الجنون والإنسانيَّة: حدود التجريد والإقصاء في المجتمع العقابي

image_pdf

يعدُّ الجنون من أكثر المواضيع جدليَّة وحساسيَّة في كل من الفلسفة وعلم النفس، وذلك نظرًا لتكريسه من قبل عدد من الأنظمة كأداة للتحكُّم الاجتماعي وفرض سلطة الأعراف والقوانين الضمنيَّة للمجتمع العقابي. يعيد فوكو جل التساؤلات الأكاديميَّة والفلسفيَّة عن الجنون إلى الواجهة من خلال محاضراته التي ألقيت في الكوليج دو فرانس، والتي تناولت مواضيع مختلفة، معظمها لها علاقة بالرقابة الاجتماعيَّة والمؤسَّساتيَّة التي تفرضها السلطة على أفراد المجتمع العقابي. كما أنَّ كتابه “الجنون والحضارة: تاريخ الجنون في عصر العقل”[1] يلقي نظرة على الجنون قبل أن يصبح فهمه محصورًا في كونه حالة مرضيَّة، إذ إنَّ فوكو يجادل في هذا الكتاب أنَّ النظرة العامة تجاه الجنون قد تغيَّرت عبر التاريخ أكثر من مرَّة.

 

التصوُّر العام للجنون عبر التاريخ:

خلال العصور الوسطى كان يُنظر للجنون على أنَّه حكمة تتجاوز القدرة الاستيعابيَّة لعامَّة الناس، أو حالة خاصَّة من التنوير ونيل المعرفة ناتجة عن اتِّصالٍ بعالم آخر ينعم به “المجانين” دون غيرهم. ثمَّ سرعان ما نَسَجَت مختلف الحضارات والثقافات روايات تحاول تفسير حالة الجنون التي قد تصيب الفرد، وقد اختلفت هذه الأساطير عن بعضها البعض بين من يرى أنَّ لوثة العقل لعنة إلهيَّة وعقاب دنيوي، ومن يرى أنها تَدَخُّل من قوى خارقة واستحوذت على جسم المجنون. أمَّا في عصر النهضة، فقد بات الجنون شيئا مخالفا للعقلانيَّة السائدة خلال تلك الحقبة الزمنيَّة وبالتالي أصبح المجنون هو “الآخر” الذي يتعرَّض للإقصاء بسبب عجزه عن مواكبة التغيُّرات الاجتماعيَّة وضروريَّات المرحلة التنويريَّة، وتمَّ التعامل مع هؤلاء الأفراد عبر النفي والعزل، وباتوا منبوذين حيثما حلُّوا. مع بداية ما يسمِّيه فوكو بالعصر الكلاسيكي، ظهرت مستشفيات ومؤسَّسات خاصَّة لعزل المجانين لا تهدف بالضرورة لعلاج هؤلاء الأشخاص، وإنَّما تسعى أساسًا لإقصائهم من المجتمع العقلاني وحماية الأسوياء من جنونهم.

ما يؤكِّد على أنَّ هذه الإجراءات كانت تسعى للسيطرة على الأفراد أكثر من أي شيء آخر هو استخدام الجنون أو “الهيستيريا” كمبرِّر لعزل النساء اللاتي رفضن العيش تحت ظلِّ البطريركيَّة، وحاولن الاعتراض على الوضع الراهن الذي يجرِّد المرأة من أبسط حقوقها. استخدم عدد من الرجال سلطتهم لخلق إجراءات عقابيَّة باسم العلم لردع الناشطات الحقوقيَّات والنساء الثائرات، حتى أنَّ الأدب النسوي الكلاسيكي يزخر بكتابات توثِّق هذه الممارسات الشنيعة التي تحاول سلب استقلاليَّة المرأة النسويَّة إمَّا عبر وسمها بالجنون، أو دفعها إليه عن طريق إهمال صحّتها النفسيَّة.

