الأخلاق كطريق إلى السعادة عند سبينوزا

image_pdf

تظهر فلسفة سبينوزا الأخلاقية تحت ضوء البحث عن السعادة كغاية قصوى، غير أن هذه السعادة لا تدرك إلا من خلال فهم عميق لميكانيزمات الفرح كحالة وجودية تسعى الذات إليها باستمرار. فالإشكال الأخلاقي في منظوره لا ينفصل عن مسألة كيفية تحصيل لحظات الفرح بنسب أكبر، وذلك عبر خطط عقلانية تقلص من احتمالية الحزن الذي يعد عارضا لنقص الفهم أو مخالفة النظام الطبيعي للعقل.

إن الإنسان ككائن انفعالي يوجد حسب سبينوزا في تأرجح بين قوى الفرح والحزن، غير أن قدرته على التأثير في العالم الخارجي تظل محدودة إزاء تأثيراته المتعددة عليه، فالانفعالات وإن بدت متصلة بحرية الإرادة فإنها في حقيقتها خاضعة لشبكة معقدة من العلل الضرورية التي تندمج في بنية الكون الكلية، هذه العلل تشكل معا نسيجا لانهائيا يتجلى في النظام الطبيعي، الذي لا ينفصل عند سبينوزا عن جوهر الطبيعة الإلهية، حيث الإرادة الإنسانية ليست إلا تجليا محدودا لهذا الكيان الأعظم.[1]

ينظر سبينوزا إلى الانفعالات بوصفها المحرك الأساسي لمسيرة الإنسان نحو السعادة أو الشقاء، فهي ليست مجرد تفاعلات عرضية بل انعكاسات لحركة النفس بين الازدهار والانحدار، فالفرح كما يراه هو حالة ارتقاء النفس نحو كمال أعظم، بينما الحزن يعبر عن انحدارها إلى مستوى أدنى من الاكتمال، بينما يتكامل الفرح مع الجسد والنفس في آن واحد، يظهر في صورة الدهشة أو البهجة بينما يتجلى الحزن في حالته المماثلة كألم أو كآبة تدل على حيوية النفس.[2]

ترتكز الأخلاق في فكر سبينوزا على التوازن بين الحاجات الأساسية للإنسان ومتطلبات بقاء النوع البشري، حيث تلعب العوامل المرتبطة بالغذاء والمأوى دورا في هذا التوازن، إلا أن العقل هو المرشد الأعلى الذي يضمن استمرار هذا البقاء، فالفضيلة عند سبينوزا ليست مجرد سلوك خير، بل تتجسد في السعي للحفاظ على الذات باعتبارها المهمة الأسمى للوجود. فالأنانية التي يدعو إليها ليست تلك المذمومة إنما هي أنانية معتدلة وعقلانية، هدفها الحفاظ على الحياة واستمرارها، حيث لا تتطلب الفضيلة التضحية بالذات من أجل الآخرين، بل حماية الوجود الخاص كأولوية.

1.الخير والشر عند سبينوزا:

أ. الخير:

يتناول سبينوزا مفهوم الحرية كمرآة تعكس القوانين الإلهية، حيث يعتبر الخير في جوهره تجسيدا للحقائق الإلهية التي توجه الإنسان نحو غايات سامية، في هذا الإطار يفصل سبينوزا بين القوانين الإلهية والقوانين البشرية، مشيرا إلى أن الأولى تهدف إلى تحقيق الخير العام، أو ما يمكن تسميته ب “الخير الأسمى”. ويتمثل هذا الخير في حب الله ومعرفته، إذ أن هذا الحب يعتبر أعلى غاية يسعى إليها الإنسان في بحثه عن السعادة الأبدية.

وهنا، يتوافق هذا مع قول القديس بولس: “من يفعل الشر لا عذر له، ليعكس الفكرة القائلة بأن الإنسان يجني نتائج أفعاله، فالشر إن لم يقوم، يولد شرا آخر، بينما الخير الذي يرافقه ثبات النفس ينمو ويزدهر.”

