التنويريفكر وفلسفة

مآل الفلسفة في ظل المجتمع المعلوماتي/ الثورة الرقميَّة كمسألة فلسفيَّة راهنة

مقدِّمة.

 يبين لنا تاريخ وكرونولوجيَّة الحقل الفلسفي على أنَّه خطاب وليد عصره، على اعتبار أنَّ كل عصر على حدة ينتج فلسفته الخاصة، وإن كان الإنتاج الفكري لبعض الفلاسفة سابق لعصرهم . لكن وبالرغم من ذلك ليس لنا الحق في الإنكار على أنَّ الفلسفة عبارة عن موقف شمولي كلي نقدي إزاء قضايا تواكب المجتمع الإنساني، إذ منذ الأسئلة الفلسفيَّة الأولى حول طبيعة المادة والعناصر المكونة للوجود أو العالم والتأمل الفلسفي يقف عند حدود ما تعيشه الفترة المعاشة، باعتبارها مرحلة لها شروطها وظروفها والإشكال المهيمن عليها،  ليقدم الفلاسفة بذلك أبرز تصوراتهم إزاء مختلف القضايا التي يشهدها عصرهم ومجتمعهم . وهو الشيء الدي جعل من الفلسفة تتجاوز حدودها الضيقة التي رسمت لها لتتناول قضايا يعتقد فيها أنَّ لها أصحابها. مما أدى إلى اتساع مجالات القول الفلسفي في ذات الوقت الدي اتسعت فيه ضروب القول في الموضوع الواحد على نحو يعبر عن تقاطع أساليب المعرفة وتشابكها.

والظاهرة الرقميَّة أصبحت كغيرها من الظواهر تفرض على الحقل الفلسفي الغوص داخلها واستشكال أهم مستجداتها على اعتبار أنَّ للفلسفة نظرة كليَّة إزاء العالم، وذلك بفعل محاصرة العالم الرقمي للإنسان إلى حدّ القول إنَّ العالم الواقعي على مشارف انتهائه وأننا قد نتحول قريبا إلى كائنات افتراضيَّة. وهو الشيء الذي بيَّن أهميَّة الحديث عن  الفلسفة  في جيل يكتفي بالجاهز والفوري بدل التفكير والنظر، جيل يختلف عما كان عليه الانسان فكرا وفعلا . لتجد الفلسفة ذاتها في هذا التحول الملاحظ منتقلة بذلك من الفضاء التقليدي لها المتمثل في  أروقة المعاهد والمدارس إلى أروقة العالم الرقمي والمعلوماتي .

إنَّ الفضاء الرقمي بهذا المعنى يجهز لتأسيس حياة وجوديَّة جديدة للكائن البشري عامة وللفيلسوف خاصة، حياة تمهد لممارسة فلسفيَّة تختلف عن سابقاتها، مرتكزها واقع افتراضي رقمي بعدما كان ملتقاها يتعلق بما هو مكاني ’ ساحة اغورا نموذجا’، مما قد يؤدي إلى نشوء صراعات افتراضيَّة بعد أنَّ كانت حوارات ومحاورات واقعيَّة.  لكن وبالرغم من التمرين الفلسفي الذي يلاحق كل تطور بشري، الا إنَّ  جيل اليوم صارت تتسرب اليه بعض الشكوك حول أهميَّة الفلسفة ومستقبلها في زمن ولت فيه المواضيع الميتافيزيقيَّة الوجوديَّة التي كانت تشغل بال الفيلسوف وإحلال مكانها مواضيع ذات طابع تكنولوجي رقمي . في ظل هذا التغير إذن يتم لجوء الفلاسفة إلى طرح جملة من التساؤلات التي من شأنها هي الأخرى أن تواكب هذه التحولات في الوقت الذي أعلنت فيه الفلسفة  أنها لم يكن يهمها يوما الإجابة على الإشكالات المطروحة بقدر ما يهمها أن تطرح تساؤلات وتمضي . ولعل ضمن هذا السياق يأتي بحثنا هذا، الذي نسعى من خلاله استشراف مستقبل الفلسفة في عصر رقمي تكنولوجي بامتياز، والوقوف عند  دور الفيلسوف  وموقعه إزاء عصر مغاير بدأ الاستغناء فيه عن خدمات الانسان شيئا فشيئا، ومن ثم السعي وراء كيف للفلسفة أنَّ تساهم في فهم القضايا التي تفرضها المرحلة الراهنة والتي لا يتكلم ضمنها إلا لغة الرقمنة والمعلومات . كل ذلك عبر إثارتنا للعديد من التساؤلات المحوريَّة من قبيل :

