إنَّ تشكُّل البنى والمنطلقات الفكريَّة للعقل الغربي ليس وليد إبستيميَّة الحداثة؛ بل يرد إرجاع أصوله إلى عهود الحقبة اليونانيَّة وما تلاها، حيث البوادر الأولى لتكوينه؛ وما تبدى في عصر النهضة ما هو إلا ترجمة لتراكم محاولات عدة لتشيد هذا العقل ورسم نظرته إلى الإنسان والكون بريشة الغرب.
◇ ما قبل الحداثة؛ توصيفات تاريخيَّة.
غالبا ما ترتد جذور العقل الغربي المنظوم إلى التربة اليونانيَّة رغم أن هذه التربة ارتوت من منابع التراث الأسيوي والمصري كما يقول مؤرخون. العقل الغربي الذي سن ودبّج معالم( الشخص/ الفرد/ الإنسان) انطلاقا من محددات مرنة ومحتكرة يعاد إشهارها وتوظيفها وفق الزمن والمكان والمرامي..وإذا كان مفهوم الإنسان لم يتجلَّ بشكل وضح المعالم في التراث اليوناني؛ فإنَّه ظلَّ يتراوح بين خفوت مطلق وظهور محتشم في ما تلاه من متون فلسفيَّة صبغت الحقب اللاحقة له. نتحدث هنا عن مفهوم《الإنسان الملازم للمبادئ العقليَّة/ القيميَّة》يُرْجِع الدارسون؛ احتجاب هذا المفهوم في التاريخ الأروبي إلى نتوء الأصوليَّة الدينيَّة المتمثلة في الكنيسة بمختلف مظاهرها السلطويَّة، وكذلك الحروب البينيَّة في مجتمعات الغرب الأروبي..التي صورت إنسيَّة الفرد بمقدار سعيه للخلاص من الخطيئة الأولى؛ أو مدى ولائه لأي سلطة شموليَّة.
◇ في انقشاع “الظلام” أو بدايات الحداثة.
لا يمكن حصر مولدات وعوامل سرديَّة الحداثة الغربيَّة بمختلف صورها، لكن الأكيد وجود اصطلاح على جملة من البواعث التي أدت إلى حدوث تحول جذري في النظر إلى الإنسان والعالم، وهذا ما أضحى الحديث عنه مع بدايات الحداثة. يمكن في هذا الصدد أن نميز مع أحد رواد مدرسة فرنكفورت ” يورغن هابرماس” في تحديده للحداثة بين البدايات الزمانيَّة لها وبداية الوعي التاريخي بها. ويقول إن البدايات الزمنيَّة لها حدثت مع القرن 16 أي حولي ألف وخمسمائة، مع اكتشاف العالم الجديد وظهور الطباعة. بينما الوعي بالحداثة كان مع بداية القرن 18. وإذا كانت المقاربة المعجميَّة للحداثة والتي ترادف الجدة والابتكار والمعاصرة؛ قد لا تسعف كما يرى باحثون لفهم حد الحداثة أكثر؛ فإن الأجدى تناولها وفق مقاربة سوسيوتاريخيَّة بما يعني أن الحداثة هي《 تراكم وليس انبثاقا》 لهذا تحدثنا عن بدايات لها وليس بداية واحدة في هذا الصدد يرى طيب بوعزة أن الحداثة من الناحيَّة السوسيولوجيَّة كناية عن التحولات التي مست بنية الاجتماع الغربي بإنتقاله من النمط الإقطاعي إلى النمط التجاري_ الصناعي، كما تدل على العلاقات والبنيات التي أُرسيت بفعل هذا التحول. ومن الناحية السياسيَّة تدل على التحولات التي عرفها الغرب الأروبي مع بروز أفكار التعاقد الاجتماعي وما تلا هذا التبلور من حراك فكري تاريخي أفضى إلى ظهور ثورات عدها أهمها الفرنسيَّة؛ كان لهذه التحولات ملازمات فكريَّة فلسفيَّة توجت بظهور نصوص تأسيسيَّة لفلاسفة ومفكرين أمثال: ديكارت/ مونتسكيو/ جون جاك روسو/ جون لوك/ إمنويل كانط… كان لهم دور في تشكيل أو إعادة تشكيل البنى والمنطلقات الفكريَّة للعقل الغربي حيث أضحى الحديث بصيغة جديدة عن مفهوم الإنسان المتفرد المتمايز عن الطبيعة، تجلى هذا المعنى الجديد للإنسان في حقول عدة منها الفن والأدب والعلوم المختلفة ونُسِجَ عليه لزمن ثقافي وتاريخي طويل نسبيا.
