علي عبد الهادي المعموري[1]
لا أذكر بالضبط متى قرأت اسم الدكتور عبد الجبار الرفاعي، في مجلة او على متن كتاب، لكن الاكيد انني قرأت له أول الامر بعد ٢٠٠٣، لعلي قرأت مجلته قضايا اسلامية معاصرة، او قرأت له دراسة منشورة في مجلة جدل، لا اذكر بالضبط. تباعا صرت اقرأ له كل ما يقع تحت يدي، واتتبع اعداد مجلته المهمة بشغف، واتابع كل ما يكتبه على صفحته في الفيسبوك، لتظل معرفتي بالمعلم معرفة قراءة ومعرفة سماع ممن يشيدون بفضله، او يذكرون اخلاقه الاستثنائية.
يحرص على أن يخص متابعيه بالكتابة لهم بانتظام، داعيا بأن يكون النور نمير أيامهم، والمحبة والايمان حليف خطاهم، وكنت من بين هؤلاء الذين يفيض عليهم محبة بانتظام، بلغته الملكوتية الرضية، وكان يسأل عن أموري بين حين وآخر، حتى اخبرته بانتقالي الى العمل ببغداد ومحل عملي، فسألني عن صاحب له كاتب ورفيق درب وكتابة يثمن منجزه ويحبه كثيرا، كان في ذات المكان معي وطلب ان ارتب موعدا معه حين يكون موجودا. حين تم اللقاء كانت المرة الاولى التي ألتقيه، ليسحرني بحضوره العامر بالمعرفة والمترع بالطمأنينة، بابتسامته الرضية التي تشي بمكنونه المحب، وخلال تلك الجلسة ومع انسياب صوته السكين، ونقاشه الهادئ عكس صاحبه المقاتل، ازدادت مكانته في الروح وتعمق موضعه في القلب.كلما التقيته بعدها كنت ازداد معرفة ودرسا أخلاقيا، وهو الذي يؤكد على السلوك الاخلاقي بوصفه نهر الدين الذي يروي السالك. على الرغم من فكره النقدي، فإنك تزداد بمعرفته معرفة ايمانية، وتصالحا مع الذات والآخر، وتتعرف على المزيد من مضان المعرفة وسبلها، والكتب وغثها من سمينها، فكنت كلما خصني بلقاء في مجلسه أطير جذلا وتشوقا للمزيد من المعرفة من المعلم الذي أثّر في أجيال وأجيال ولا يزال.
بالقدر الذي تصدرت فيه مجلته قضايا إسلامية معاصرة المشهد الفكري الديني، بتحملها مسؤولية البحث المعمق في فلسفة الدين وتجلياتها المتنوعة، فضلا عن التركيز على علم الكلام الجديد، عبر استكتاب خيرة المفكرين والباحثين من كل القوميات والديانات والمذاهب، فإنه بذاته لم يكن قليل أثر في الفلسفة التي درسها ودرّسها طويلا وأنجز فيها مجموعة أعمال، منها كتابه المبكر: (مبادئ الفلسفة الإسلامية)، الذي صدر في تسعينيات القرن الماضي، وصار من الكتب الأساس التي يستعين بها طالب العلم وهو يدرج في فهم الفلسفة وتفهمها كرافد في الحياة الفكرية.
تدريسه للفلسفة ترك آثارا بينة حاضرة لليوم، فبين تلامذته مَن لا يزالون يثيرون الجدل، وإن ابتعدوا عن منابعهم، لكنهم في الوقت ذاته يمحضون الأستاذ احتراما واجلالا لافتين، دلالة على عمق تأثير سلوكه الأخلاقي في شخصياتهم. لقد تلمست هذا بيدي في الندوات التي اشتركت فيها كمتحدث، وكان لبعض تلاميذه فيها الحديث، فكانت ردوده غيث يطفئ ما يوشك أن يلتهب من النار، على أنه دائم الاحتفاظ بلغته النقدية، الدافئة التي تعلم وتستثير السؤال، وترفد العلم، دون أن تزرع البغضاء أو توري للشقاق لهيبا يحرص على تجنبه واطفائه حيث يجده.