من بين الأعمال الأدبيَّة التي ساهمت في نقد التصوُّر السلطوي للجنون كوسيلة للقمع الاجتماعي نجد قصَّة “ورق الحائط الأصفر” للكاتبة الأمريكيَّة شارلوت بيركنز غيلمان، والتي تسلِّط الضوء على قضايا الصحَّة العقليَّة للنساء خلال القرن التاسع عشر. تسرد هذه القصَّة الشهيرة حكاية امرأة أمريكيَّة تنتمي إلى طبقة اجتماعيَّة مخمليَّة وتعاني من اضطراب نفسي، لكن زوجها الطبيب وشقيقها يقرران أنَّها بصحَّة جيدة وأنَّ كل ما في الأمر أنها تحتاج لنيل قسط من الراحة لكي تستعيد عافيتها ونشاطها. يؤدي إهمال حالتها النفسيَّة وعزلها في غرفة ذات ورق حائط أصفر إلى تدهور حالتها ودخولها في حالة من الهلوسة تكاد تدفعها إلى حافة الجنون. تجد الشخصيَّة الرئيسيَّة الكثير من الراحة في تدوين أحداث يومها وكتابة أحاسيسها على الورق، إلا إنَّ زوجها يصر على أنَّ الكتابة ترهقها وتتسبَّب في تدهور حالتها الصحيَّة. تسلب وصاية الزوج وسلطته مصيرها وإرادتها وتجعلها عاجزة عن التحكُّم في حياتها، وبالتالي فإنَّ سوء تقديره وعدم احترامه لرغبات زوجته يكلِّفها عقلها وصحتها النفسيَّة في نهاية المطاف. يمكن قراءة هذا النصّ الأدبي على أنَّه مثال لكيفيَّة استخدام السلطة للمعرفة الطبيَّة كمنتج لتعريف “الجنون” وتبرير العزل.

إضافة إلى ذلك فإن مستشفى الطب النفسي أضحى، خلال هذه الحقبة الزمنيَّة، المكان المُؤَسَّسي الذي يحصل فيه وبه إقصاء المجنون. كما أنه بات المكان الذي انطلقت منه العقلانيَّة السلطويَّة التي تفصل بين الأسوياء والمجانين طبقا لمعايير ينتجها خطاب منتحل لصفتي العلميَّة والتجريبيَّة، وهو خطاب ينطلق من المستشفى إلى الشارع العام ويُتداول على أساس أنه معرفة حقة عن الجنون[2]. من خلال هذا التداخل بين المستشفى كفضاء عقابي خاص والشارع العام كفضاء عقابي عام، يصبح للجنون تصور موحد متفق عليه، وهو تصور يميل نحو الالتزام بمجموعة من التكتيكات التي يُعاقب من خلالها المرضى بسبب اختلافهم.

كثيرا ما يتم الحديث عن الأشخاص المجانين بشيء من الفوقيَّة، ويتم التعاطي مع المعرفة التي ينتجونها على أنها محض ترهات لا قيمة لها. من المؤكَّد إذن أن المجتمع لا يمكن له أن يرى الجنون أبدا كمعرفة منطقيَّة أو صحيحة إلى حد ما، وذلك ليس لأن الجنون يفتقر إلى خصائص العلم من منهجيَّة تجريبيَّة وبرهنة تحليليَّة، بل لأنَّه لم يخضع قط للعمليَّة الإبستمولوجيَّة التي تتطلَّب توافقا اجتماعيا حول ما يعد طريقة صحيحة لاستخلاص الحقائق، وبالتالي يُرفض من قِبل “النخبة المثقفة” والمجتمع ككل.

إلى يومنا هذا، وفي ثقافتنا الشعبيَّة، لا يزال فقدان العقل مرتبطا بتفسيرات ميتافيزيقيَّة – مثل السحر والمسّ – مستوحاة من المعتقدات الدينيَّة والأسطوريَّة. يترتب عن هذه التفسيرات البديلة بعض الممارسات “العلاجيَّة” التي سرعان ما تَحِيد عن هدفها، فتتحول بالتالي إلى جلسات تعذيب تحاكي الممارسات اللاأخلاقيَّة التي شهدتها مستشفيات طب النفس الأوروبيَّة خلال العصر الكلاسيكي. وكذلك كان حال مرضى أضرحة الأولياء الصالحين في شمال إفريقيا الذين عانوا الأمرَّين لسنوات بسبب التعذيب الجسدي والنفسي الناتج عن تصديق الخرافة وتقديسها، وهم لا يزالون يعانون من الآثار النفسيَّة للتعنيف الممنهج الذي تعرَّضوا له.

 

العقل شرطًا للإنسانيَّة؟

في فلسفة كل من إيمانويل كانط وأرسطو، يعتبر العقل ميزة الإنسان عن غيره من الكائنات وجوهر إنسانيته. لكن ما الانسانيَّة؟ وما الذي يجرِّد الإنسان من إنسانيته؟ أهي غريزته الحيوانيَّة؟ أم هو فقدانه للبوصلة الأخلاقيَّة (moral compass) التي يساعده على التمييز بين الخير والشر؟ أم هو فقدان العقل أو “الجنون” ؟ يشير أندريه لالاند في موسوعته الفلسفيَّة إلى أن مصطلحَ “الإنسانيَّة” يعني “النظام التربويّ التقليديّ الذي يرمي إلى تكوين الشخصيَّة الكلّيَّة والإنسانيَّة بواسطة الإنسانيّات”[3]. وبالرغم من تباين الأطروحات والنظريات الفلسفيَّة فيما يخص الإنسانيَّة، فإن هذا المفهوم يمكن أن يُختزل في عصارة القيم الأخلاقيَّة التي تركز على الكرامة البشريَّة وتعبر عن سماتٍ مثل العقلانيَّة، العواطف، والأخلاق؛ هي إذن خاصيَّة بشريَّة بقدر ما هي توجه فلسفي.

