كتاب ثناء على الجيل الجديد؛ رؤية مدرِّبة معلِّمات ومعلّمين للكتاب من منظور مهني
نور سكجها[1]
منذ أول ما ظهرت أمامي صورة غلاف كتاب: “ثناء على الجيل الجديد”، للدكتور عبد الجبار الرفاعي، والصفحة الأولى التي يعلن فيها المؤلف بصراحة لافتة: “تعلمت من أبنائي أكثر من آبائي، وتعلمت من تلامذتي أكثر من أساتذتي”. لم أصدق جرأة العنوان، وما تضمنته كلمات الرفاعي في الاهداء وكل الكتاب. لن يفهم أحد بسهولة قدرة شخص على التصريح بأن هذا الجيل يستحق الثناء، إلا من دخل في أواصر المسببات للبعد بيننا و بينه. من فهم معاناتهم و أراد المبادرة بطرح الحلول.
كوني مدربة معلمات ومعلمين لمنهجيات و استراتيجيات نضمن بها حماية الطفل من أشكال الإساءات المتنوعة، و أهمها النفسية في الصفوف والمدارس، كنت دوما أكرر جملة، أعتقد أنها أكثر ما جذبني للكتاب وفسرت رغبتي بالحصول عليه بأسرع وقت ممكن. أقول للمعلمين: رغم اتهام أغلب من يدرّسون و يربون الجيل الحالي بأنه سيء و كثير التذمر وقليل الانتباه و أنه جيل فاشل، الا انني شخصيا أشفق على هذا الجيل وأحزن على عدم فهمه وفهم أحلامه والزمن الذي يعيش فيه.
أكمل هذه الجمل بتفسيرات لطالما أخفقت في رصفها وسردها بالشكل الصحيح المناسب. كنت أحاول أن أسرق بعض دقائق من الجلسة التدريبية لكي أجرب وضع التربويين و المعلمين في مكان هذا الجيل الذي يوجهون إليه أصابع الاتهام بالفشل و قلة الأدب. في عقولهم، في عيونهم، وفيما يواجهون من كثرة مصادر المعلومات دون المؤهلات التي تحميهم من الضياع والتحليل الناقص، والتخزين الخطير لمعلومات تصبح يوما ما هويتهم.
دعوكم من التعميم المتسرع السائد في جلساتنا، هذه قصة أخرى تقتل بمن يفتقدون الوعي الأملَ نهائيا من الجيل، وتمنعهم من اعادة التفكير.
لنركز اليوم على عدم قدرة من سبقوا الجيل الذي يعيش بزمن الهوية الرقمية، من تخيل صعوبة العيش بهذا الزمن. بكل ما يحمل من تحديات، لا نحن كأهل مستعدون لها، ولا باستطاعتنا تهيئة الجيل الحالي لها، بل ان الأسوأ من هذا هو هروبنا أحيانا منها.
مضيت بهذه الأفكار لبضع سنوات، أدخل بها على صفوف و أخرج من أخرى. أقابل مسؤولين في ادارات أهم المدارس، وأهالي وأمهات يائسات من أبنائهم المراهقين، وما دون سن المراهقة. وأنا كل ما يشغل بالي هو: كيف يمكنني أن أجد الوقت والطريقة والاثباتات والمداخل لأقرب الجيلين أو فعليا الثلاث أجيال التي أقابل من بعض؟
كيف لهم أن يدركوا أن الأمر أكبر وأعظم من مشكلة منهج أو أسلوب أو مبنى بحاجة لترميم؟
كيف يمكنني أن أجعل هؤلاء المعلمين والمعلمات والمدراء و المديرات وأصحاب المؤسسات التعليمية قادرين على احداث فرق حقيقي في حياة الطلاب “الصعبين” في منظورهم؟
كيف لي أن أفتح عيون الأهل على الحاجات الحقيقة لأطفالهم؟ لتكون مفاتيحهم لاستدامة العلاقة و الأمان العاطفي بينهم؟
ثم جاء الحل أمام عيناي. بعد أن ظهر منشور الاعلان عن كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي: (ثناء على الجيل الجديد)، لم أستطع ايقاف مخيلتي من رسم ما قد يكون محتواه. كطفل بدأت عيناه تلمع، ووجهه يرتسم مبتسما، وكأنه وجد حلويات العيد.