تجد منهجه الاحتوائي النقدي هذا حاضرا في سلوكه الشخصي، فهو لا يسمح لنقد أن يتحول الى عداوة، ويلقي بأخلاقياته العالية ظلا منيفا على أي نقد لا يكون فيه من العلم ما يكفي، لتجده موجها الى سبل النقد بالمحبة، والتسامح. لا يستصغر شأن أحد ولا يستنكف من نقاش، أو يعرض عن الإجابة على سؤال، لتكون بركة حضوره مزيج من العلم والسلوك الأخلاقي المنضبط.
وهذه الاخلاقيات والمحبة التي تطبع شخصه، انعكست على طبيعة علاقاته المعرفية قبل الاجتماعية، فتجد أصدقاء الفضل والمعرفة في طريقه حيث التفت، بمختلف مشاربهم الفكرية والدينية والمذهبية، ويحاط بالاحترام الذي يستحقه حيث يحل من محافل المعرفة.
وما يؤسفني الآن أن هذا المقال لا يسع أن يحيط بمنهج الرفاعي في تجديد الفكر الديني، الذي دُرس خارج بلده العراق بشكل مكثف، بينما لا يزال في العراق بمستوى مؤسف، فتذهب الرسائل والاطاريح تجاه من لا يدنون من شأنه العلمي، ولا يضارعون منجزه، إلا أن هذه العجالة لا تمنع الإشارة الى مذهبه في الكتب والكتابة، ولو بعجالة شديدة.
إن قارئ كتبه ومقالاته يدرك من أول البدء أنه أمام مفكر مجدد، لا يخجل من مراجعة أفكاره، ونقد متبنياته القديمة مرارا وتكرارا، فهو يردد دائما أن “الكاتب الحقيقي يكتب في حياته كتابا واحدا، ما قبله تمارين، ما بعده تنويعات عليه”. أذكر أنه قال عن كتابه (مقدمة في علم الكلام الجديد) انه كتابه المركزي، ولكن منذ صدوره سنة 2021، حتى صدور طبعته الإلكترونية الرابعة هذا العام 2024 عن مؤسسة هنداوي، دأب الرفاعي على العودة إلى الكتاب، وإصدار طبعات مزيدة ومنقحة منه، الطبعة الأولى ثلاثة فصول والطبعة الرابعة الصادرة خمسة فصول، وتلك دلالة على صبره ومراجعاته المستمرة لما يفكر فيه ويكتبه.
وحاله مع المعرفة عبر القراءة لا يكاد يحيط به وصف، فهو عاشق للكتاب، لا يتوقف عن القراءة، كما نقرأ في كتابه الأخير الصادر نهاية العام الماضي 2023 بعنوان: “مسرات القراءة ومخاض الكتابة: فصل في سيرة كاتب”، حيث يقول: “أنا قارئ قبل كل شيء وبعد كل شيء. لم تمنحني القراءة إجازة ليوم واحد في حياتي، لم أجد نفسي خارج أسر القراءة، وأظن أني لن أتوقف مادمت حيا”. مما يتصف به الرفاعي أنه متابع مثابر لما يكتب، فهو يقرأ للشباب بشغف القراءة للكبار، ولا يتوانى عن الاشادة بما يكتبونه، ويشير الى عملية التعلم المستمرة، وإن العلم لا يقف عند أحد، ولا يطلب من عمر محدد او من مذهب فكري محدد.
اختم هنا بالإشارة الى ركيزة اجدها مركزية في كل اعماله، وهي الانسان، وأذكر مرة أنني سألته عن الحال الحاضر للإنسانية، والنموذج الغربي الذي يقدم على أنه ذروة ما صار إليه الانسان، كيف يمكن ان يستقيم هذا الحكم عند النظر الى حال الانسان الغربي الذي تحول الى ترس في ماكنة؟
أجابني بالرضا المعهود في لغته أن هذه المعضلة ناقشتها مدرسة فرانكفورت الفلسفية، وإن ضمور الانسان لصالح المادة يضمر في ذاته محق الإنسانية واضمحلال المحبة والايمان ومعنى الحياة، وهي تشكل رافد تصب في نهر فلسفة المعنى في أعمال الرفاعي، وتتجلى في سلوكه ومنهجه.
هذه تحية للمعلم في سبعينه، ودعاء بأن يدوم وجوده المبارك.
[1] طالب دكتوراه في العلوم السياسية بكلية العلوم السياسية في جامعة بغداد.