كيف للفلسفة أن تتكيف مع التحديات التي تفرضها الرقمنة؟ هل للرقمنة أثر على طريقة التفكير والتأمل الفلسفي؟ هل يساهم العصر الرقمي في توسيع او تقليص حدود الفلسفة، وكيف؟  ومن ثم كيف للفلسفة أنّ تساعدنا في عقلنة العالم الرقمي أم أنَّ لجوئنا إليها ليس  إلا عزاءً كما نجد عند الان دوبوتون؟

 وسنحتكم في طريق إجاباتنا على هذه الجملة من الأسئلة على منهجيَّة تحليليَّة، نمر من خلالها على خطة منسجمة الأحرف تسير وفق ثلاث محاور أساسيَّة، وذلك على الشكل التالي:

المحور الأول : نحو عصر فيلسوف مرقمن

إنَّ الكلام عن الانتقاليَّة الملحوظة التي يشهدها العالم الفكري والفلسفي في عصرنا الراهن أصبح مرتبطا بالحديث عن رقمنة الفلسفة أو ما اصطلح عليه الفيلسوف المرقمن، وإن بدا البعض يحذر من  ربط الفلسفة بالرقمنة باعتبارهما عالمين لا يلتقيان، وعليه يتم استنكار وجود ودور الفلسفة في عالم معلوماتي بامتياز. الا إنَّ الواقع المعاش أصبح يفرض الحديث عن انتقال راهن من انموذج فيلسوف منعزل في ركن بيته، غارق في كتبه، إلى  تأسيس جديد لمجال فلسفي يتفاعل مع العقل الافتراضي والرقمي بدل العقل النقدي. وهو الشيء الذي يوحي إلى خلود الحقل الفلسفي وتأثيره عبر العصور، رغم تغير الظروف الاجتماعيَّة والثقافيَّة، لكونه حقل يتسم بالقدرة على التكيف مع التغيرات، ومنه يكون بذلك أداة مهمة لفهم القضايا المعقدة التي تفرضها المرحلة المراهنة.

بهذا الشكل يتضح حتما أنَّ التفوه بمصطلح ’ الفيلسوف المرقمن ’ يشير إلى التفكير الفيلسوف داخل مجال الرقمنة من خلال تناوله تأثير التحول الرقمي على الوجود الإنساني الذي يعيش نوعا من القبض المعولم على الأفراد أمام شاشاتهم الصغيرة وحواسبهم أو هواتفهم الذكيَّة، الشيء الذي يبين التأثيرات العميقة والشاملة للعولمة على الهويات والثقافات. على هذا النحو يظهر جليا أننا أمام ما يسمى بفلسفة التكنولوجيا التي يهتم ضمنها الفيلسوف بدراسة تأثير  كل ما سبق من الرقميات على الإنسان والمجتمع، إنها بهذا المعنى موقف فلسفي تاريخي من التكنولوجيا والمعلومات، وبحث في من ينتجها، ودوافع تطورها، إجاباتها وسلبياتها، وكيفيَّة ترابطها {1}، على اعتبار أنَّ الفلسفة على حد قول سيلارز {1962} تلك المحاولة لفهم كيف تترابط الأشياء بالمعنى الواسع وبأوسع معنى ممكن، للمصطلح .{2}

