أدبالتنويري

نظرات خاصَّة في رواية (1984)

نظرات خاصة في رواية (1984)[1]

يصنف بعض الباحثين رواية (1984) لجورج أورويل (George Orwell) من الروايات السياسية، ويعدها آخرون من أدب المدينة الفاسدة (Dystopia) أو الأدب المرعب والعميق، وتصفها ثلة بالتشاؤمية، وثلة أخرى بالهزلية التهكمية، ويرى فريق أخير أنها من الأدب الواضح والفاضح.

والذي يستشف من هذا التنوع أن النقاد اختلفت رؤاهم وآراؤهم في تحديد رواية (1984)، هذه الرواية التي أتم جورج أورويل تأليفها سنة (1948)؛ ولعل هذا التاريخ كان محددا أساسيا في تسمية أورويل روايته بـ (1984)؛ أي بقلب موضع الرقميين الآخرين من سنة التأليف، وهذا ما يجعلني أتبنى التصنيف الذي يدرج رواية (1984) في صنف الروايات المستقبلية التنبؤية، حيث الفاصل بين تاريخ صدور الرواية الفعلي، والتاريخ الذي تدور فيه أحداث الرواية هو ستة وثلاثون سنة.

 وقد اخترتُ في هذه النظرات الاقتصار على قراءة سيميائية لصورة غلاف الرواية، أقاسمكم من خلالها الحيرة التي انتابتني أول ما رأيت غلاف رواية، حيث شدَّ انتباهي صورة شخص يتصف بالآتي: (رجل في الأربعينيات، وجهه ضخم، أسود الشعر، كث الشارب، يرتدي زيّا عسكريا).

فسألت نفسي سؤالين:

  • لماذا ينتابني شعور بأني أعرف صورة هذا الشخص؟
  • وما علاقة عنوان الرواية بالصورة؟

رغم هذا القلق الذي ساورني لم أكلف نفسـي عناء البحث عن جواب السؤالين، فبدأتُ مباشرة بتصفح الرواية وقراءتها، لكن طوال مدة القراءة (المتقطعة بطبيعة الحال) ظلت الصورة تؤرقني وتتبادر إلى ذهني، وما زاد من معاناتي وحيرتي المعرفيتين أن الصورة (اللغوية) لذلك الشخص وصفاته تتكرران في مجمل صفحات الرواية، لكن مرة ثانية رغم كل هذا الأرق الذي سببته الصورة إلا أنني لم أتجشم أي عناء لإشباع فضولي المعرفي والبحث عما يقلق تفكيري.

لكن بعد أن انتهيتُ من أجزاء الرواية وفصولها كاملة، وقرأت بعد ذلك بعض الكتابات النقدية التي تتحدث عن الرواية، بدأ سر الصورة (شعوري نحوها) ينكشف شيئا فشيئا، وبدأت ذاكرتي تنتعش ويتحول لاوعي إلى وعي يطابق بين صورة الغلاف والصورة المبطنة في ذهني عن صورة الغلاف[2].

فتأكد لي أول الأمر أن إحساسي الأول كان صحيحا (وغالبا ما تكون الأفكار الأولى صائبة)، وأن عينيَّ سبق لهما أن شاهدا تلك الصورة، عندئذ أطلقت لنفسـي عنان البحث، ورقنت مباشرة على حاسوبي اسم الشخص الذي ظننت في أول وهلة أن صورة الغلاف صورته، بعد أن ظهرت نتائج البحث تيقنت بأن صورة الغلاف هي صورة جوزيف ستالين  (Joseph Staline)، وبعد ذلك انجلى استغرابي بخصوص علاقة العنوان بصورة (ستالين)؛ لأنني كنت قد فهمت أحداث الرواية وتبينت مغزاها، خاصة بعد قراءاتي لكتب نقدية تحدثت عن الرواية وربطت العلاقة بين جورج أورويل وجوزيف ستالين، وخَلُصَتْ إلى أن الرواية ليست إلا (تجسيدا) لما فعله ستالين طوال مدة حكمه من اغتيالات للمعارضين وتهجير للسكان بهدف تغيير التركيبة الإثنية لتلك المناطق.

وبعد أن وصلتُ لهذا الجواب صفا ذهني وارتاح بالي، لكن هذه الراحة لم تدم كثيرا فسـرعان ما تبددت حينما تذكرتُ شيئا أساسيا في غلاف الرواية وهي عبارة: (ترجمة: أنوار الشامي)، فلا يخفى على المهتمين بالترجمة قولة جواشان دي بيليه (Joachim Du Bellay): إن الترجمة خيانة؛ ومن مؤدى هذا القول عدم خلو أي ترجمة من الترجمات من تحيزات المترجم وثقافته[3].

فَبَدَأَتْ تتشكل حيرة جديدة على أنقاض الحيرة الأولى، فباغتُ نفسـي سائلا: هل الصورة من وضع المؤلف (جورج أورويل)؟ أو من وضع المترجم (أنوار الشامي)؟ أو من وضع مشارك آخر في إخراج الرواية أو ترجمتها (الناشر مثلا)؟

ولا يعزب عن المتتبع الفطن أن البنية العميقة لهذه الأسئلة خطيرة جدا؛ لأن مضمون الرواية وفكرتها الأسّ والأساس يمكن أن (تتجسد) من خلال صورة الغلاف، فتغيير الصورة يترتب عليه تغيير الفكرة، لأن الصورة نص بصـري يختزل الرواية في دلالات مكثفة، وينتج عن الصورة فعلا توجهيا للقارئ؛ بمعنى أنها تمارس الوصاية عليه وتحدد أفقه، وتوجّه فعل القراءة وما يستتبعها من فهوم وتأويلات وإعادة بناء ما يُقرأ، لهذا بحثت عن أغلفة الرواية في بعض النسخ الفرنسية والإنجليزية وخلصتُ إلى ما تلاحظون:

أن أغلب الطبعات الإنجليزية والفرنسية تتوسط صورة غلافها عينا للدلالة على المراقبة المفروضة على الشعوب من الأنظمة الشمولية، وزاد تأكدي من هذا الأمر ما قاله الكاتب نفسه (جورج أورويل) متحدثا عن الرواية بأنها تنتقد كل الأنظمة الشمولية الحالية والمستقبلية باختلاف أيديولوجياتها (النازية، والرأسمالية، والاشتراكية…).

ومن ثمة فرواية (1984) هي رواية نقدية للأنظمة السياسية، اقتصـرتْ في أحداثها وشخوصها وزمكانها على نماذج للتمثيل وليس أفقا للتفكير. لهذا فالأصل ألا توضع صورة “جوزيف ستالين” في الترجمة العربية[4] لكيلا تسقط الترجمة فيما تنتقده الرواية، وتتناقض مع مضمونها ومسعاها، إضافة إلى ضرورة احترام قدرات القارئ، وتركه يتعامل مع الرواية ويتصل بأفكارها مباشرة من غير تدخل المترجم أو الناشر في تحديد أفق التفكير والنقد والتأويل، أو صبغ الرواية بفهوم خاصة لا تمت للرواية بصلة. ولكن هذا هو واقع الفعل الترجمي، فالبون بين أصل الفعل الترجمي وواقعه واسع جدا، تتداخل فيه أبعاد عقدية ومعرفية ولغوية.


[1] أصل هذه النظرات، تقديم قراءة الأستاذ والباحث المغربي عبد العالي حجاجي لرواية (1984)، ضمن الأنشطة العملية والتربوية التي كان يؤطرها النادي الثقافي بمؤسسة مقدم بوزيان، الناظور-المغرب، فبراير 2019.

[2]  انظر، 1984، جورج أورويل، ترجمة: أنور الشامي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2006.

[3] تناولتُ علاقة التحيز بالترجمة في مداخلة علمية بعنوان: “نظرات في مفهوم التحيز وغايات الترجمة”، ضمن أعمال الندوة الدولية: “الترجمة والإيديولوجيا”، مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، وجدة المغرب، شتنبر 2024.

[4] من آخر المداخلات التي قاربت ترجمة أنور الشامي، مداخلة الأستاذ المغربي يوسف القايدي في الندوة الدولية “الترجمة والإيديولوجيا”، التي اختار لها العنوان الآتي:

Translating Dystopian Narratives : Examining Ideology in Anouar Chami’s Arabic Translation of George Orwell’s 1984.
__________
*د. رشيد الاركو/باحث مغربي.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة