صورة الفلسفة في فكر “عبد السَّلام بنعبد العالي”

image_pdf

تمهيد:     

«[..] ذلك أنَّ الخطاب الفلسفي كان واعيًا بأسلوب عيش، ودعمًا للسلوك، وتأسيسًا لنمط حياة .. الفلسفة هي ـ قبل كل شيء ـ تفكير حر، ومقاومة للبلاهة، وابتعاد عن اجترار المكرور، لكنها كذلك: قرابة، ومحبة، وصداقة.»/عبد السَّلام بنعبد العالي.

« لم تكن الفلسفة عند القدامى في بدايتها “خطابا”، بل كانت نمط عيش، ولم تكن نسقًا للتفكير أو “نظرية “، بل حكمة عملية، وجدت مثالها في سقراط، ذلك الفيلسوف الذي لم يكتب شيئًا مثله مثل بوذا والمسيح.»/ لوك فيري Luc Ferry (1951)

أضحت الفلسفة في الأوساط الاجتماعية للوطن العربي تلك الكلمة المُشوَّهة، تلك اللفظة المشينة التي يتنابذ بها عامة النّاس فيما بينهم، كيف لا وهي التي تُنعت دائمًا بـ: الغموض، والاشتباه، والإلحاد؟ كيف لا والعامة تستعملها كلفظ يدل على لغوي الحديث والثرثرة اللا جدوى، أو تعقيدًا لما هو واضح؟ كيف لا وهي التي يتم قرنها بالحمق و( الجنون ) والأسئلة الاعتيادية الساذجة؟ أما في أماكن تدريسها، فعادةً ما تُختزل تارة في تاريخ الأفكار وجملة من المواقف الجاهزة وتارة أخرى في التمرين عن نمط تفكير محدد.

في هذا المقال سأحاول أن أعرض نموذج مغربي حاول تقديم إجابات لسؤالنا: ما الفلسفة وفيما تكمن وظيفتها؟ وهو : المفكر والترحمان “عبد السَّلام بنعبد العالي“؛ فهو يعبر على تصور معين للفلسفة ومهامها. بحيث ينظر إلى الفلسفة، نظرة مزدوجة مختلفة باختلاف تعريفها ومعناها: الفلسفة بما هي اختيار لنمط عيش وأداة للحوار، القائم على مبدأ تكريس الانفصال والمشاغبة الفكرية.

نبذة عن عبد السَّلام بنعبد العالي (1945): نظرة رواقية.

يعد المفكر والترجمان ” عبد السَّلام بنعبد العالي ” رافد من روافد الفكر المغربي المعاصر الذي تحمَّل عناء بث الروح الفلسفية في المناخ الفكري المغربي- العربي، ومن بين الذين أسهموا ولا زلوا يُسهمون في الحركة الفكرية لبلورة فكر عربي ذي حمولة كونية عالمية، تؤمن بالانخراط العربي في الفكر الكوني وبالانفتاح وعدم الانغلاق على المستقبل وعلى الآخر، وبالتحرر من خطية الكتابة الفلسفية باعتماد أسلوب الشذرية، أو ليس هو القائل:«سأحاول في هذه العجالة تبرير تلك الممارسة الوقحة بعض الشيء التي دأبت عليها منذ أكثر من عقدين، والتي تتمثل في نوع من الابتعاد عن الكتابة الفلسفية الرصينة، والميل إلى تجميع ومضات فكرية لا تخضع لقواعد لعبة التأليف المعهود، خصوصًا الفلسفي منه. بل إنها تتخذ وسائل نشر منابر ما كانت الفلسفة لترضى بها حتى وقت غير بعيد…»([1]) ليس هذا فقط، ففي خضم أفق تأسيس لفكر ناهض تنبهه إلى مسألتين بالغتي الأهمية كذلك، ألا وهما:

المسألة الأولى: عدم التوافر الكافي لأمّهات الكتب بلغة متيسرة، والنتيجة، الحيلولة دون ممارسة فلسفية: تفكيرًا وتدريسًا وتأليفًا.

المسألة الثانية: ضرورة إعادة النَّظر في جهازنا المفهومي بكامله، ورد الاعتبار إلى مفاهيم ظلت تصارع في الهامش، كمفهوم: الانفصال، والخطأ، والشر، والخيال… وما جاورهم من مفاهيم بقيت حبيسة اللا مفكر والمهمش.

مبرزًا ” بنعبد العالي” اعتناقه لهذا النوع من الكتابة الشذرية، كمحاولة منه تجاوز قواعد الكتابة والتأليف التقليديين اللذين يقدمان تاريخ الفلسفة كمعرفة جاهزة، ومادة دسمة في كتاباتهما دون التنقيب في الهامش. مع البحث أو إيجاد منفذ يفتح الأفق بدل الوقوف عند العوائق، إنها كتابة كما يصفها الفيلسوف والأديب الفرنسي ” موريس بلانشو Maurice Blanchot (1907-2003)”:” أن تجمع بين الكلام والصمت، بين الجدّ والهزل، بين الحاجة إلى التَّعبير وتردد فكر موزع لا يقر له قرار، بين رغبة الفكر في أن يعمل وفق منهج ونظام، وبين نفوره من المنظومة والنسق”، بل وهي ( الكتابة والفلسفة ) بلغة ” بنعبد العالي“: « ليست مجرد شكل، وإنما هي أيضًا محتوى ومضمون فلسفي ومنهج في التفكير فضلًا عن كونها أسلوبًا في الكتابة. إنها منهج يقوم أساسًا على المفارقة، ويجمع في الآن نفسه بين الإثبات والتردد، بين اليقين والارتياب، بين التنوع والوحدة، بين الإفصاح والإضمار، بين الانفتاح والانغلاق، إنها تسعى إلى أن تترك مجالًا للا تحديد في فضاء محدود.»([2])

ومن جهة أخرى، فإنها ليست بكتابة تحليلية أو تراكمية، بل كتابة تجاري الفكر في نبضاته الأولى وهو يعمل وترسم له الطرق وهو يتشكل، كما تحاول إزعاجه واستفزازه، بغرض الدعوة إليه وإلى إعادة النَّظر في مُسلّماته. بالتالي، فإنها كتابة يحكمها منطق المفارقات؛ إذ تُنشِئ نصًّا شذريًّا منفتحًا غير منغلق، وغير متناهٍ، ومحدودًا من خلال تعدد كل وحدة من وحداته.

هكذا إذًا، فنحن أمام صعوبة وعَقَبَة، وأمام نصوص شذرية متشظية، لا تعدنا ولا تدعي تأسيس مشروع فكريًّا على نمط الكتابة التقليدية، وإنما تُعبد أفقًا، مطافًا، سيرًا، رحلة، بحيث تحدث ما يحدثه الفارغ لأي كتابة مغايرة، وتجميع الفارغ يبدو مستحيلًا، إذ يصعب معها تقديم خلاصات نهائية من شأنها. إنها تحصُر، بل ما تنفك لا تحصر نطاق تحركها ومسعاها اللا نهائي، فما الحل إذًا؟ الحل في ما قد يبدو غير انزياحي نحوها، إنه سؤال عما قد يبدو مفتوحًا غير مستغلق، إنها تخرج نحو- مستقبل إذ تفتح الأفق نحوه، بطريقةٍ ما.