تأملات بغلاف ووصف قصير عنه لأحلام تحققت، لاستغراب من جرأة كاتب على مواجهة أكثر من ثلاث أرباع – ان لم يكن أكثر- من القراء الذين لن يعجبهم ثناء لجيل أرهقهم! أتعبهم! جيل من منظورهم بعيد كل البعد عن القيم و العادات و المسلّمات التي يحاولون جاهدين تلقينها لهم بأساليب تحتضر. يقول الرفاعي في مقدمة الكتاب: “أحاول في هذه الأوراق تقديمَ رؤيتي الشخصية، وإن كنت أعرف سلفا أنها لا تعكس رؤية جيلي، ولم أمنح نفسي الحق بالكلام نيابة عن أيّ إنسان في الأرض”.
في صورة الكتاب المرفقة هنا أكثر من مئات الكلمات التي يمكن أن أكتب عنها. أعتقد أنها انعكاس لما بداخلي أكثر منها صورة شكلية للكتاب. في الصورة كتاب: (ثناء على الجيل الجديد)، وأربع أيادي متعاضدة لأم وثلاثة أطفال، تمسك به كميثاق أو وعد أو اتفاق جديد، كونته مع أطفالي لحظة انتهائي من قراءة هذا الكتاب التحفة. لن أستسلم من محاولة تصغير هذه الفجوة أبدا بين الأجيال في عصرنا.
وجدت الحل بهذه الصفحات من كتاب الرفاعي، ووجدت الدليل المنطقي لكل ما كان يتراكم بذهني بسرد ممتع معاصر ثري. في الكتاب و أخص فصوله الأولى والأخيرة، الكثير من الأرقام والمعلومات والرؤى التي تثبت حاجة مجتمعاتنا للتغيرات الجذرية بأنظمتنا التعليمية و التربوية. هذا نموذج يجب أن يدرس للمعلمين أولا ثم الأهل، الآباء والأمهات والأجداد.
تخيلت الكاتب جالسا على أريكة منفردة بزاوية ما ببيت ابنته يراقب حفيدته، يحلل و يفكر، يتحدث معهم و يسألهم، ثم يكتب انطباعاته بتأمل عميق، ليحولها لاستنتاجات تتلخص ببراعة في كتاب.
أتخيل أيضا، ربما كانت محاضراته وندواته تمتد لما بعد وقت انتهائها، فيكون جالسا مناقشا لشباب تستفزه أسئلتهم، ويستفزه تمردهم وشكواهم من سوء فهم محيطهم من الجيل السابق لهم. يعيد تكوين أفكار ويخلق أخرى مما يتعلم منهم، رغم كبر قدر علمة و ثراء فكره العظيم. يبهرني هذا فعلا. يتحدث قائلا: “لا أفتقر لمعرفة الجيل الجديد، أغلب علاقاتي وأحاديثي وحواراتي معهم، هم أقرب إليّ، يعرفون جيدا قربي لهم، وفهمي لنمط حضورهم في العالم الجديد. عملت في التعليم أكثر من أربعين سنة، وكنت وما زلت أقرب لرؤية جيل الأبناء من رؤية جيلي. ذلك ما يدعوني للكتابة عن هذا الجيل، وتثمين منجزه اليوم، وما يعد به غدا”.
مع اتساع الفجوة بين الأجيال، ورغم أنني أرى أننا كمجتمعات سنقاوم جدا ما ورد بهذا الكتاب، إلا أنني متأكدة ان هذا الإدراك سيأتي لهم يوما ما.
اقتباسات كثيرة يمكننا أن نخلق من كل منها مقدمة لكتاب ممتد بأفكار أخرى، وتعمق أكبر لبحوث ونظريات لافتة جديدة. يدعو المؤلف الآباء لتمكين الأبناء من القيادة بقوله: “لو تراجع الآباء خطوة إلى الوراء، وفسحوا الطريق للأبناء في قيادة مؤسسات الدولة والمجتمع وإدارتها، وشاهدوا الحضور الفاعل والمؤثر لوعي الجيل الجديد وخبراتهم، وقدراتهم الاستثنائية على الإصغاء لصوت العصر، لفوجئوا بمبادراتهم الرائدة في الحقول المتنوعة، وقدراتهم في التغلب على عوائق النهوض، وجعل بلادنا تواكب متغيرات الواقع وتصغي لمتطلباته، ووضعوها في آفاق العالم الحديث”.
كم كان جميلا حديث الدكتور عبد الجبار الرفاعي عن حاجة كبار السن لوسائل التواصل في زمن نفتقر به الاتصال العائلي، وكيف أنه صار للكثير منهم منقذا من الوحدة والغربة. وكم أعجبت بوصفة للعالم الرقمي، وتلخيص أسباب فشل النظام التعليمي المدرسي والجامعي في عصر الهوية الرقمية بعوامل محددة واضحة.
أثرى الدكتور الرفاعي كتابه بما أصفه بـ “هدنة”، بعد أن جعلنا ندرك نواجه أنفسنا بالحقيقة بين أول وآخر الكتاب. فتحدث لنا عن: الاستثمار في الحب، ومعنى الوجود والحياة، والصمت، ومفاهيم مضيئة من الدين والتراث والتاريخ. الواعي المثقف المطلع هو فقط من سيستوعب أهمية السير بالتوازي بكل هذه الأفكار معا وتكاملها. وأهمية بذل مجهود متساوي لتحقيق نجاح حقيقي في انشاء جيل واع متوازن، قادر على التعبير عن نفسه و معرفة هويته، والأهم تجانسنا وتضامننا معا كأجيال مختلفة بهذا الزمن.
يؤكد الرفاعي على أن: “التربية السليمة تعتمد الحصانةَ لا المنع، الأبناء ينتمون إلى عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، يتعذر علينا إرجاع الزمن للوراء والهجرة العكسية من زماننا إلى الماضي مهما فعلنا.كنتُ لا أمنع أولادي من اللعب في الشارع والاندماج بجيلهم، والتعرّف على الواقع ميدانيًا. أساعدهم على اكتشاف ذواتهم، والتنقيب في خرائط دروب الحياة المتشعبة بأنفسهم، لئلا يعيشوا مغتربين عن عصرهم وجيلهم. أرشدهم، وأراقب سلوكهم من بعيد، ولا أتدخل كثيرًا في حياتهم الخاصة وخصوصياتهم. حرصت على أن يكون أولادي كما هم لا كما أنا،كلٌّ منهم يشبه ذاته، ما أكرهتهم على محاكاتي، ولم أحثّهم يومًا على استنساخ صورتي. تطورت شخصياتهم في سياق طبيعتهم البشرية وبنيتهم النفسية وزمانهم، فصاروا يعبرون عن ذواتهم ورؤيتهم للعالَم وأحلامهم قبل تعبيرهم عني ورؤيتي للعالَم وأحلامي، وهذا سرّ النجاح في حياتهم”.
كل الشكر و التقدير للدكتور عبد الجبار الرفاعي، أولا على جرأته في طرح هذا الأمر بكل فخر، ابتداءً من عنوان الكتا والإهداء لأبنائه وتلامذته إلى نهاية الكتاب. وثانيا على إثراء هذا كله برؤى تربوية أساسية لبناء الجيل الجديد واستثمار طاقاته، ليكون يوما ما دليلا على محاولة عربيه جادة لتغيير نمط تفكير متكرر يقود لصراع الأجيال.
أتمنى أن تضيء رؤى الرفاعي مجتمعاتنا كما تضيء رؤية الشمس أرضنا، لأنها رؤى مكتنزة بفكره الواعي لمشكلة من أعمق مشكلات حياتنا اليوم في العائلة والمدرسة والمجتمع.
[1] كاتبة أردنية، تعمل مدربة معلمات ومعلمين أطفال.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.