 وهكذا يجعل الفيلسوف من المجال الرقمي والتكنولوجي مناط تفكره وتأمله وهذا لا يقتصر على عصرنا الراهن فقط بل منذ الأدوات التكنولوجيَّة الأولى التي اخترعها الاغريق مرورا بتطور هذه الوسائل مع المسلمين منذ القرن الثالث للهجرة ’التاسع للميلادي’ وصولا إلى نضج هذه الأدوات على يد ليوناردو دافنشي باختراعه لعدة آلات معقدة تلبي حاجيات النهضة  الأوربيَّة ، من قبيل الرجل الآلي ومقاييس للزمن لضبط الوقت والحوسبة {3}.   غير أنَّ البعض يقف عند هذا الحد مستفسرا عن بأي طريقة  للفيلسوف أن يجعل من الرجل الآلي مثالا  مجال تفكره ونظره، وهو سؤال لم يكن ليلقى الضرر بالحقل الفلسفي ما دام الغرض الأسمى من الفلسفة نفسها هو بلوغ الحقيقة عن طريق  طرح الأسئلة، بل فتح مجالا واسعا أمام الفيلسوف ليكشف عن علاقته بكل ما هو معلوماتي، إذ  يقف عند تحليل كيفيَّة تشكيل خوارزميات الرقميات هذه ومدى تأثيرها على الفكر والسلوك، ومستقبل الهويَّة الفرديَّة والجماعيَّة في الفضاء الرقمي، بل ما هو أبعد من ذلك، يتساءل الفيلسوف عن مستقبل التعلم والعمل في عصر بدأ الاستغناء فيه عن العقل البشري وتفويض معظم المهام والوظائف إلى الذكاء الرقمي . ليكون الفيلسوف بهذا المعنى نقطة التقاء بين الفكر التقليدي والحديث، مدفوعا برغبة مستمرة في الفهم والتفسير. 

وهنا يمكن القول إنَّ التغير الرقمي لم يكن حدثا تقنيا فقط، وليس مجرد تحول تكنولوجي في حقل التواصل بين البشر،  بل حدث فلسفي أيضا، على اعتبار أنَّ العلم يخلق الفلسفة فعلا كما صرح قبل ذلك غاستون باشلار، ولعل ذلك يبرز وبشكل دارج في دراسات الفلاسفة  ذوي الاهتمام  العلمي أمثال باشلار نفسه، فالعلم المتمثل في الرقمنة هاهنا أدى بالفلاسفة إلى طرح تساؤلات عصريَّة حول الوجود والمعرفة والقيم . بذلك، يعزز العلم الفلسفة، ويساعدها على التفاعل مع التحديات الجديدة، مما يؤدي إلى فهمنا للكون الذي نعمره فهما اعمق . هذا الفهم الذي لا يتأتى الا من خلال المزج بين العلم الذي يقدم بيانات ومعارف تجريبيَّة والفلسفة التي تستشكل هذه المعارف وتضعها موضع شك ونقد بناء، ما دام أنَّ الأهميَّة الرئيسيَّة للفلسفة من منظور راسل هي مهمة نقديَّة تستوجب توضيح تلك المعارف والمفاهيم والقضايا من خلال وضعها جميعا تحت مجهر التحليل المنطقي الصارم.

أمام هذا الوضع إذن، اصبح الحديث عن عصر فيلسوف مرقمن ضرورة ملحة  تفرض نفسها في الواقع الراهن، على اعتبار أنَّ أي تغيرات يشهدها الفكر البشري يترتب عنها نقد وتحليل عميق من لدن الفلاسفة بغية السعي لفهم الآثار المترتبة عن هذه التحولات وتقديم رؤى جديدة . ولعل استجابات كل من سبينوزا ودكارت … إزاء الاكتشافات العلميَّة في عصر النهضة ’ مثل أعمال كوبرنيكوس وغاليليو ’ أنموذجا على ما سبق . وما تواجهه المرحلة الراهنة من معلومات ورقمنة تفرض هي الأخرى على الفلاسفة للاستجابة إلا ما تحدته هده التكنولوجيا من تغيرات، أملا في التأقلم معها وعقلنتها، وذلك بهدف تحقيق الاستخدام الفعال والمستدام لهذه الرقميات، لكونها أصبحت بمثابة  طريقة نسقيَّة في رؤية العالم على حد قول مارتن هيدجر { 1889/1976} . {4}