إن الفهم التقليدي لكل من العقل والجنون يخلق رابطا افتراضيا بين العقل والإنسانيَّة، وهو ما انتقده كل من ميشيل فوكو وجاك دريدا، حيث اعترض هذا الأخير من خلال مشروعه المسمى بـ “فلسفة التفكيك” على وضع العقل معيارا حصريا أو مطلقًا للإنسانيَّة. يؤكد دريدا على أن العقل بناءٌ لغوي وثقافي، وأن قيمته لا تلغي وجود عناصر مغايرة تشكل هي الأخرى مجملَ فسيفساءِ التجربة الإنسانيَّة المعقدة، كما ينتقد الفيلسوف الفرنسي ما يسميه بـ “اللوغسكرينتيَّة” أو التمركز على العقل الذي يظهر جليا على ملامح الفكر الفلسفي الأوروبي[4]. يسعى دريدا في معظم أعماله إلى تقويض البنى الفكريَّة الثابتة التي تقوم على أسسها الفلسفة الغربيَّة، بما في ذلك التمييز الحاد بين العقل واللاعقل الذي يرسخ ثنائيَّة مطلقة توحي بأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان في حين أنهما – مثل معظم الحالات البشريَّة – لا يخلوان من التشابك الداخلي. وفي نفس السياق، يزعم فوكو أن الحد الفاصل بين الجنون والعقل هو معيار القيم الاجتماعيَّة وأن المجنون ما هو إلا شخصيَّة اجتماعيَّة مصطنعة تعد وليدة المعرفة السائدة في كل زمن وحقبة. بالنسبة لفوكو، بما أن مفهوم الجنون والتصور العام للمجانين قد تغير أكثر من مرة عبر التاريخ، فإن ذلك يدل على كون الجنون تركيبة اجتماعيَّة (social construct) وليس حالة مرضيَّة تابثة.

المقاربة الإنسانيَّة لمحاربة الإقصاء العقابي:

بينما قد يفقد الإنسان توازنه النفسي وصحته العقليَّة لأسباب عديدة، يبقى الجانب العاطفي حاضرا في وجدانه وأحيانا يتمكن من التصرف بأخلاقيَّة رغم تشويش تقديره القيمي، لذا تبقى محاولة تجريد هذا الإنسان من إنسانيته وكرامته فعلا شنيعا وممارسة استغلاليَّة خطيرة يمارسها المجتمع العقابي على هاته الفئة الهشة. يعاني المصابون باضطرابات عقليَّة من وصمة اجتماعيَّة تجعلهم منبوذين، وتبث الرعب في نفوس العامة تجاههم، في حين أنهم في أمس الحاجة إلى المساعدة والدعم المادي والمعنوي.

 تقترح المدرسة الإنسانيَّة في علم النفس حلولًا أكثر نجاعة في التعامل مع الوصمة الاجتماعيَّة التي تعرقل عمليَّة إعادة الإدماج، إذ إنها تضع نصب اهتمامها الكرامة الإنسانيَّة والحريَّة الشخصيَّة. تؤكد هذه المدرسة الفكريَّة على ضرورة رد الاعتبار للفرد كونه ضحيَّة ظروفه وكذا منحهِ الأدوات العمليَّة التي من شأنها أن تنتشله من عزلته وتساعده على الشفاء.

تؤمن المدرسة الإنسانيَّة بأهميَّة بناء علاقة صحيَّة بين المعالج النفسي والمريض، أساسها الثقة والتعاطف والتَّفَهُّم، ويدعو رواد علم النفس الإنساني إلى إعادة النظر في الإجراءات الإقصائيَّة التي يفرضها المجتمع العقابي على الأشخاص الذين يعانون من أمراض عقليَّة وإلى احترام الاختلافات الفرديَّة وتقبُّل “الآخر” كما هو. 


[1] Foucault, M. (1965). Madness and civilization: A history of insanity in the age of reason (R. Howard, Trans.). Pantheon Books. (Original work published 1961)

[2] Foucault, M. (2015). The punitive society: Lectures at the Collège de France, 1972–1973 (G. Burchell, Trans.). Palgrave Macmillan.

[3] Lalande, A. (1926). Vocabulaire technique et critique de la philosophie (8th ed.). Presses Universitaires de France.

[4] Hannabuss, S. (2006). The Edinburgh Dictionary of Continental Philosophy by John Protevi (Ed.). Reference Reviews, 20(4), 13–14. https://doi.org/10.1108/09504120610664097

وسوم:

اترك رد

جديدنا