كيف ينبغي النظر إلى الأخلاق؟ أو ما المعيار الذي بموجبه نصنف الأخلاقي وما عداه؟ وهل هذا المعيار يوجد خارج الذات أم متصل بجوانيتها؟ ما معنى ان يكون هذا المعيار ذاتيًّا؟ وما معنى أن يكون برانيًّا؟
لم تكن فلسفة الأخلاق منفصلة عن نظرة الإنسان للكسموس، التصورات العلمية التي بموجبها ننظر إلى العالم، هي نفسها تحدِّد علاقتنا مع الآخر، فإذا كانت الفيزياء تدرس التفاعلات بين مكونات المادة، فإنَّ الأخلاق والسياسة كمجال خصب لتطبيق التنظير الفلسفي تهتمّ بالتفاعلات بين الأفراد، ورسم مسارات معيَّنة يكون بموجبها السلوك البشري محمَّلا بعقلانيَّة ومعقوليَّة.
تحسُّبًا لارتباط الأخلاق بتصورنا للعالم والطبيعة، وتحسُّبًا لاختلاف هذا التصوّر بين العهد القديم والعهد الحديث، يصبح الاستفهام مشروعا حول فعل الأخلاق من حيث ماهيته بين العصرين، فما الذي يحدد الأخلاقي في التصورات القديمة؟ وما الذي يحدده وفقا للتصورات الحديث؟ وهل تخلصت الحقبة الحديثة من تبعيات العهد القديم في مجال الأخلاق؟ أم أن تاريخ الفلسفة في التنظير للأخلاق العملية لا يمكن أن يدير الظهر لما خلفه من إرث؟
تنخرط الرواقية، كإحدى أهم المدارس اليونانية القديمة، في التفاعل مع سؤال الأخلاق، بل أكثر من ذلك من خلال المختصر لابكتيتوس يظهر أن الموضوع الأهم في الفلسفة هو التطبيق العملي للنظريات، أي الأخلاق، هكذا يتضح أن مجال اشتغال الفلسفة وفقا لابكتيتوس هو رسم الحدود للسلوك الإنساني، من خلال تحديد ما يستلزم فعله، وما لا ينبغي فعله، فالضوابط الأخلاقية من هذا المنطلق تتحدد بخلفية فلسفية أساسها “القناعة” وفقا للمبدإ الرواقي، فالحكيم لا رجاء له، لا خوف له من المستقبل، إنها أخلاق موجهة في الدرجة الأولى نحو ضمان سعادة الكائن، وهي سعادة مقرونة بالرضاء بما أملك دون النظر لما في حوزة الغير. إن الحكيم يشارك زيوس في سعادته بكسرة خبز وجرعة ماء.
تطبيقيا وعمليا تؤسس الرواقية لأخلاق ضد التعصب، فوطن الحكيم هو العالم بأسره، لكي تتجاوز بذلك ثنائية المواطن الأصلي والبربري، كما كان معمولا به في اليونان القديمة، البربري لا يحق له المشاركة في تدبير شؤون الدولة وقضاياها، إنه غريب عنها، وعليه أن يبقى غريبا، في حين المواطن الحر وحده يمكن أن يفجر أحباله الصوتية في الأغورا، مما يعني ضمنيا فلسفة أخلاقية مغلقة محدودة بالمكان والعرق والنسب، على خلاف الرواقية التي جاءت بأخلاق منفتحة تجعل من الانتماء مجرد طريق ملكي نحو التعصب، والولاء الأعمى من مقتضيات الجهل، إن الحكيم أينما حل ذلك وطنه.
بناء على ما سبق، يتضح أن من المهام التي سهرت عليها الرواقية هي تحديد المبادئ العملية للأخلاق، لكن هل تكتفي الفلسفة فقط بتحديد هذه المبادئ؟
يجيب ابكتيتوس من خلال المختصر بوضع مهمة ثانية للفلسفة هي وضع برهان لهذه المبادئ الأخلاقية المحددة، إذا السؤال لم يعد محصورا فقط في: ماذا ينبغي أن أفعل؟ بل لماذا ينبغي أن أفعل كذلك وليس غيره؟ نموذج ذلك على سبيل المثال لا الحصر، لم ينبغي أن أتحلى بالقناعة؟ البرهان الرواقي على ذلك هو أن القناعة تجنبنا الصدمات في المستقبل، الأمر أشبه أن تقودك رغبة جامحة، وتتخيل أن أيام سفرك سوف تقضيها في فندق فخم، تحيط به طبيعة خلابة من كل الجوانب، لكن تتفاجأ في نهاية المطاف بغرفة معتمة، إذا المفتاح المعادي للخيبة هنا هو القناعة.
إن المهمة الثالثة التي يضعها ابكتيتوس للفلسفة هي محاولة خلق تماسك وانسجام منطقي بين السلوك والبرهان حوله، بالفلسفة تتحدد هذه الثنائيات صدق، كذب، خير، شر…
عزى ابكتيتوس تمردنا على الأخلاق لأننا لا نعير اهتماما للموضوع الأول(المبادئ العملية)، بقدر ما تهتم بصياغة منطقية ونظرية للأخلاق، لذلك نقع دائما خارج دائرة ما يمكن أن يكون أخلاقيا( نموذج الحركة السفسطائية، ركزت على بلاغة حجاجية قائمة على تبرير السلوك الإنساني)
امتد تأثير الرواقية إلى الفلسفة الحديثة والمعاصرة، يضعها على سبيل المثال اندريه كونت سبونڤيل ضمن فلسفة الحياة والمعاش، ويعود لها اسبينوزا وينطلق منها، ويبدع عبرها فلسفة أخلاقية عملية قائمة على البدء من الذات، بموجب ذلك تتأسس الإثيقا كجواب على سؤال: ما الذي يناسبني فعله؟ بدل ما الذي ينبغي فعله؟ إن الطرح اسبينوزي يجعل بذلك سؤال الأخلاق يتموضع في دائرة الفرح والحزن، الأخلاقي هو الذي يضمن لي الفرح، غير الأخلاقي هو الذي يجعل الحياة لا تطاق مليئة بالأحزان. وهنا نسائل اسبينوزا ألا يمكن لفعل غير أخلاقي بدوره أن يؤدي إلى الفرح؟ وماذا إن كانت هذه السعادة على حساب الآخر؟
إن الأمر وفقا لاسبينوزا يدعو للفهم، فمثلا مراهق يبكي لأنه يريد أن يمضي الليلة مع أصدقائه، ونحن نتدخل ونمنعه، سبب غضب المراهق هو عدم قدرته على الفهم، فهم تبعيات الفعل وما يمكن أن ينجم عنه، إذا هي أولا سعادة مشروطة بضرورة الفهم، أما في الشق الثاني حسب اسبينوزا فالسعادة التي يتحدث عنها لا ينبغي أن تلحق الضرر بالآخر، وهو ما نجده كذلك في فلسفة نيتشه من خلال الفصل بين أخلاق العبد والسيد، فانتصار العبد يبدأ حينما يصبح قادرا على قتل الحياة لدى الآخر، إنه ينثر السموم وينشرها ضد الحياة، في حين السيد يجعل الحياة لا تقبل الحساب، ينبغي أن نحيا فيها كعناصر الطبيعة الأخرى، ها هي أمواج البحر تقفز على محيطها، ها هي مجاري الوديان تتجاوز كل الأحجار المتراصة أمامها، ها هو الشجر يرمي بجذوره في عمق الأرض…
وفقا لما سلف يتضح أن سؤال الأخلاق لم يكن على نمط واحد طيلة مسار فلسفة الأخلاق، بل أقام عليه اسبينوزا ثورة خاصة، تعادل ثورة كوبرنيك في مجال الفلك، إنها ثورة ضد الإلزام والتبعية، ثورة العودة إلى مكنون الذات والانطلاق منها، إنها إثيقا مبنية على مفاهيم القدرة، السعادة، والمناسب.
_______
*كمال أحميش: أستاذ مادة الفلسفة من المغرب، حاصل على الإجازة في الفلسفة من المدرسة العليا للأساتذة في الرباط.