المحور الثاني: عقلنة الرقمنة “رؤية فلسفيَّة في التحول المعلوماتي “

 لقد حدثت تبدلات في المجتمع الإنساني تاريخيا نقلته من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي ثم إلى مجتمع ما بعد صناعي أو معلوماتي، مما ترتب عن هذه النقلة تغيرات جذريَّة في جوانب متعددة سواء على المستوى الاقتصادي، التواصلي، والفكري، لتكن بذلك هده التغيرات مجالا للتفكير العميق من قبل الفلاسفة، لا لفهم طبيعة هذه التحولات وتفسير أسبابها وتأثيراتها على الوجود والمعرفة فقط، بل إلى حد السيطرة عليها وعقلنتها. والرقمنة كباقي المتغيرات التي أثرت على الوجود الإنساني تعد من بين أبرز التحولات التي غيرت العديد من جوانب الحياة، إلى حد الوصول لما يسمى بموت الواقع ونهايته ونشأة مقابل ذلك عوالم افتراضيَّة، الشيء الذي جعل منها ظاهرة تستوجب عقلنتها . وهو الامر الذي يسعى الفلاسفة خلفه  بغية تنظيم العمليات الرقميَّة تلك وتوجيهها بطريقة تتسم بالكفاءة والاعتدال، ومن ثم إدارتها بشكل عقلاني .

والعصر ما بعد الصناعي أو المعلوماتي يشير إلى تلك الفترة التي أعقبت المجتمع الصناعي كما أشرنا سالفا، أنَّه عصر تميز بالتحول من الوسائل التقليديَّة إلى التكنولوجيا الرقميَّة، ويشمل ذلك ربط الأشياء بالأنترنيت، الأجهزة الذكيَّة والبيانات الكبيرة . كما يشير العصر الرقمي الا أنَّ كل اشكال المعلومات يمكن أنَّ تصبح رقميَّة : النصوص، الرسومات، الصور الساكنة والمتحركة، والصوت. مما فتح إمكانيَّة تخزين وتوزيع هذا الكم الهائل من المعلومات التي تتزايد باستمرار . كل ذلك جعل من هذه التكنولوجيات العصريَّة جديرة بالاهتمام .{5}

وعليه نجد العديد من الفلاسفة اهتموا بالتقنيات الرقميَّة  بوصفها ظاهرة موحدة، متجانسة، لا مفر منها . فلا يهتمون بتحليل هذه الظاهرة وفهمها، بحد ذاتها . بل في علاقتها بالأخلاق { جوناس، جيهلين} والسياسة {وينير} وبنية المجتمع {مومفورد} والثقافة الإنسانيَّة {إلول} والحالة الإنسانيَّة { حنه ارنت} والميتافيزيقيا { هيدجر} {6}. إذ كان اغلب هؤلاء الفلاسفة ينتقدون ما يترتب عن الرقميات التقنيَّة  من سلبيات وما لها من تأثيرات ضارة على الانسان، وعلى المجتمع والثقافة، وذلك حينما انتزعت الآلة الإلكترونيَّة الإنسان من مكانته الاجتماعيَّة لتحل مكانه الات رقميَّة تنافسه في المهام التي كان يؤديها {7} . و يرومون من كل ذلك التوجيه للإستخدام المعقلن لهذه التقنيات بطرق تعزز من القيم الإنسانيَّة بدلا من تهميشها، والحرص على أهميَّة التوازن بين الفوائد والمخاطر التي تفرضها هذه المعلوميات .