◇ في رحاب الحداثة و”فتوحاتها”
نُسِبَ إلى الحداثة أنها جاءت بجملة من “الفتوحات” ليس أولها انتشال مفهوم الإنسان من دياجين الأصوليات الدينيَّة والسياسيَّة، وأضحى الحديث عن الحداثة هو حديث عن أركانها التي إذا ما تبدت في مجتمع جاز لنا نعته( على سبيل الاختزال) بالمجتمع الحداثي. ويمكن حصر هذه الأركان في ما يلي:
●العِلمَانيَّة:(بكسر العين) أي نسبة إلى العلم والكشوفات العلميَّة التي توالت في الجغرافيا الأروبيَّة، ليس أولها اختراع الطباعة على يد يوهان غوتنبرغ وتنظيرات كوبرنيكوس حول مركزيَّة الشمس بدل الأرض، وتأيد غاليلي لهذ الفرضيَّة. وكذلك اجتياح المكننة لمختلف مظاهر الحياة وظهور النزعة الوضعيَّة التي تعلي من شأن العلم وسيادته في مختلف مجالات الحياة وأصبح النظر إلى العالم يمر عبر منظار العلم القائم على أسس ماديَّة أو بالتعبير الفيبري” نزع السحر عن العالم.
●العَلْمَانْيَّة: ( بفتح العين)أي إيلاء الأهميَّة للعالم الدنيوي. لم يكن للصيت العلمي الذي ذاع في الغرب أن يبزغ لولا التقيد التدريجي لسلطة الكنيسة بحصر أدوارها في قضايا زمنيَّة بدل تلك اللازمنيَّة التي كانت تحجر بها على الضمير الديني للفرد. لم يكن ذلك ليتأتى لولا الإصلاح الديني الذي توج بظهور المذهب البروتستانتي الذي نادى بتخويل المسألة الدينيَّة إلى الضمير الفردي. كان لهذ الإصلاح دور في تبدد بعض الأنظمة السلطويَّة ذات الشرعيَّة الثيوقراطيَّة، كما كان ذا فعل في ظهور نزعة إنسانيَّة تنادي بتخليص الإنسان من كل براثين السلطويات؛ عبرت هذه النزعة عن نفسها في ميادين الفن والأدب والفلسفة..
● الإنسانويَّة: أو الآدميَّة المشتركة Humanism وغير ذلك من المسميات التي تؤله الإنسان وتعلي من شأنه وقيمته/ وقد لا تكون هي الفردانيَّة على اعتبارةأن الفردانيَّة كنمط وجود تحيل إلى الفرداة أي كل ما يميز كائن بشري عن آخر بينما الإنسانيَّة تحيل إلى صفات مشتركة ينتظر من الفرد التحلي الأخلاقي بها. وقد ترجمت الإنسانويَّة إلى عقيدة يؤمن بها من يأبه لأمر الإنسان ومصيره وآماله وآلامه وكان لها تطبيق اقتصادي وسياسي حيث غدت اللبيراليَّة التنزيل السياسي والاقتصادي لها، وبذلك عُدّت المجتمعات الغربيَّة مجتمعا أفراد لا مجتمعات جمعيَّة. إن الفرد وتمكينه وتكوينه وتبوءه مكانة الصدارة في مملكة الموجودات هو المأرب الذي سعت الحداثة إلى تحقيقه بمختلف تمظهوراتها؛ وما مبادئ وقيم: الديمقراطيَّة/ الكرامة الحريَّة/ الإخاء/ المساوة.. التي رفعت شعارها إلا إنفاذا لمشروعها الإنساني. لكن عن أي إنسان نتحدث؟؟
◇ الحداثة بين مشروع منحرف ومشروع لم يكتمل بعد.
تتمة
✍🏻 علي سكاك
مراجع:
- تليش بول،الشجاعة من أجل الوجود،ترجمة: د. كامل يوسف حسين.
- الزاوي بغوزة، مابعد الحداثة والتنوير موقف الانطولوجيا التاريخيَّة، دراسة نقديَّة
- حبيدة محمد، تاريخ أروبا من الفيوداليَّة إلى الأنوار.
———-
علي سكاك: مدرس لمادة الفلسفة بأكاديميَّة بني ملال خنيفرة المغرب، مهتم بسوسيوبوجيا الإستهلاك والتغيرات الإجتماعيَّة باحث بمختبر العلوم الاجتماعيَّة والتحولات المجتمعيَّة بكليَّة الأدب والعلوم الإنسانيَّة جامعة القاضي عياض بمراكش.