وفي نفس السياق، يرى سبينوزا أن الإنسان غالبا ما يخطئ في تقدير ما يتعبر خيرا عظيما، حيث تحصر هذه التصورات في ثلاثة عناصر رئيسة: الثراء، المجد واللذة الحسية. حيث تتداخل هذه العناصر في حياة الناس بشكل يجعلهم ينشغلون عن التفكير فيما هو أعمق وأسمى، إذ أن النفس لارتباطها باللذة تعتقد أنها وجدت الخير الذي تبحث عنه، لكن سرعان ما يظهر أن هذه المتعة تقود إلى مشاعر من الحزن والقلق، مما يضعف الفكر ويؤثر سلبا على قدراته. أما السعي وراء المجد فهو يتطلب مجهودا فكريا مضاعفا، حيث يشتغل العقل في هذه المطالب أكثر مما ينشغل في اللذات الحسية. ويتحول الثراء حين يطلب إلى ذاته إلى صورة مزيفة من الخير بينما ينظر إلى المجد كقيمة ذاتية تصرف الفكر عن قضايا أخرى، مما يعكس الفهم السطحي للوجود.

لهذا، ينبه سبينوزا إلى ضرورة التفكير في طبيعة الخير والشر، ويدعو إلى تجاوز المظاهر الزائفة والتركيز على القيم الحقيقية التي تؤدي إلى المعرفة الإلهية وإلى عيش حياة تتسم بالعمق والاتزان.

وعليه، فالثراء والمجد لا ينطويان على مشاعر الندم كما تفعل اللذة الحسية. فكلما حقق الإنسان مكاسب في هذين المجالين، يزداد شعوره بالفرح ويشتد دأبه في السعي في مضاعفتهما. ولكن، إن جرت الأقدار بخلاف ما يتوقعه، فإن الإخفاق في تحقيق هذه المكاسب يؤدي إلى شعور بالحزن. وهنا يأتي المجد كحاجز أساس، إذ يتطلب الحصول عليه أن يتبع الفرد رغبات الآخرين ويدور في فلك ما يسعون إليه.

وعلى الرغم من ذلك، يؤكد سبينوزا على أن سعادة الفرد ونعيمه لا يتحققان باستعراض فخره بامتلاكه للخير، بل من خلال تمتع جميع الناس بذلك الخير. فالشخص الذي يعتقد أنه يحقق سعادة أكبر بسبب ما يملكه من صفات طيبة، ويستبعد الآخرون، فإنه يجهل المعنى الحقيقي للسعادة.

ب. الشر:

يعبر الشر عن غياب الخير او نقصه. ويفهم عند سبينوزا كحالة من الفوضى أو عدم النظام التي تنجم عن انحراف الإنسان عن الوعي بالخيرات الحقيقية، والشر ليس كيانا قائما بذاته، إنه فقط نتيجة للجهل وعدم الفهم الصحيح لطبيعة الخير. ومن هذه الزاوية، يتم اعتبار الشر نتاجا للجهل والانحراف عن المعرفة، مما يؤدي إلى انغماس الإنسان في شهواته ورغباته السطحية.

ويعتبر الجهل أحد المصادر الرئيسة للشر، حيث يفضي إلى تصرفات فردية تضر بالمجتمع، فالأفعال التي تنبع من الرغبات الأنانية تنتج تأثيرات سلبية تضعف العلاقات الإنسانية وتعزز من حالة الفوضى الاجتماعية، وعندما يتنافس الأفراد سعيا وراء رغباتهم تنشأ النزاعات وتفقد الثقة بين الناس مما يزيد من حالات الانقسام.

وفي ضوء هذا الفهم، يبرز سبينوزا أهمية المعرفة كوسيلة للتحرر من قيود الشر، فالمعرفة الصحيحة تساعد الأفراد على التعرف على القوانين الإلهية والقيم الخيرية، مما يمكنهم من التصرف وفق مصالحهم الحقيقية ومصالح المجتمع. إن السعي نحو المعرفة يعتبر سبيلا للتخلص من الجهل والشهوات، مما يؤدي إلى حالة من الوعي تدفع بالفرد نحو بلوغ السعادة.

هكذا إذن، يظهر سبينوزا كيف تتداخل مفاهيم الخير والشر في حياة الأفراد، فالخير يعبر عن القيم التي تعزز من الرفاهية الفردية والجماعية، بينما يعتبر الشر نتيجة للجهل والانحراف عن هذه القيم. إن تحقيق الخير يتطلب من الفرد أن يسعى نحو المعرفة والحكمة، وأن ينفتح على الآخرين، معززا بذلك الروابط الإنسانية والقيم التي تساهم في خلق مجتمع متماسك. وبهذا الشكل، يمكن للإنسان أن يتجاوز الأنانية ويسعى نحو سعادة جماعية تحقق السلام والانسجام في الوجود.

2.السعادة:

تعتبر السعادة في فلسفة سبينوزا حالة من الازدهار والرفاهية النفسية، وهي نتاج طبيعي للفهم الصحيح للعالم والوجود، ذلك أن سبينوزا يشدد على أن السعادة ليست مجرد شعور عابر بل هي حالة عقلية مستمرة تنبع من تفاعل الفرد مع العالم بطرق تعكس قيم الوجود.

وعلى هذا النحو، ترتبط السعادة ارتباطا وثيقا بالمعرفة، حيث يظهر سبينوزا أهمية العقل كوسيلة لتحقيق السعادة. فكلما كان الفرد أكثر قربا من معرفة الله كان أكثر قدرة على إدراك مكانه في الكون، مما يؤدي إلى حالة من الرضا الداخلي. ويعتبر حب الله ومعرفته عنصرين أساسيين في تحقيق السعادة، إذ تعبر هذه المعرفة عن فهم عميق لروابط الوجود وعلاقاته. هذا الفهم السامي للسعادة يتجاوز الشهوات أو اللذات الحسية التي يسعى إليها الكثيرون، ليعكس توجها نحو القيم الروحية والعقلانية التي تعزز من الرفاهية.

علاوة على ذلك، يرتبط مفهوم السعادة في فلسفة سبينوزا بالعلاقات الاجتماعية، حيث يعتبر التفاعل الإيجابي مع الآخرين جزءا أساسيا من تحقيقها، إذ لا يعيش الفرد في عزلة، بل ضمن مجتمع يطلب منه التعاون والمشاركة. فقدرة الفرد على التواصل الإيجابي مع المجتمع تعكس مدى تحقيقه للسعادة، حيث تعزز الروابط الاجتماعية شعوره بالانتماء والقبول.

كما يدعو سبينوزا إلى مفهوم السعادة الجماعية، حيث يتحقق الرخاء الفردي من خلال الرخاء العام، هذه الفكرة تشير إلى أنه لا ينبغي لسعادة الفرد أن تكون على حساب الآخرين، إنما يجب أن تتناغم مع مصلحة المجتمع ككل. وهذا يتطلب من الأفراد العمل نحو تحقيق قيم الخير والتعاون، مما يساهم في بناء مجتمع متناغم ومزدهر.

وختاما، تعد السعادة عند سبينوزا بمثابة فهم القوانين الإلهية والعلاقات الإنسانية، ويتطلب تحقيق السعادة الاستنارة العقلية، والتفاعل الإيجابي مع الآخرين، والقدرة على تجاوز الشهوات، وبدلا من ذلك يتم التركيز علة القيم الروحية. أن السعي نحو المعرفة والحب الإلهي يحقق للفرد حياة مليئة بالمعنى والرفاهية، مما يساهم في تحقق سعادته وسعادة مجتمعه ككل.

________

بيبلوغرافيا:

  1. باروخ سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة: جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت 2009.
  2. المصدر نفسه، ص: 17، 18.
  3. المصدر نفسه، ص: 159.

 

 

وسوم:

اترك رد

جديدنا