ليتجه الفلاسفة بذلك نحو ابتكار كوجيطو جديد مخالف تماما لما أنتجه مؤسس الفلسفة الحديثة، أنَّه ما تسميه الفيلسوفة الفرنسيَّة بوسي غلوكسمان كوجيطو الزائل، بحيث يتمثّل هذا الكوجيطو في هذا التحوّل العميق الذي حدث في الثورة الرقميَّة من ثقافة السلع إلى ثقافة الصور المتدفقة، أي ثقافة الشاشات والتفاعل السريع . أنَّ هذا النوع الجديد من ثقافة الشاشات لا تعيد إنتاج الزمن بالمعنى التقليدي الخطّي له، إنّما هي تنتج زمنا آليا خاصّا، زمن التأثير والإثارة، زمن الآلات المجرّدة المعولمة  {8} . وهو الشيء الذي يفرض علينا التكيف معها والتعامل معها بتفكير نقدي بناء يروم التوجيه المعقلن في التفاعل معها، على اعتبار أنَّ العالم الرقمي أصبح يحيط بنا من كل اتجاه، بل إننا نودع فوق سطوحه كل خصوصياتنا، وتوكل إليه صناعة ذاكراتنا.

غير أنَّ السؤال الذي يفرض نفسه هاهنا لماذا نحتاج لعقلنة الرقميات هذه ؟ يبدو نوعا ما أنَّ ما يطمح الفلاسفة من وراء هذه العقلنة هو التقليل من المخاطر التي تسببها التقنيات تلك، على اعتبار أنَّ مجتمع المعلومات الذي تنتجه الرقميات  يشبه شجرة تنمو افرعها السامقة بشكل أكبر وأسرع وأكثر عشوائيَّة، مما أدى إلى غياب التوازن والاستخدام الموجه ِ، وبالتالي الانتشار السلبي لها يفوق ما لها من الإيجابيات، وكمثال على ذلك، خد مثلا بسرقة الهويَّة، بعبارة أخرى: استخدام المعلومات لانتحال هويَّة شخص آخر، بغرض السرقة أو تحقيق فوائد أخرى . إذ وفقا للجنة التجارة الفدراليَّة، قدرت عمليات احتيال التي تتضمن حالات سرقة الهويَّة في الولايات المتحدة بما ما يقترب من 52,6 مليار دولار امريكي من الخسائر في عام 2002 فقط، وهي العمليات التي تأثر بها 10 ملايين مواطن امريكي {9} .  وبناء عليه، يواجه أي مجتمع معلومات متطور اليوم المهمة العاجلة المتعلقة بتزويد نفسه بفلسفة تقوم عن أساس يعتمد على ترسيخ استيعابنا لتداعيات عصر معلوماتنا هذا، ولطبيعته، ولأثره على الفرد والمجتمع، وبالتالي التمتع بالنضج الكافي في التعامل مع تلك الرقميات.

على هذا النحو إذن يتجه الفكر الفلسفي نحو مرحلة تختلف تماما عن سابقاتها، مرحلة تبدلت فيها المواضيع والاهتمامات الفلسفيَّة، في مجتمع يعتمد في تطوره بصفة رئيسيَّة على المعلومات والحاسبات الآليَّة  وشبكات الاتصال {10}، أي أنَّه يقوم على التكنولوجيا الفكريَّة التي تطلب التفاعل معها من قبل الفلاسفة من خلال تحليل المفاهيم والسعي بشكل عام وراء فهم التكنولوجيا والإرشاد العقلاني في التعامل معها .

المحور الثالث : الفلسفة والتحول الرقمي “تأمُّلات في التحدِّيات والفرص “

 لا تزال التكنولوجيات الرقميَّة تغير العالم بعمق وعلى نحو لا سبيل إلى الرجوع عنه لأكثر من نصف قرن من الزمان وحتى الآن، على نطاق هائل وبمعدل فائق السرعة، فهي من ناحية أدت إلى ظهور فرص حقيقة ووشيكة ذات فوائد عظمى على التعليم والرفاهيَّة، الازدهار، فضلا عن المميزات الاقتصاديَّة والعلميَّة  الكبرى {11}، ومن ناحية أخرى وفرت فرص عظمى أمام المجال الفلسفي في الدخول صلب ما تثيره الرقميات تلك وفتح النقاش الفلسفي العقلاني أمام  التأثيرات المحتملة إزاء  التحولات التي يفرضها العصر الرقمي . وهو ما يستدعي التدبر والتفكر في الفرص المتاحة أمام ممارسة التفلسف، بل والتأمل في  العقبات والتحديات التي تقف أمام النظر الفلسفي في عصر رقمي تكنولوجي معلوماتي.

على هذا الشكل إذن،  يتبين على أنَّ مهمة الفيلسوف في عصر تمثل الرقمنة حاضره ومستقبله تتجلى في الانخراط بالعالم الرقمي باعتباره تحديا جديدا للفلسفة، مما يفرض عليه تحديد دوره وموقفه من مختلف التساؤلات التي استجد طرحها، بل وعلى الفكر الفلسفي هذا إعادة النظر في الوظيفة الموكلة على عاتقه باعتباره أداة لنشر الفكر النقدي {12}،  . ولعل تراجع هذا الأخير يعد من بين أهم التحديات التي تواجه الفلسفة في عصر الرقمنة بسبب المعلومات المفرطة التي يسهل الوصول اليها  والتأثير الملاحظ لوسائل التواصل على المعرفة، وبفعل صعوبة الحفاظ على العمق الفكري في بيئة سريعة التغيير، وهو الشيء الذي بات يمهد إلى النفور من الدرس الفلسفي اليوم، ولعل السير وراء حذف الحقل الفلسفي من البرامج الدراسيَّة في مصر نموذجا على ذلك، إذ لم يعد يلاحظ أهميَّة النقاش الفلسفي في عصر أصبح الوصول فيه إلى المعلومات أمر يسير. غير أنَّ إلى جانب كل ذلك تعد اللغة من بين العقبات التي تواجه الخطاب الفلسفي في الاندماج مع التحولات التي يفرضها العصر؛ إذ يجب على الفلسفة معالجة المشكلات التي تنطوي عليها الرقمنة، وهو ما لا يتأتى إلا باعتماد لغة تواكب ما نحن صلب دراسته لا الاعتماد على لغة فلسفيَّة تقليديَّة ذات ألفاظ ميتافيزيقيَّة، ومنه على الخطاب الفلسفي أنَّ يطور من لغته إلى حد اقترابها من اللغات الرقميَّة لكن مع قدرتها للاحتفاظ على خاصيَّة  التميز بين الواقعي والافتراضي، على اعتبار أنَّ الفلسفة ليست مجرد تشخيص لما هو كائن من قبل، بل تفكير في ما يجب أنَّ يكون .

لكن رغم التحديات السالف ذكرها، نجد أنَّ الفلسفة في عصرنا الحالي تتمتع بالعديد من الاتجاهات والتيارات المختلفة  التي تجعل منها حقلًا متشابكًا بطرق جديدة مع مختلف العلوم. والرقمنة باعتبارها جزءًا من العلوم في العصر الحديث، تعرض نفسها للمسائلة داخل المجال الفلسفي، لكون جوهر الفلسفة نفسها يتمثل في مساءلة المشكلات ومناقشة الإشكاليات، وعليه  يصبح من الضروري على الفلسفة معالجة المشكلات التي تنطوي عليها المجتمعات المرقمنة، ليتجه النقاش الفلسفي بذلك نحو دراسة الطريقة التي نتفاعل بيها يوميا في ظل حضور الشبكات الاجتماعيَّة، ومآل الاخلاق والهويَّة في ظل الافتراضات تلك، مما يعزز ويفتح مجالات جديدة للبحث الفلسفي .

بهذا الشكل يناقش البحث الفلسفي مواضيع كالقيم والأخلاق والهويَّة، وهي مواضيع ضن فيها أنها حسمت وحسم القول الفلسفي إزاءها، ورغم أنَّه يبدو أنها استعادة للمواضيع القديمة، الا أنَّه يتم تعديلها من جوانب شتى ودراستها من مناحات مختلفة وفقا لظهور عصور جديدة وتطور أنواع مختلفة من المعرفة، وذلك لتنوع الفرص التي تتيحها الرقمنة لتسهيل الدراسة المعمقة لتلك المواضيع،  حيث السهولة في الحوار والوصول إلى المصادر الفلسفيَّة  ونشر الأفكار في المدونات والبودكاست ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو الشيء الذي  يثري ويعزز النقاش والفهم الفلسفي .

ولعل ذلك ما يؤكد مسألة خلود الفلسفة ومرافقتها لأي ممارسة إنسانيَّة، الفن منها والأخلاق والسياسة بل والعلم . الشيء الذي يجعل منها حقل يتجاوز الزمن لتواكب كل مستجد إنساني، حيث تكن بذلك جزءًا أساسيًّا من الحوار الثقافي والفكري،  ومجالا يؤسس لفهم أعمق للممارسات والافتراضات.

خاتمة :

في ختام موضوعنا، يمكن القول إنَّ الحوار القائم بين الثورة الرقميَّة والفلسفة، ما هو إلا تطور لجل المواضيع التي واجهت الخطاب الفلسفي في تاريخه. فقد تتغير المحاور، لكن الموضوع واحد ؛ إلا وهو مدى قدرة الفلسفة في مواكبة مستجدات العصر والتفاعل معها، فعصر النهضة مثالا كان المحاور عبارة عن كنيسة كاثوليكيَّة ذات نفود كبير في الحياة الثقافيَّة والفكريَّة، لكن الموضوع لم يتبدل، بل كان جوهره تساؤل عن مستقبل الفلسفة في عصر تتحدى فيه الكنيسة الأفكار التنويريَّة النقديَّة بل والمعرفيَّة بشكل عام، لكن كلها توترات وصراعات  لم تزد الفلسفة إلا تطورا وازدهارا .

  وأخيرا، إنَّ ورقتنا المختصرة هذه لم تكن لتلم بجميع جوانب موضوعنا هذا، على اعتبار أنَّ الثورة الرقميَّة لها امتدادات على جميع الممارسات الإنسانيَّة، فهي تشكل نمط عيش في عصرنا الراهن، ممَّا يؤدي إلى تأثيرها على الأخلاق والفن والسياسة، وهو ما يتطلب على الباحثين الوقوف عندها وطرحها محل استشكال وذلك  كل من جانبه . 

________

المراجع :

1: فلسفة التكنولوجيا، تأليف د أيوب بوديَّة ص 15


 2 : فلسفة التقنيَة موسوعة ستانفورد  للفسلفة ترجمة مالك ال فتيل ص 2

3 : فلسفة التكنولوجيا ص 13 

4 : مارتن هيديجر ’ التقنيَة’ ترجمة حسن خبي، مجلة مدارس فلسفيَّة، العدد الثالث  2000 ص، 105

 5 : جوازيا رويس، روح الفلسفة الحديثة ترجمة احمد الانصاري، المركز القومي للترجمة القاهرة، ط 2 2000

6 : فلفسة التقنيَة ص 8، المصدر السالف .

7 : يحي سليم سليمان عيسي ’تحولات صورة الانسان في المجتمع الالي : دراسة تحليليَّة لبعض النصوص المسرحيَّة ’ المجلة الأردنيَّة للعلوم الاجتماعيَّة / الجلد 10 / العدد3/ 2017 ص 429

8 : الحوار المتمدن، تاملات فلسفيَّة في الحياة الرقميَّة، ام زين بنشيخة المسكينة/2021

9 كتاب المعلومات : مقدمة قصيرة جدا، لوتشانو فلوريدي، ص15

10 : حسام الدين محمدمازن، التكنولوجيا الرأسمعرفيَّة لبناء مجتمع المعرفة الرقمي، المجلة التربويَّة، العدد الثاني والخمسون، جامعة سوهاج، 2018،ص 424

11 كتاب المعلومات، المصدر السالف .

12 : Philosophy and the challenges of the digital age محمود موسى زياد،مجلة التطوير العلمي للدراسات والبحوث، المجلد 5 العدد 17، اليمن، 2024

__________
عبدالله بوتغرار طالب جامعي ، وباحث في الفلسفة بالمدرسة العليا للاساتذة بالرباط .


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة