التنويريمكتبة التنويري

الأخلاق ما بين التكشُّف والتحجُّب؟

 انطلق مسار التكشف المنهجي، وهو مسار الحداثة، مباشرة بعد انهيار النسق الفلكي(الأرسطي/البطلمي) القديم، حيث تفجرت قبة السماء وأصبحنا دون غطاء و في عراء تام، وازداد الأمر توغلا بعد أن أخذ العلم الحديث دربه الآمن نحو هتك أسرار الطبيعة، لينتشر المفعول في كل قطاعات الحياةـ إذ لم ينجو أي مجال من تقشير حجبه وإماطة ألبسته، فالطبيعة أزيل رداؤها الاحيائي السحري لصالح الشفافية الرياضية الصارمة، وعلم النفس فصل اللاوعي عن الوعي، وعلم الاجتماع رفع الاكراه الاجتماعي عن الفرد، والثورة الجينية بشراكة مع الثورة الرقمية هي بصدد تمزيق الحجاب الفاصل مابين العضوي واللاعضوي وتشكيل السايبورغ( الحيوالة)… وهكذا من الأمثلة التي لا حصر لها والتي تبرز أن الحداثة، باعتبارها الأسلوب العلمي، تتحرك ضد منطق التحجب، وإن كان  التحجب براقا وساحرا  ويخلق المعنى لربما، إلا أنها  تراه وهميا ومضللا، فهي لم تعد تقبل سوى منطق التكشف الذي تراه واضحا ويحقق المردودية والنجاعة.

وهنا نصل إلى مفارقة نراها مؤرقة وحارقة وهي علاقة التحجب بالأخلاق؟ إذ يرى العديد، ومنهم الفيلسوف طه عبد الرحمن، أن الأخلاق لا يمكن أن تكون إلا بالأغطية والحجب والستائر، سواء مادية أو معنوية، وهو ما يثير السؤال: أليس في ذلك تزييف للحقيقة؟ مادام أن التكشف يعني مما يعنيه الوضوح، والوضوح له أواصر قرابة بالصدق والصدق يعد من أعلى مراتب الفضيلة.

هل الأخلاق الفاضلة قدرها أن ترتبط بالغموض والألغاز ولا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الحجب؟، أليس التحجب فيه ملمح من ملامح الإبقاء على “الكذب” وإظهار للشيء على غير حقيقته؟ وبالمقابل أليس للتعري شيء من الأخلاق؟ بحيث يصعب معها تصنيف “الصدق” الحداثي بما هو تكشف للظواهر في خانة الرذيلة؟ إنها بحق مفارقة قاسية.

وإذا كانت الحقيقة العلمية أو لنقل “الصدق” هي بالأصل شيء باهت وفاتر وجاف وموضوعي خلو من كل الأحاسيس، فإننا سنفهم ربما، لماذا كانت هناك مطالب من أجل أن تغير الأخلاق من جلدها لتتلاءم وهذا التغير المنهجي الكشفي، لتكون من جنس هذا الفتور العلمي، مما يذكرنا بالقانون الأخلاقي الكانطي الشمولي الصارم والقاسي والذي يدعونا لأن نسلك في الحياة بحيث يكون فعلنا قانونا عاما.

ومن جهة أخرى وتعميقا لهذه المفارقة الشائكة نسأل: هل الأجدر بالإنسان ألا يصل إلى كمال “الصدق” والوضوح والشفافية؟، بل عليه الإبقاء على قدر من “الوهم ” لكي لا نقول “الكذب” والغموض ليحيا آمنا؟  لتكون الحياة الشفافة والصادقة بالمطلق هي فوق إمكاناته وفوق متطلباته؟ بحيث يغدو الوضوح الكامل والحقيقة المكشوفة اعتداء على كينونة الإنسان، لأنها بلوغ لمستوى إلهي يعود عليه بالعذاب والشقاء؟ فالصدق النهائي كمال من كمالات الله ولاينبغي أبدا منازعته فيه؟

وهو الأمر الذي يحيلنا بالضبط إلى أحد تأويلات قصة النهي الأولى للبشرية مع سيدنا آدم الذي أكل من “شجرة المعرفة”، بحيث تعرف على أشياء ما كان عليه معرفتها ومن تم تعرت سوأته، فهل الحداثة تقوم بما قام به آدم بحيث تعاود نفس الطريق وهو كشف ما لا ينبغي كشفه، ومن تم نفسر عذابنا الحداثي المليء بالقلق وغياب المعنى باعتباره عقوبة من جنس عقوبة آدم. ليصبح التكشف بما هو وضوح وربما صدق، نقمة علينا وليس نعمة. هل يمكن القول بأن الحداثة تسير في طريق الشيطان؟ ولكن أليس الأكل من “شجرة المعرفة” هو من جعل الإنسان، ولربما لأول مرة يتحرر من قبضة الأوهام؟ ومن تم يحقق أمجاده بتحمل مسؤولياته كاملة وببطولة ملفتة.

 فهل ينبغي للإنسان أن يكتفي بالتحرك صوب الحقيقة بمقدار ويترك نصيبا من الألغاز والحجب في العالم دون مسها وبدون الاقتراب منها، أي عليه ترك مناطق ضمن مجال المحرم الذي لا ينبغي طرقه قط.  ومن تم يكون الصدق(الوضوح) الإنساني المطلوب، محدود وعلى مقاسه وليس مطلقا أبدا.

ولكن أليس هذا فيه مساس لقيمة الصدق المثلى التي نتوق إليها؟ أم أن الأخلاق الإنسانية النموذجية هي وسط بين الصدق والكذب بين التكشف والتحجب. بين الوضوح والغموض؟ أو لربما نفتح الباب لاحتمال القول: إن الصدق بالمعنى العلمي الدقيق ليس هو الصدق أصلا؟ ولربما أيضا نسأل: هل الأصل الإناسي(الأنثروبولوجي) للإنسان هو التحجب، والإضمار، وليس التكشف والوضوح؟ (وهو موقف طه عبد الرحمن المعلن) بحيث يصير الوضوح عكس الكينونة الإنسانية؟ ومن تم يصبح الصدق(العلمي) شيئا دخيلا على المملكة الإنسانية، فتكون الحداثة قد سارت بعكس الأصل البشري الذي وجد أصلا ليعيش بالغموض والألغاز وليس الوضوح والجلاء. وهو الأمر الذي يمكنه أن يفسر لنا لماذا البشرية عبر تاريخها كانت مؤهلة كي تملأ الطبيعة بكل ما هو سحري وخارق (النزعة الإحيائية)، إلى الحد الذي جعل الإنسان ينصدم ويرتبك من العلم الحديث الذي جفف الطبيعة من كل سحرها وغموضها حينما وضعها في قوالب رياضية دقيقة وموضوعية تعبر عن شفافية مغالية تسير بعكس ما ألفه الانسان لعهود طويلة. وكذلك هو ما يفسر، لربما، تأكيد فرويد على أن النفس البشرية الواعية أي الواضحة هي بنسبة ضئيلة جدا، مقارنة بجوانبها اللاواعية الغائرة والمظلمة والتي تحركنا في خلسة منا. وكأنه أراد القول: إن الغموض هو الأصل والوضوح هو الفرع. فأين الخير للإنسان الحجب الغامضة أم التعري الواضح؟ أم الأحسن هو الدمج بينهما؟

إننا نفهم صعوبة قول الصدق في المملكة الإنسانية؟ فهو كالعملة النادرة. بما يحمله هذا الصدق من إحراج، مادام أن صورة الإنسان أمام المرآة مؤلمة جدا.  فهل يمكن من خلال ذلك القول: إن كراهية الحداثة عند البعض أو لنقل الريبة حيالها نابع أحيانا من سيرها عكس أصل الكينونة الإنسانية. إذ هي تخلق لنا طبيعة أخرى لم نألفها، وتنبش في أحشاء كل شيء، والأحشاء، كما نعلم، وإن كانت تعبر عن الحقيقة المخفية، فهي تظل قبيحة وليست دوما محتملة، فيكفي على سبيل المثال الحديث عن الداروينية التي عملت على تذكير الإنسان بأصوله الحيوانية التي نخجل منها وعمل الأنثربولوجيين الذين كشفوا وفضحوا الأغطية الثقافية التي تروض خامنا الغريزي الذي نفر منه فرارا… 

 ويبقى السؤال ملحا: هل حقا الحداثة، بعريها، لا أخلاقية؟ رغم ما تنشده من وضوح وشفافية، حد الجرح؟ أم أن الأخلاق أصلا ضد الوضوح؟ وتحتاج لقيامها بعضا من الغموض والحجب؟ ومن تم وجب مثلا عدم كشف الطبيعة وتركها في خامها الغفل وبكل سحرها وجمالها، وأيضا عدم البحث في أعماق اللاشعور بما يحمل من مكبوتات قد تصل مستوى القرف، وعوضا عن ذلك ترك الأمور على حالها وهكذا… فهل يمكن القول إن الحداثة زيغ عن المقصد من تواجد البشر على الأرض؟ وأنها زادت من تعميق الخطيئة الأولى؟  وبالمقابل أليس الكف عن التكشف يحول دون المردودية والنجاعة ومن تم تسهيل حياة الإنسان على البسيطة؟ بكلمة واحدة: نسأل برمزية عالية: أيهما الأكثر أخلاقا: أن يكون لدينا إدارات زجاجية مكشوفة أم إدارات إسمنتية متحجبة؟

وإذا كان الوضوح في صيغته المثالية والذي يذهب إلى مستوى هدم كل الحدود ليس من الأخلاق في شيء، فهل ينبغي حينئذ معاودة فهم علاقته بالصدق؟  فما الصدق إذا؟ وماهي صورته المثالية التي علينا التحرك صوبها؟

هل الحداثة اعتداء على كينونتنا الغامضة وهتك لألغازها التي لربما نحتاج أن تبقى على وضعها الأولي دون مساس؟ وهل الصواب الإنساني يكمن في سلوك درب ترك الحجب ومن تم الحدود أم أن السلوك الأجدى هو السير في التكشف إلى درجة خلع كل الستائر بل هتك كل الحدود، مهما كان الثمن؟ أم أن حب التناهي غلط خير الأمور الوسط؟ فنقبل صاغرين بعدم وجود صيغة مطلقة   وكاملة للصدق؟ ليصبح الطريق نحوه ضياع واحتراق وهو ضريبة التكشف؟

أسئلة تحتاج البحث المكثف لنجد لأنفسنا سبيلا آمنا نسلكه، فالوضوح والشفافية مطلب حداثي بدون منازع بل هو أمر واقع، بدء من إرغام الطبيعة على البوح بأسرارها وافقادها غموضها، إلى حدود تكشف مضمراتنا ودواخلنا يواسطة الخوارزميات الرقمية التي فضحت خصوصيتنا الأشد حميمية.

ولذلك، إذا قلنا إن الوضوح جانب من جوانب الصدق وقول الحقيقة، فهذا يعني أن مطالب الحداثة أخلاقية، فتكون في كل مسعاها التكشفي تنشد الفضيلة، وفي حال قبلنا ذلك يصبح السؤال ملحا: كيف يمكن اعتبار نقاد الحداثة أو الرافضبن والمقاومين لها، وهم بالضرورة دعاة تحجب وستر، أصحاب دعوة أخلاقية، إذا كان التحجب هو تزييف للحقيقة وإظهار للأشياء على غير ماهي عليه؟


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة