكافئ لمصير هذا الكائن المتناهي.
تأتي رغبتنا في استدراك الفراغ بواسطة الكتابة من حاجتنا إلى الجواب، إننا لا نؤمن بالأسئلة المعلقة، لقد ولّدت الكتابة سلسلة من الأجوبة اللانهائية والمصيرية التي تتجاوز كلّ قدرة على الفناء، ليجبني أحد ما مصيرُ الآلهة التي لم تخلّد نفسها بواسطة الكتابة؟ لقد انمحت واندثرت وأفل نجمها، وما مصير الحضارات التي لم تجد لها إلى الكتابة طريقاً لقد فنيت وتلاشت في أفق النسيان المرّ، وبالتالي فالكتابةُ تذكرٌ لا لما كان، وإنما لما أريد له أن يكون إنها تتلاعبُ بالذاكرةِ وتعيدُ تقويمها وفق منطق السلطةِ، وتعيدُ احتكارَ كلّ شيء من خلال العملِ الدؤوب، النصوص هي محاولةٌ لكسر مسار الزمن والاحتفاظ بلحظاته مدوّنةً ومقدّسة ومبجّلةً، كلّ شيء يسكُن الكتابةَ ويسكُنُ أنماطها المتبدّلة والمتقلّبة.
وبالمقابل من ذلك فإنّ الهروب من الكتابة في الوضعية السقراطية أمر يدعو إلى كثير من النظر والاعتبار، أليس سقراط أولى بالكتابة؟ لماذا يرفض هذه المهمة؟ هل النقمة على الكتابة كما يصوّرها أفلاطون في محاورة “فيدروس” لها ما يبرّرها؟ ما الذي دفعَ أفلاطون إلى الكتابة؟