فما تجدر الإشارة إليه في البدء، هو أن الرجل كتب العديد من الكتابات الجريئة والمقالات المتنوعة، نأتي على الذكر منها: ” أسس الفكر الفلسفي المعاصر: مجاوزة الميتافيزيقا (1991) “، ” بين الاتصال والانفصال “، ” دراسات في الفكر الفلسفي بالمغربي (2002)”، امتداح اللا فلسفة (2010)، ” الفلسفة أداة للحوار (2011)”، ” حركة الكتابة (2012) “، ” الفلسفة فنًّا للعيش (2012)”، الكتابة بالقفز والوثب (2020)،” الفكر الفلسفي في المغرب (مجلة أقلام: 1982) “، ” ديكارت والفكر المعاصر (مجلة علامات في النَّقد: 1996) “، ” قضايا الفكر العربي في نهاية القرن – الفكر المغربي والتحديث (مجلة آفاق: 2000) “، ” مهمة الترجمة، مهمة التفكير (مجلة علامات في النَّقد: 2004) “، ” الفلسفة أداة للحوار (مجلة نزوى: 2006) “، ” في الحاجة إلى الفيلسوف محمد عزيز الحبابي (مجلة نزوى: 2013)”، ” راهنية التفكير الفلسفي (مجلة الفيصل: 2019) “، ” هل الفلسفة مجرد مشاغبة فكرية من المشاغبة إلى التخطي؟ (منصة معنى الثقافية: 2021)، ” فكر الاختلاف (منصة معنى الثقافية: 2022)”… .

لقد ظل وجود الحوار رفيقًا للفلسفة منذ بدايتها الأولى، واستمر في صحبتها إلى اليوم، فعادة ما نجد فيلسوفًا يحاوره سابقوه من الفلاسفة، إذ يشهد تاريخ الفلسفة عن أن الحوار كان ولا يزال مظهرًا من مظاهر نشأة الفلسفة، وهو شكل من أشكال التفكير الذي دأب الإنسان على ممارسته.

فكيف تكون الفلسفة أداةً للحوار وفنًّا للعيش؟ هذا السُّؤال الذي قد يبدو مثيرًا اليوم- خاصة في شقه الأول-، سيما أننا تعودنا كون الفلسفة المعاصرة نقدًا وتقويضًا وخلخلة، فاستنادًا إلى نصوص ” بنعبد العالي” تكون الإجابة عن الشق الأول من السُّؤال على الشكل الآتي:« لسنا في حاجةٍ إلى كبير عناء وطول تحليل كي نبين كيف تكون الفلسفة أداةً للحوار، فلو أننا نحن سلمنا بأن الفلسفة تحتكم إلى العقل السليم الذي هو «أعدل الأشياء قسمة بين النّاس» بحسب ” ديكارت “، لخلصنا إلى القول مباشرة وبلا تردد إنها أنجع الأدوات لـ: خلق الحوار، ورفع سوء التفاهم، وتوحيد الأفكار، ولم الشتات، وتكريس الائتلاف،»([3]) وإننا أحوج ما نكون اليوم إلى مساءلة عما إذا كنا جديرين بأن نقول: إن أي مفكر عربي اليوم يستطيع أن يطرح على نفسه السُّؤال: كيف أجعل من فلسفتي أو فكري أداةً للحوار وفنًا للعيش؟

إن ” بنعبد العالي” بفكره المخالف والمختلف تفطن إلى مسألة مهمة في الفكر العربي المعاصر، ألا وهي الحاجة إلى الحوار الدائم مع الآخرين وإلى نمط عيش يرفع سوء التفاهم، هذا ما جعله يتساءل عن وظيفة الفلسفة، في أن تكون لم الشتات وتحقيق الوئام، وعن مرمى الحوار الفلسفي([4])، في أن يكون البحث عن نقاط الالتقاء والائتلاف؛ ولأن المسألة في نظره بسيطة؛ لأنها مسألة لا تتعلق بشعب عن شعبٍ آخر؛ لكونها معطى كونيًّا خاضعًا للمقولة الديكارتية « العقل أعدل قسمة بين النّاس».

فعلى مر تاريخ الفلسفة كانت المسألة في غاية التعقيد وإلى اليوم لا زال النقاش المتضارب والجدال اللامتناهي جاريًا على النصوص الفلسفية القديمة، وهذا إن دل، فإنما يجرنا إلى مسألة فلسفية صرفة ألا وهي كون الفلاسفة لم يكونوا يومًا منبت وئام ولا منبع تصالح، بل كانوا على دوام منبع اختلاف الذي يضمر الائتلاف. من هذا المنطلق، ما الفلسفة إذًا؟

يجيبنا ” بنعبد العالي“، « الفلسفة كما نعلم، استراتيجية تسعى إلى الكشف عن الائتلاف فيما وراء الاختلاف، وعن الواحدة فيما وراء التعدد (..) تشتت وتفرق. إنها استراتيجية لتكريس الانفصال، وسعي وراء إحداث الفجوات في ما يبدو متصلًا، وخلق الفراغ في ما يبدو ممتلئًا، وزرع الشك في ما يبدو بديهيًّا، وتوليد البارادوكس في ما يعمل دوكسا (..) إنها مقاومة تعمل ضد كل ما من شأنه أن يكرس التطابق والوفاق والائتلاف والتقليد، تأكيد بأن كل تفاهم مفترض يخفي وراءه سوء تفاهم أصلي.»([5])

فالفلسفة مع ” بنعبد العالي” لم تعد خلخلة ونقدًا أو مساءلة وإبداعًا للمفاهيم، بل غدت استراتيجية تُظهر التعدد لتكشف الوحدة، تقتفي آثار الاختلاف لتكشف السر وراء الائتلاف، تقاوم من أجل اللا تقليد وضد أي تطابق، كما تحيا حياة تكريس أسلوب الانفصال، مع إبراز وإحداث فجوات، بل فراغات وثغرات أحيانًا في النص الفلسفي، وما تعذر بلوغه وكشفه وما يبدو متصلًا اتصالًا إيديولوجيًّا، فمثلًا مع ” ديكارت ” نعرف السر وراء الشك، مع ” هيغل ” نكتشف السر وراء مكر التَّاريخ، ومع ” فوكو” نكتشف ما يختبئ وراء العلامات، ومع ” العروي” نكتشف ما وراء التَّاريخانية، ومع ” الجابري ” نكتشف السر وراء القطيعة، مع “عزيز الحبابي” نكشف لما الشَّخصانية، ومع غيرهم نعلم طوية المفارقة، للفصل والتميز بين المعرفة المحتملة والظاهري، بالتالي، فإن السُّؤالين الذين يطرحان نفسهما: كيف لهذه الفلسفة التي تدعي الخلخلة، والنَّقد، والانفصال أن تكون مصدرًا وأداةً للحوار؟ كيف لفيلسوف يزكي روح النَّقد والخلخلة، ويخلق سوء التفاهم أن تكون فلسفته أداةً للحوار؟ لكن قبل هذا نتساءل: ما الحوار؟

إنما يميز هذا الحوار في نظر ” بنعبد العالي” كونه حوارًا فلسفيًا، ليس هذا فقط، بل إن ما يطبع هذا الحوار وما يطبع مناخه هو التعثر والعجز كذلك، بحيث تصل الأطراف المتحاورة إلى نقطة تأزم، إذ يصبح فيها الحوار عاجزًا عن التقدم أو العودة/ التراجع إلى الخلف أو المضي قُدُمًا، ويصبح كل طرف بعيدًا عن ذاته قريبًا من محاوريه (الطرف الآخر)، إذ يروم في حقيقته إلى أنه ما يمكن أن يكون محط اتفاق والتقاء قد يكون محط انفصال، كما أنه ما يمكن أن يُعد نقطة تفاهم قد يختبئ وراءه سوء تفاهم.

سوء التفاهم هذا قد لا يكون بين الأطراف المتحاورة، بل بين الفكر ونفسه، أي: سوء تفاهم ذاتي يخلقه الفكر بينه وبين نفسه؛ لأنَّ الحوار الفلسفي في حقيقته هو تلك المساهمة التي يضيفها المحاور في شقٍّ ما من دروب الفكر – وهنا أتذكر جيدًا مقولة للكاتب المكسيكي ” كارلوس فوينتسCarlos Fuentes Macias (1928-2012)” التي تقول: إنَّ هدف الكاتب هو تلك الأمتار اليسيرة من الأرض التي يسرقها الهولنديون بكلِّ صبرٍ من البحر، أي: إضافة شيء جديد لشجرة الأدب -، من إبداع أسئلة وتوليد مفارقات دون اتّباع أي تقليد وخطط دون اتفاق مسبق، إذ يروم إلى خلق التراضي حول الأسئلة وشق السبيل من جديد للآفاق، أي « التراضي لا حول ما يطمئن ويرضي، بل التراضي حول ما لا يطمئن وما لا يرضى.»([6])

في هذه النقاط التي من شأنها أن تُقَوَّمَ، فتعثر الحوار، وأصبح الفكر عاجزًا تمامًا عن أي تقدم، هي بالأساس النقاط التي يتم فيها الالتقاء، وبها تصبح المسافة بين الأطراف أكثر قُربًا في ما بينهما، وأكثر بُعدًا عن نفسيهما، أو بتعبيرٍ آخر،« ذلك أنَّ النقاط التي يتبلور عندها التعثر و« يتوقف » الحوار، أو على الأقل يتأزّم لا تفرق بين المحاورين، وإنما بين الفكر وبداهاته، بين الفكر ومسبقاته، أو لنقل: بين الفكر وبين نفسه، وهو يسعى إلى الانفصال عنها.»([7])

باختصار « نلتقي حيث نفترق، ونفترق حيث نلتقي »، نفترق بالنسبة إلى ماذا؟ ونلتقي بالنسبة إلى ماذا؟ نفترق مع أنفسنا/ ذواتنا بالقدر الذي يجمعنا بالآخر المختلف، المختلف على أسس نتأزم فيها معًا، يصبح هذا اللقاء لقاءً انفصاليًّا. وهذا الالتقاء لا يتمُّ إلا عند هذه النقاط كملتقى ومفترق، أي: الالتقاء، أو الاتصال المبني عن نقاط الانفصال، نقاط التأزم والتأزيم، وفيها يغدو الفكر متحررًا من يقينياته، إذ يصبح كل طرف متساويًا مع الطرف الآخر في الهم الفكري الذي هو وليد لحظة: تأزم، وتعثر، وعجز.

خير تطبيق لهذا الحوار الفلسفي ما يُعرف الآن بفلسفات الوجس- الفلسفات السيئة الظن التي تسعى إلى خلق تقارب وتفارق بين المتحاورين مع أن تجعل المسافة بينهما أقرب، بحيث يصبح كل واحد منهما بعيدًا عن نفسه، وتجعل كل واحد منهما في وحدة الانعزال.

هكذا إذًا يمكن القول مع ” بنعبد العالي” إنه طوال تاريخ الفلسفة – المعاصرة والحديثة- كانت مهمتها ولو بشكلٍ خاص أن تنتقل بالإنسان من حالته الانعزالية نحو التوحد، ومن الاتصال نحو اتصال وتواصل واقعيين. من ضجيج المدن نحو الأمكنة ذات المنظر الطبيعي التي بها: التواصل الحق، والعيش الأصيل، والحوار الواسع مع الأشياء كلها. أي الفلسفة التي تكون في مواجهة التقنية والحوار الزائف والانسجام القطعي بالدرجة التي يصبح فيها الإنسان عُرضة للعزلة الحقيقية.

فقد كانت الفلسفة ولا زالت حوارًا بين النصوص وبين اللغات، «فالفلسفة ترتبط في أذهاننا، ولعلها ارتبطت أساسًا بالحوار، وحتى عندما دُوّنت لأول مرة، فقد دُوّنت كأشعار وحوارات…،»([8]) وهي بهذا المعنى تسمح لنا بالتفكير مع: الفلاسفة، وضدهم، ورفقتهم، بحيث نعمد إلى الاشتغال على نصوصهم وتوظيفها؛ لأن الفلاسفة – ربما – وحدهم من يفتحون لنا أبواب المعرفة الفلسفية، فنشاركهم دهشتهم، ونحس بالأرق الذي أحسوا به وهم يتناولون قضايا مُتشعبة وشائكة، إذ نسألهم ويسألوننا، ونستفسرهم عما ظل في خانة الغموض غير المفهوم، فنقاسمهم هاجس توليد الأسئلة، وخلق المسافات، وإحداث شروخ، إذ نقتحم معهم حلبات الصراع ومناطق القلق والتوتر، من غير نية إشباع فضولنا المعرفي بسُنة القيل والقال، ومن غير استنساخ وتعظيم، بل نحاول أن نجعل الأفق ممتدًا. كما لا يمكن أن نختتم هذا العنوان من غير أن نشير إلى كتاب يُعد تجسيدًا وامتدادًا لهذا التصور، وهو كتاب عُنون بـ: حوار مع الفكر الفرنسي.([9])

لعل خير ما نبدأ به هذا العنوان جملة أسئلة: لماذا نعيش؟ وكيف نعيش؟ وما القيمة الجوهرية لتجربة عيشينا، مع العلم أن تجربة عيشينا مشروطة بالعيش- مع، وبالتناهي والفناء؟ هل نحن حقًّا نحن؟ وكيف كوننا عُرضة لتناهٍ أمام تجربتنا كبشر؟ وما الممكن داخل هذا العيش وما غير الممكن؟ هل نحن راضيين بما نعيشه، وبما نريده، بما نفعله في عالمنا كل الرضا؟ هذه الأسئلة كلها تبعث آفقًا جديدة، نحو التساؤل عن إمكانية عد الفلسفة فنًّا للعيش. في ما تكون الإجابة عن الشق الثاني من السُّؤال: كيف تكون الفلسفة أداة للحوار وفنًّا للعيش؟ على الشكل الآتي:

إن الفلسفة([10]) فن للعيش قبل أن تكون علمًا، أو تاريخًا، أو سياسة، قبل أن تكون جملة مذاهب وتيارات وفرق وبراديمغات. لكنه، ماذا يعني هذا؟ هل هو دعوة للعودة أو لرجوع إلى النزعات الوجودية وإلى فلسفات شرقية/ يونانية، أبقورية مشائية قديمة أم حنين إلى الفلسفة في شكلها لحِكمي ( محبة الحكمة ) كأسلوب حياة ونمط عيش؟ لا هذا ولا ذاك في نظر ” بنعبد العالي“؛ لأن الرجوع أو العودة ليس بالأمر المتيسر؛ ولأن الماضي مُتلبس بظروفه، مُرتبط بحيثياته، خاضع لمجموعة شعائر بالانطلاق من مبادئ خاصة لا تمتُّ إلى الحياة المعاصرة بشيءٍ، كما كانت له قيم تُسلح الفرد بمقومات خاصة ضد أي: هول، أو خوف، أو ألم. فإذا كانت الفلسفة كانت بحثًا عن السكينة والطمأنينة، سعيًا وراء التخلص من الشقاء الإنساني، بضبط الشهوات والأهواء وتطبيقًا لمبدأ القناعة، وهذا الأمر لا يتم إلا: داخل دير، أو أكاديمية، أو عن طريق الاقتداء بحكيم راشد. لذلك كانت « الفلسفة في الوقت ذاته اختيارًا لنَمط عيش، وممارسة علاجية تجد أسسها في خطاب مُدعّم على نحو يتم به الأمر اليوم عند أصحاب التَّحليل النفسي. لم تكن قيمة القول الفلسفي في كونه تبريرًا مجردًا لنظرية، وإنما في ما يتولد عنه من مفعول، فلم تكن وظيفته لتكمن في أن يَطَّلع على معلومةInformer ، وإنما في أن تكوّن المتلقي ويمرّنه Former» ،([11]) ولعل خير ما تجسدت فيه هذه الحكمة، واختار هذه الممارسة العلاجية كنمط عيش وأسلوب حياة قديمًا: ” سقراط، فيثاغورس ، وأبيقور، وديوجين، بيرون ، سنيكيا، ماركوس… . “

أما اليوم، فقد أصبح فن العيش فنًّا للعيش- معًا، وصار الأمر في غاية التعقيد لا سيما أن مهمة ترويض الذات وتدبير المجتمع من مهام العلوم الاجتماعية، بمعنى أن أمر الترويض والتدبير ليس موكولًا اليوم إلى الفلسفة كما السابق على النحو الذي أشار إليه ” بنعبد العالي“، إنما أصبحت المهمة اليوم في يد علم النفس بمختلف اتجاهاته، لذلك فإن علم النفس اليوم غدا ينزعها عن دورها العلاجي، الأمر الذي يدفعنا هنا إلى طرح سؤال: أيمكن أن تُقام مثل هذا الفلسفة (= الحكمة) في ظل عالم أقل ما يمكن أن يُقال عنه: “عالم تقني بامتياز”؟ بأن تأخذ الفلسفة على عاتقها مسؤولية بث روح الحياة في الإنسان من جديد.

من الصعب أن يتم الحديث اليوم عن فلسفة من هذا القبيل، ليس فقط لما عرفته الفلسفة من تقسيم وتبويب، أو لما أصبحته من: نظريات، ومذاهب، ومعارف متخصصة تجد ظلتها في لغة التكنولوجيا، لغة التقنية، لغة الآلة. وإنما لأن فلسفة/ حكمة من هذا القبيل، لمن الصعب أن تجد مكانًا مناسبًا لها داخل الحياة المعاصرة التي تعجُّ بمفاهيم لا تسمح بقيام مفهوم للفلسفة/ للحكمة كهاته.

وإنه من غير السهل أيضًا توظيف مفهوم الفلسفة توظيفًا عمليًّا فعليًّا، في مجالٍ أو مجتمع مبرمج على سلب الإنسان وإخضاعه لحياةٍ تقيده من كل المناحي: جسديًّا، وجماليًّا…، « إنها حياة (..) لا تدع لك المجال لكي توليها ظهرك وتنسحب في ‹ زاويتك › وتعطل مداركك، وتغلق نوافذك، وهي ربما تتنافى مع قيم: العفة، والطمأنينة، والسكينة، واللامبالاة، تتنافى مع: الأوتارسيا،والأتاركسيا،([12]) والأباتيا([13])(..) إنها ‹ تعتني› بك، و‹ تصنعك› وتدبّر: جسدك، وأهواءك، وقناعاتك، وهي تسهر، من خلال إعلاناتها، على: ذوقك، ووقتك، وراحتك؟»([14])

لذا فإنه أمام هذا الزحف التقني ما من فن عيش ممكن اليوم إلا فن للعيش-معًا، منظورا إليه كتحدي ومواجهة.خاصة وأن الإنسان أصبح اليوم يعيش عصرًا يطبعه اختلاف الوسائط والدعوات الإيديولوجية والتقنيات التواصلية، عصرًا يعيش فيه الإنسان معظم وقته داخل الفضاء الرقمي الافتراضي، إذ يواكب تفاصيل منجزات التقنية وغزارتها الفلكية.

في خضم هذا، هل يمكن للعقل البشري أن يستوعب ما يحدث أمامه من تحولات وتطورات تكنولوجية؟ وهل بمقدر الفلسفة إيجاد تفسيرات لكل الظواهر والاكتشافات لما يرافقها من تطور في أدوات البحث والتصنيع؟

كل هذه الأسئلة من شأنها إثارة سؤال بارز، ألا وهو: هل يمكن توظيف مفهوم الفلسفة (= الحكمة) بالمعنى الذي ذُكر أعلاه، في سياق الحداثة الفلسفية؟ التي تكرس مبدأ التنكير للذات والسعي نحو التضاد بالميل إلى عدم الرضا، عدم الرضا عن الفرد الذي شكلته وتتشكل وفقها، عن المفاهيم التي أضفت عليها معاني حداثية دائمة التوتر مع الراهن، كـ: مفهوم الحرية، ومفهوم العقل، ومفهوم الديمقراطية، ومفهوم حقوق الإنسان…، فالحداثة بالنسبة لبنعبد العالي، هي« اختيار واعٍ، ونمط من التفكير والإحساس، وطريقة في التفكير والسلوك ينبغي الاطلاع عليها. إنها استراتيجية مناضلة تقوم أمام استراتيجية مضادة تبديها قوة التقليد، من حيث إن التقليد يبدي مقاومات مستمرة، وتكيّفًا ماكرًا يتلبس ألف قناع لامتصاص الحديث وإفراغه من محتواه.»([15]) وبالعودة إلى السُّؤال: هل يمكن توظيف مفهوم الفلسفة (= الحكمة) في سياق الحداثة الفلسفية؟

فلأن توظيف مفهوم الفلسفة – الحكمة في سياق الحداثة الفلسفية، لا يكفي أن نقتفي آثار امتداد هذا المفهوم عند أهل التَّحليل النفسي، أو نترصد حضوره حضورًا قويًّا عند بعض الفلاسفة المحدثين، وإنما الأجدر، على الأقل، استعادة ذلك النمط والأسلوب الذي به كان يُحيي الفلسفة كل من الحكيم الشرقي أو الحيكم اليوناني.

يُعد ” بنعبد العالي” الفلسفة إبداعًا للذات، ضمن هذا السياق، ذلك الإبداع الذي جسدته “جماليات الوجود عند فوكو”، بمعناها الحياتي الذي لا يرد إلى نزعة فردانية متجاوزة، أو إلى الهجر، أو إلى إنكار للبُعد السياسي في حياة الإنسان. وتلك الذات التي تتحرك ضمن إطار الخضوع والقهر لتُحقق ذاتها من خلال ممارسات تحررية. في ظل هذا «تصبح الفلسفة، مثلما كانت عند الإغريق نوعًا من العلاج لأمراض العصر، ومقاومة لأشكال الزيف التي تطبع الحياة المعاصرة.»([16])

فضلًا عن كون الحداثة نمطًا اختياريًّا واعيًّا من التفكير واستراتيجية مناضلة ومقاومة ضد أي تقليد، التقليد الذي يركن دائمًا إلى: السكون، والثبات، والبحث عن نقاط الاستقرار الزائف، من خلال مواصلة الأصول بالفروع والتنقيب عن كل التشابهات والتناغمات، حفاظًا عن التركيبة التي نسجها للهوية.

إنه –  أي التقليد- حسب ” بنعبد العالي” تكريس للفعالية التركيبية للذات، وتكريس للاسترسال التراثي والتَّاريخ الامتدادي وحفاظًا لذاكرة دون تحول أو تغير فيها، فمن عادة التقليد معاداة مثل هذه المفاهيم ( الانفصال…)، مع صون أخرى من مثال: مفهوم الاتصال، ومفهوم الدوام، ومفهوم الاسترخاء الفكري، ومفهوم التصالح… إلى غيرها من المفهومات التي تضمن وجوده وتبقيه تقليدًا وفقط. وهذا ما يتنافى مع الانفصال، وما لا تقبل به الحداثة، الحداثة التي سعت إلى رد الاعتبار لهذا لمفهوم، ليس فقط كمفهوم وكفى، أو كمجرد فكرة وانتهى الأمر،« وإنما كنمط من أنماط الوجود…»([17]) وبالتالي، فالانفصال يتم إلا مع كل تفكير تقليدي وماضٍ جاثم، مع سيكولوجيا الاجترار والتكرار، مع دُعاة: الوعي، والذاكرة، والهوية، والأنا كدوام ووحدة، مع الرتابة والراتبين، مع الإيديولوجيا والدوكسا([18]) وبادئ الرأي، مع أنطولوجيا التطابق والوحدة.

في هذا الحالة ألا يحق لنا أن نتساءل بعد أن بينا كيف تكون الفلسفة اختيارًا لنَمط عيش، وممارسة علاجية ومقاومة الزيف، عما إذا كانت الفلسفة تكريسًا للانفصال أو كممارسة له، هذا السُّؤال ينقلنا مباشرة إلى العنوان الفرعي الثاني الذي سيكون حديثنا فيه عن مفهوم « الانفصال » في علاقته بالفلسفة والقطيعة باعتماد وجهة نظر بنعبد العالي.

يكتسي مفهوم « الانفصال » أهمية كبرى لدى “عبد السَّلام بنعبد العالي “؛ نظرًا لارتباطه بضروب فكره المعاصر، فقد خصص له الكثير من السطور، بل فقرات وصفحات كثيرة هنا وهناك. فالانفصال كمفهوم تبلور بشكلٍ ما في ممارسات الحكماء الإغريقيين بانفصالهم عن الموقف الطبيعي مع الأسطورة ومع بادئ الرأي، بينما يتخذ هذا المفهوم في الحياة المعاصرة حيزًا لابأس به وصبغة جديدة، لا بوصفه صورة من صور اللامبالاة وانفعالات، بل بوصفه شكلًا من أشكال المقاومة شأنه شأن الحداثة؛ يقول ” بنعبد العالي“: « يتخذ الانفصال في الحياة المعاصرة، لا صورة ولا مبالاة وانفعال، وإنما شكل مقاومة لا تنفك تنتزع حريتها و‹ تفعل قوتها › Effectuer Sa Puissance، ذلك التفعيل الذي يرى فيه دولوز بعد سبينوزا ونيتشه، تفعيلًا للفرح، بِعَدِّ الحزن هو الحيلولة بين الإنسان وبين ما في مكنته من قوة وما في استطاعته من جهد.»([20]) لكنه قبل أن نشرع في تحليل ما نحن بصدده في هذا العنوان نتساءل: هل المناداة بتكريس الانفصال دعوة إلى إلغاء التَّاريخ، ومحو الذاكرة، وتفتيت الهوية، أم إخبار عن استحالة التماسك النهائي للوجود وللفكر ذاته؟ فحتى إلى عهد قريب أضحى مفهوم الانفصال من بين المفهومات غير المحظوظة والمثيرة للجدل، شأنه شأن: القطيعة، والنسيان، والخطأ، والرأي، والشر، والتناقض، والفراغ، والتحول… في خضم ما سبق وما سيأتي، يميز بذلك ” بنعبد العالي ” بين نوعين، أو بالأحرى بين مفهومين عن الانفصال: المفهوم الأول: مفهوم وضعي، فصله فصل نهائي بين مرحلة وأخرى وبين عامل وآخر.وأما المفهوم الثاني: مفهوم مضاد للقطيعة، بحيث يجعلها انفصالًا غير متناهٍ، وانطلاق من نفيه للحضور والحاضر، وعدم إيمانه بالتحقق النهائي. ووفق هذا يصبح الانفصال أو الفصل غير متناهٍ، وتصبح القطيعة لا محدودية، بل تصبح القطيعة انفصالًا غير متناهٍ، من حيث هي « خلخلة للحضور ذاته (..) إقحام اللامتناهي ” داخل” الكائن،»([21]) كما أن إقحامه، أي الانفصال، كمفهوم داخل النص الفلسفي لا يعني البتة تقسيمه أو تقطيعه إلى أجزاء وأطرف مُتباعدة في ما بينها، إنما هو إقحام للانهائية فيه لكشف سر بنائه الداخلي – الذاتي وتشكله.

إذ يجيبنا ” بنعبد العالي” عن السُّؤال الذي طرحناه في بداية الفقرة أعلاه (هل المناداة بتكريس الانفصال هو دعوة إلى: إلغاء التَّاريخ، ومحو الذاكرة، وتفتيت الهوية، أم إخبار عن استحالة التماسك النهائي للوجود وللفكر ذاته؟):« لا يعني هذا، بطبيعة الحال، أن تكريس الانفصال دعوة إلى: إلغاء التَّاريخ، ومحو الذاكرة، وتفتيت الهوية.»([22]) وماذا يعني إذًا؟

يعني في نظره، إقامة تاريخ آخر مع عدم نكران تجذّرنا التَّاريخي، وإحياء ما هو عُرضة للفناء فينا، وما هو علق بين جنبينا، مع عدم إلغاء الشعور بالتمايز اتجاه الآخر، ولا حتى الوصول إلى حالة العجز عن أي ضم أو توحيد، أو اقتصار فقط على الاختلاف الاختباري أو اطلاعًا إلى موضع يغدو فيه الجهر بالأنا، والهوية، والوحدة مقابل التنوع بلا قيمة ولا جدوى.

فما يطبع هذا الانفصال هو طابع اللامتناهي، في حركة دورية تجعل الفروع متعلقة دائمًا بأصوله، بينما يتميز بإمكانية إعادة الربط ومد الجسور حتى وإن غدا متناقضًا مع ذاته، إذ يروم إلى كشف ضعف التفرد أمام تعاظم التعدد، وتبيان ضيق التوحد إزاء سعة التنوع، وافتقار الأنا قُبالة بحبوحة الآخر، وإظهار انطواء الذات كسدٍّ منيع يحجب عنها انفتاح الآفاق. كما أن الانغلاق على النفس كحاجز يُقصي لا نهائية الأبعاد والآفاق الممكنة، كما أن التشبث بالاستقرار عند لحظة أو مرحلةٍ ما، يفوت رحابة التنقل والانتقال، والحال ينطبق تمامًا للارتكان إلى الحاضر وحده، فهو ينفي كثافة الزَّمن.

وعليه، فإن الانفصال لا يلغي التَّاريخ، ولا يقوم أيضًا على فترات محددة شكّلتها آنات متناثرة هنا وهناك، ولا يفتت الهوية إلى أجزاء وأشلاء، إنما ينشد فيهما الحركة بدل السكون مسارًا وليس الوقوف عند نقطةٍ ما، نسيانًا وليس احتفاظًا، تعددًا بدل الوحدة، نسيانًا بدل الذاكرة، اختلافًا بدل التطابق. في هذه الحالة تصبح الحداثة وعيًا بالحركة المتقطعة للزمن، لحظة يصير فيها الانفصال من صميم الوجود، إذ يفقد عرضيته، ويعكس الانسجام والاتصال الحاصل.

لِمَ الانفصال؟ ولِم لا الاتصال؟ الاتصال يبدو في الحقيقة من زاوية ” بنعبد العالي” نوعًا من التقليد والاجترار للمكرور/المكرر، أما الانفصال كقطيعة، يسمح لنا بالقطع مع أي تقليد، مع الماضي، أي القطع الذي من خلاله نستطيع أن نكتشف ما هو جديد في ما هو قديم، بمعنى أن القطع مع الماضي لا يعني الانفصال المطلق معه/ عنه، إنما هو تلك العملية التي من خلالها نجدد الصلة به ونربط العلاقة به من جديد، على أفق مغاير، وبالتالي، الفلسفة كتكريس الانفصال، ما هي إلا دعوة للقطع مع التقليد، في مقابل ذلك، التمكين من إقامة علاقة مغايرة مع الماضي في علاقته بالمستقبل، فضلًا عن ذلك، يصبح معها الماضي حيًّا، والتحديث شرطًا ملازمًا لكل تأصيل.

تجدر الإشارة هنا إلى أن التحديث من هذه الزاوية بنعبد العالي لا يعني التجديد؛ لأنَّ التجديد هو كل انسلاخ لجديدٍ عن قديم، في حين أنَّ التحديث ما هو إلا ظاهرة لا جمهورية، يغدو به الانفصال نسيج الكائن ولحمته وخاصيته.

في مسألة القطع يسوق لنا ” بنعبد العالي” مثالًا توضيحيًّا يجسد تلك العلاقة التي من خلالها يقبع الانفصال كشرط حقق التقدم والتحديث:« [..] مثل: قطع حبل السرة، لا يعني انفصالًا مطلقًا، وإنما هو العملية التي يتم عن طريقها ربط المولود بأمه من جديد، إنه العملية التي يرتبط عن طريقها الوليد بأمه عن طريق الانفصال».([23]) انطلاقًا من هذا المثال، على ما يبدو، فإن الانفصال الذي يدعو إليه ” بنعبد العالي“، ليس انفصالًا مطلقًا تامًا، بل هو انفصال جزئي، ونفسه هو ما تسعى إليه الفلسفة كتكريس للانفصال.

لكنه، في ما يتجلى هذا الانفصال اليوم؟ يتجلى في رغبة الفكر المعاصر في الانفصال عن فيلسوف البداهة والوضوح. كيف؟  ذلك من خلال العلم؛ « فالعلم الذي نعاصره اليوم مختلف عن علم ديكارت فلسفةً وشكلًا ومضمونًا، وإبسمتولوجيته هي، كما قيل، إبستمولوجيا لا ديكارتية»([24])، بحيث لا تنفي الوضوح، بل تجعله نسبيًّا وغايةً. في المقابل، تضع لنفسها وضوحًا استدلاليًّا، مبنيًّا، إجرائيًّا – إذ تضعه في تركيب المعرفية- لا حدسيًّا، معطى، مطلقًا كما هو الشأن في الديكارتية، إذ تجعل منه تأملًا منعزلًا عن الموضوعات المركبة، فما يشكل جوهر هذا الاستدلال اللا ديكارتي هو اللا مباشرة، بحيث ينجم عن هذه اللا مباشرة فكر اللا مباشرة، مما يطرح جدل الظهور والاختفاء، والانكشاف واللا انكشاف، والطابع الإيديولوجي للأفكار والبُعد واللاشعور للحياة البشرية؛ لأن هذه اللا مباشرة هي الخاصية العامة التي تميز الفكر المعاصر على حد تعبير ” بنعبد العالي“. يتجلى أيضا في الرغبة في التحرر من قبضة ” هيغل ” و ” أفلاطون”، وفي تفكيكية مفكري الاختلاف، وإبستمولوجيا لا- ديكارتية.

كثيرًا ما رددنا سلفًا التقليد دون أن نتساءل: ما التقليد، بوصفه ماذا؟ إن التقليد في نظر ” بنعبد العالي” ليس تأصيلًا ولا مجرد مضمونات وأفكار بعينها، بل موقف سرعان ما يتحول إلى ضد أي تحديث يخالفه، محتجبًا وراء اتصالٍ مبني، إلا أن الشيء الذي نجده مقابل التقليد هو التأصيل، فما التأصيل إذًا؟ إنه ليس مجرد تكرار لتقليدٍ ما ولا استبدالًا لتقليدٍ بآخر، هو في نظر ” بنعبد العالي“، جعل لحظة الانفصال منطلقًا مركزيًّا ننطلق منه لنجعل تاريخنا ينتظم وفقه/ حوله، بمعنى أن التأصيل لا ينفك عن كونه ارتباطًا بالأصول، ذلك من خلال عملية الانفصال. وهو أيضًا بداية متجددة مستأنفة تمنح للهوية حق: الاحتواء، والضم، والتباعد، إذ هي حركة لا متناهية للضم والتباعد، كما تسمح للآخر في أن يكون مجالًا مفتوحًا للاختلاف والالتقاء، إذ تجعل من الذاكرة حاضرًا ممتدًا امتدادًا بعيدًا نحو المستقبل، والمستقبل الذي يكون استجابة للماضي.

أما في علاقة هذا المفهوم ( الانفصال ) بالحداثة – حسب ما سلف -، فإن الحداثة جعلت من مفهوم الانفصال مفهومًا لا يمكن حصره فقط في معانٍ من قبيل: انفصال بين طرفين، أو عاملين، أو مرحلتين، أو هويتين…، بل صارت معها خاصية المعرفة، وخاصية المجتمع، وخاصية النص، بل باتت معها خاصية الكائن التي تجعله دائم الهروب عن ذاته، إذ يتخلله الزمان بقوة التحول.

هكذا، نخلص إلى فكرة مهمة، ألا وهي كون هذا التعريف ( الفلسفة كتكريس للانفصال ) أقرب إلى التعريف الذي كان قبله، أي: الفلسفة أداةً للحوار، فالانفصال ليس مجرد ابتعاد عن الآخر، بل ابتعاد الذات عن نفسها ابتعادًا غير متناهٍ، كما أن فقدان حس الانفصال ضمنيًّا هو فقدان حس الاختلاف.

في الأخير يدعونا ” بنعبد العالي” إلى إعادة النَّظر في هذا المفهوم الذي ظل يُصارع في/ على الهامش؛ لأنه دون أي إغفال، فهو حتمًا ملازم لمفهوم آخر الذي هو الاتصال، فلا يمكن اختزاله ولا حتى السكوت عنه، إذ يعاني كسائر المفهومات التي لا تجد مكانها داخل منظومة المفاهيم، غير أن إعادة النَّظر قد تحمل معها الكثير والكثير، فقد يتطلب الأمر – بحسب ” بنعبد العالي“- تبدلًا بالجملة، قد يتعدى جهازنا المفهومي إلى أن يصل طريقة تفكيرنا وطرق عملنا ونمط عيشنا، ووجودنا – معًا. كما هو شأن التحول الثقافي، فهو ليس بالأمر الهين، بل يستدعي: أولًا: ضرورة مُلِحَّة لتأسيس فكر مغاير، ثانيًا: ضرورة جامحة لتأسيس ثقافة حداثية تمكن الفرد العربي من إعمال: فكره النقدي، وعقله المميز، ووعيه الناشط.

« ألا يشكل الإعلام غذاءنا اليومي إلى حد أن بإمكاننا أن نتكلم اليوم عن توتاليتاريا الإعلام، شريطة أن نعدَّ التوتاليتاريا هي أيضًا تعمل في عالمنا على غير النحو الذي عملت به ربما لحد الآن.»/ بول فيريليو (2018−1932)

 بعد ما أخذنا الحديث عن الفلسفة بوصفها أداة للحوار إلى الفلسفة بوصفها فنًّا للعيش وممارسة علاجية، إلى الفلسفة كتكريس للانفصال، إلى الحديث عن التحديث، والحداثة، والتأصيل، يأتي الدور الآن، للحديث عن الفلسفة بما هي مقاومة ومواجهة لكل نزعة كليانية.([25]) ذلكم وأن للفلسفة جبهات متعددة واستراتيجيات متنوعة تعمل وتقاوم ضد أي فكر يسعى إلى تكريس التقليد والاجترار لضمان الامتلاء والاتصال، سعيًا لإثبات التطابق واللاانفصال. غير أنَّ السُّؤالين الأساسين اللذين يطرحهما ” بنعبد العالي” هنا، هما:

هل يمكن اليوم أن نتحدث عن الفلسفة بمعزل عن الإعلام بما هو حرب؟ وأي آلية حلت محل الميكانزيم الإيديولوجي الذي كان يوكل إليه، حتى وقت قريب، خلق التطابق والانسجام ومحو الاختلاف وهمًا على الأقل؟سنحتفظ بالسُّؤالين دون تسرع في تقديم إجابة ” بنعبد العالي“.

إن حالنا اليوم مع الإعلام هو حال الأجيال السابقة مع الإيديولوجيا، الإيديولوجيا التي سعت دائمًا إلى قلب الواقع وتشويهه، لتبرير كل ممارساتها، ولربما أصبحت مهمتها اليوم أكثر من أي وقت مضى، فبحسب ” بنعبد العالي” تتمثل مهمتها في خلق الواقع، ” لا نقول خلق الواقع، وإنما تخلق شيئًا من الواقع، تخلق ما يعمل كواقع”Elle Crée Du Réel” ([26]) في مقابل الإعلام بمختلف وسائله الذي يسعى إلى تقديم مَن يودون أن ينالوا إعجاب أكبر عددٍ ممكن من النّاس ويثيرون الانتباه إليهم طابعًا. لكن هذا الاختراق من لدن الإعلام لحياة الإنسان لا يعدو أن يكون اختراقًا مفزعًا، مشوهًا، مبعثرًا، من حيث احتمالية تكريس ما يود النّاس سماعه ومشاهدته، وما يخدم جهات محددة إن لم نقل عصبات بأقنعة، إذ يعكس البلاهة والتفاهة، واللا فكر والإيديولوجيات، بوصفه سلاحًا قويًّا، ليس فقط في يد الساسة، بل أصبح الوجهة المفضلة لدى بعض المثقفين، وفي هذا الصدد يقول “بنعبد العالي“: «وإنما هي هموم مَن يعشق المنابر، ويتصدّر الندوات، ويجني الثمار، ويلاحق الفرص.» ([27]) ما قد يفهم من هذا القول دون بتر سياقه، هو أن ( مثقف ) اليوم أصبح يلاحق الإعلام والأحداث، بل أصبح أسيرًا لها، ولهذا الاتجاه الوحيد النمطي الذي يفضل تداول الآراء عوضًا عن تلقيها وفحصها فحصًا نقديًّا.

إن هذه الرغبة اللا محدودية للارتقاء إلى الأعالي، وبلوغ القمم، واعتلاء المنابر والمنصات، هي نتيجة لكل إغراءات الحياة المعاصرة ولما يوفره الإعلام من إمكانات لا حصر لها. فالإعلام يعطي الأسبقية للفرد على الجماعة، للبلاهة بدل المقاومة، للخاص على العام، للخطاب العقلي – خطاب عقلي لا نقدي- دون أن يعير أي اهتمام لرأي ولكل ما هو محتمل، إنه آلية تخلق التطابق والانسجام لتصنع الوهم، إذ تسعى إلى محو الاختلاف. آلية توجه الأفراد للولاء والامتثال فقط، وفي آن واحد، تجعل هؤلاء الأفراد نتاجًا لها، إذ تفقدهم القدرة على إدراك حقيقة التجربة الواقعية وإمكانية الشعور بها، أي إنهم أصبحوا عاجزين تمامًا عن تحديد صحة الخطابات من كذبها، عن تحديد صواب الأحداث من زيفيها؛ ذلك لكونهم على استعداد قبلي ولحظي لتقبل أي خطاب كيف ما كان، زد على هذا وذاك، فقدانهم حس التمييز والتفرقة، بمعنى، أنهم فقدوا كل حس وكل نبرة اختلاف وانفصال، وصاروا يرون الأمور موحدة واحدة لا يعتريها أي اختلاف أو تفرقة، فبمعنى من المعاني، صاروا، بل أصبحوا كليانيين، يسوون ويوحدون بين كل الأمور/ بين الكل ( الكلمات لبنعبد العالي ).

فيما يشكل لب هذا الإعلام قدرته على الاجترار والتكرار، اجترار ماذا؟ وتكرار ماذا؟ إنه يحاول تكرار واجترار أي حدث من شأنه جعل الواقع مبتعدًا عن ذاته، وواقعيته، لقد غدا الفرد داخل المجتمع الفرجة وأمام الشاشة وما يعرض فيها، عاجزًا «عن أن يحس الإحساسات التي ينبغي أن يحسها، ولا أن يستشعر المشاعر التي كان يلزم أن يستشعرها، ولا أن يرد ردود الأفعال التي كان مَن يتوقع أن يرد بها، فكأن الفرد يفقد حسّ الواقعية، بل حسّ التمييز بين ما ينبغي أن يفعل، وما لا ينبغي، ما يمكن أن يقبل، وما لا يمكن، وما لا يلزم أن يستنكر، وما لا يلزم، ما يبعث الألم وما لا يبعث، ما يهلم المشاعر.».([28]) هكذا، إذًا يصبح الفرد سجين الإعلام أو الشاشة داخل مجتمع الفرجة بوصفه مجتمعًا إيديولوجيًّا بامتياز.

بعد هذا الانزلاق في الحديث نعود إلى البدء تماشيًا لما أوردناه أعلاه، فإن الإعلام لم يعد اليوم، ذاك الإعلام الذي يخبرنا عن الواقع وعن تفاصيله، وإنما أصبح اليوم الآلة التي ترغمنا على الانصهار في الواقع، بل حتى أنها غدت تكبسنا في الراهن وتغرقنا فيه دون أن ترعى البُعد التَّاريخي لكل حدث، مما يفقدنا – نحن – إدراك الأحداث في بُعدها التَّاريخي وعمق دلالاتها، بحيث أصبحت لدينا حساسية أكثر اتجاه تتبع جزئياتها ( الأحداث )، فصار الإعلام بذلك أداة تحويل وتفتيت، تفتت الأحدث كما تحب وتصنع أخرى كما تشاء، إذ« [..] تحويل المواقف إلى ردود الأفعال متقلبة، والأفكار إلى انطباعات مترددة، بل تحويل الخبر ذاته إلى سلسلة من العجالات يكذب اللاحق منها السابق.»([29])

فعلى رأس الأسئلة الفلسفية التي لا يفتأ المرء على نفسه طرحها هنا: هل يمكننا اليوم أن نتحدث في الفلسفة وعنها من غير الحديث عن الإيديولوجيا التي تعمل اليوم على غير النحو الذي عملت به لحد الآن، وعن الإعلام بما هو حرب والحرب بما هي إعلام Infowar؟ نتبع هذا السُّؤال بسؤال آخر، ألا وهو: ما الفلسفة إذًا؟

من هذا المنطلق، ومن هذه المواضيع، يجيبنا ” بنعبد العالي“: « الفلسفة إذًا، بما هي مواجهة لكل نزعة كليانية هي مواجهة للإعلام، إنها سعي لتجاوز الإعلام كتقنية، ومحاولة لاسترجاع تلك القدرة على التمييز، ومحاولة لإحياء حس الاختلاف وزرع الانفصال.»([30])

دور الفلسفة إذًا لا يقتصر فقط على تكريس الانفصال، بل يتعدى ذلك ليصبح مقاومة ضد أي نزعة كليانية شمولية، ضد أي فكر يحذف حس الاختلاف والانفصال من قواميسه ومعاجمه؛ لأن الفلسفة في هذا المقام هي تلك النافذة التي يستطيع من خلالها الإنسان استرداد ما تمَّ نزعه منه، من القدرة على التمييز والتفرقة، مع إحياء حس الاختلاف والانفصال فيه، فالفلسفة لا تقوم إلا على أرضية صلبة يطبعها هذان الآخران، بل هي التي تسعى إلى إقامتهما. فضلًا عن كونها مجاوزة للإعلام بما هو تقنية، بما هو حرب دعائية تُشنُّ عبر وسائل الإعلام الإلكترونية، بما هو استخدام لتكنولوجيا الحاسوب لتعطيل أنشطة الإنسان وقدرته الحيوية، وجعله عاجزًا عن الشعور والإحساس والتحلي بالعيش الأصيل.

أما في علاقة الفلسفة بالتراث، فهي – كما أشرنا رفقة ” بنعبد العالي” – مقاومة للماضي الجاثم، ومقاومة للتقليد؛ بهدف إحياء التراث بطريقة مغايرة، طريقة لا تسير خطاها إلا وفق مبدأ الانفصال، الانفصال مع الرؤية التي تكرس التراث في قوالب جاهزة حين تضع له تأويلات وقراءات نهائية محدودة، منغلقة على ذاتها.

النتيجة كون الانفصال في حد ذاته قطيعة، إلا أن السُّؤال الذي يُطرح هنا: هل فعلًا تتم القطيعة بشكل كلي أم قطيعة جزئية تتم على مستوى كل قضية على عد قضية التراث قضية من بين القضايا الأخرى؟ في هذا السياق نرد قول ” بنعبد العالي“:« إن الأمر لا يتعلق بالحوار مع القدماء، وإنما مع المحدثين بيننا الذين يجرون ويجترون التقليد، فما دام بيننا مَن يوظف التراث دون أن ينفصل عنه، فنحن مضطرون إلى انتقاد موقفه وفضح أولياته. ذلك أن المعاصرة تعني أن يعيش الإنسان عصره،»([31]) إذ إن العصر ما هو إلا علاقة مُتفجرة للماضي بالمستقبل على النحو الهايدجري، بحيث يغدو المستقبل ذاته منيرًا للماضي، والحاضر وحده مَن يمدنا بقوة لفهم الماضي.

وكأن “بنعبد العالي” هنا يريد أن يقول لنا: إن الانفصال هو عملية قطع مع التقليد ومع سياسة الاجترار؛ لأن القطع أو الانفصال في عمق دلالاته ما يجعل الفكر فكرًا حيًّا من خلال استنطاق ثقافة الماضي استنطاقًا حاضرًا، وخلق حوار مع الماضي من حيث هو تراث، تراث نمتلك قدرة تملكه وامتلاكه كي يغدو ذلك، أي: تراثًا، مورثًا، ذاتًا تحدث معه انفصالًا على النحو الذي قيل فيه: إن قطع الحبل السري لا يعني انقطاعًا وانفصالًا عن الأم، بل هو تحديث تجديدي للعلاقة بين الأم وابنها.

إذًا، فالانفصال كقطيعة وضد التقليد كمواجهة للكليانية نوع من المشاغبة الفكرية التي يمارسها المفكر أو الفيلسوف اتجاه قضايا عصره. و” المشاغبة ” هنا لا تعني حرفيًّا ما يعنيه المفهوم، وإنما هي مشاغبة فكرية تقتضي ضوابط وميكانزيمات غير متاحة للكل. بيد أن السُّؤال الذي يطرح نفسه إزاء هذا هو: هل يمكن تصور الفلسفة على أنها مشاغبة L’indisaplineفكريًّا؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في عنواننا الآتي.

« ينبغي لتخطّي المقاييس أن يُبدع مقياسه الخاص » /ألبير كامو (1913−1960)

خير ما نستأنف به هذا العنوان جملة أسئلة طرحها ” بنعبد العالي” في مقال له تحت عنوان: ” هل الفلسفة مجرد مشاغبة فكرية؟ من المشاغبة إلى تخطي”: فهل يعني القيام ضد صرامة العقل وحدوده رفضَ المنطق؟ وبلغة ديكارت، هل يتعلق الأمر بعدم اتّباع القواعد التي يُمليها العقل السليم ورفض الخضوع لها؟ وهل يتعلق الأمر بعدم اتّباع المنهج؟ أليس في عدم اتّباع المنهج خروج، ليس عن قواعد بعينها، وإنما عن حدود المعقول؟ في هذه الحالة، ألا تؤول الفلسفة بهذا المعنى إلى قوْل ” لا ” للديكارتية، على غرار ما فعل “غاستون باشلار (1884-1962)” وتلامذتُه بمختلف توجّهاتهم، في مختلف الميادين التي طرقوها؟

إلى جانب هذه الأسئلة نضيف؛ أبهذا المعنى تكون الفلسفة مجرد مشاغبة فكرية، مشاغبةً تتيح إمكانية تخطى القواعد والمعايير – التي أرصاها العقل لنفسه – بل تسير سيرًا ( عشوائيًّا ) حين تود أن تخلق ما تود أن تخلقه، حين تبدع ما تود إبداعه، حين تخلط خلطتها لتصنع ما قد يصنف في دائرة المعقول.

إن المشاغبة هنا بما هي التخفيف من وطأة الضغوط، والسعي وراء التحرّر من القواعد، وبما هي أيضًا مراوغة، غير أنَّ ما يهمنا هنا، في نظر ” بنعبد العالي“، هو « المشاغَبة الفكرية التي تقوم ضد صرامة العقل وحدوده أوّلًا، ثم ضدّ أشكال « اللا فكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة »، ذلك اللا فكر الذي « يجعل البلاهة Bêtise تحتكر التفكير وتستحوذ عليه » على حدّ تعبير م. كونديرا.»([32])

وهذا الموقف أو التعريف – الفلسفة كمشاغبة فكرية – ما هو إلا امتداد لما ذكر أعلاه، أي: الفلسفة بما هي مقاومة، إذ أصبح الانطلاق من هذه الإشارة مشاغبة فكرية وتخطيًا وحيادًا عن الطريق، لتوضيح هذا أكثر نسوق مثالًا لعله يوضح ما نود قوله، وهو المثال الذي ساقه ” بنعبد العالي” في المقال ذاته ( هل الفلسفة مجرد مشاغبة فكرية؟ )، وهو في صدد الاستشهاد بحوار لمؤرخ العلوم “ميشيل سير(1930-2019) ” مع فيلسوف فرنسي، دون أن يرد القصة/ المثال بأكمله، لذا سنحاول ولو بشكل تقريبي سرد القصة:« كانت أختان من عائلة تاتان تمتلكان مطعمًا صغيرًا في الريف الفرنسي، وفي أحد الأيام جاء زبائن كُثر إلى المطعم، ومن كثرة الانشغال وبينما كانت إحدى الأختين تحضر فطيرة التفاح نسيت أن تضع طبقة العجينة السفلية للفطيرة، ووضعت السكر والتفاح، ثم أدخلتها على عجل إلى الفرن، وبعد أن خبزت الفطيرة وجدت الأختان هذا «الخطأ»، وحاولتا أن تعالجاه بقلب الفطيرة رأسًا على عقب وتقديمها، فنالت الفطيرة إعجاب الزبائن، وسُميت تيمنًا بهما تارت تاتان.»

بعد أن أوردنا القصة نرد تعليق الفيلسوف الفرنسي ” م. سير(1930- 2019م)” الذي ترجمه ” بنعبد العالي“: [..] الأمر نفسه بالنسبة لوصفة الطبخ، إذا تابعت بعناية وصفة الفطيرة تاتان، فإنّك ستصنع فطيرة تاتان، لكن من حقّنا أن نتوقّف لحظة ونتساءل: كيف عملت الأختان تاتان كي تبدعا هذه الفطيرة العجيبة؟ إنهما ارتكبتا خطأ: أوقعتا الفطيرة التي سقطت مقلوبة.

هذا المثال يذكرنا أيضًا بمثالٍ آخر، ولعله مثال المطرقة الذي أعطاه الفيلسوف الهولاندي ” باروخ سبينوزا (1932-1677م) “، وهو في صدد نقد تأسيس ” ديكارت ” لمنهجه، فما يثيره المثلان السابقان مسألة المنهج. بالمثل، فعندما نُسقط هذا المثال على التفكير، فهو يتم بنفس الطريقة التي اتبعتها الأختان تاتان، بمعنى أن التفكير لابد أن يقع في الخطأ، ويحيد عن الطريق المرسوم له سلفًا، وهذا الخروج والزّيغ عن الطريق أو المنهج قد يحمل معه الكثير مما هو مخزن مختبئ، إذ يمكن العثور على شيء غير متوقع أو الوصول إلى غير المعهود، إما عن طريق الحظّ وإما المصادفة وإما هما معًا، على عد الخطأ شرطًا، أي: تقدم كيف ما كان نوعه وكيف ما كان ميدانه وحيز انشغاله.

فبحسب “ميشيل سير” أن تُفكر، يعني أن تخطئ، وأن تُبدع، على عد الخطأ خاصية وسمة بشرية، « فمسألة البلاهة، وقضية الفلسفة، ليست مسألة صواب وخطأ، كما أنها لم تعد قضية جهل ومعرفة، صحيح أنها تتعلق باللا فكر الذي يحسب نفسه فكرًا، غير أن هذا اللا فكر لم يعد هو الخطأ الذي يكفي لمقاومته أن يعبِّد الفكرُ الطريقَ ويضعَ « المنهج »، ويسنَّ « قواعد لتوجيه العقل »، وربما لم يعد أيضًا حتى ما وُسِم بالرأي الإيديولوجي والوعي المغلوط الذي يكفي فضحه وتفنيده.»([33])

فالمطلب من الفلسفة اليوم، بوصفها مشاغبة فكرية ومقاومة ضد اللا فكر،- على الأقل – إقامة فكر مضاد يكون مسعاه إحداث شروخ في مجتمع الفرجة/ الشاشة، في عالمٍ تبنّى التقليد والتنميط، على أساس تعقب كل أشكال البلاهة التي تسعى إلى الاستحواذ على ما تبقى من الحياة الإنسانية في بُعدها الأنطولوجي، بما هو، أي الوجود وعاء الحياة ورئة الإنسان.

أصبحت البلاهة والتفاهة تغزوان غزوًا بشعًا حياتنا اليومية بوسائل شتى؛ بهدف إقناعنا أنها فكر، ولا يمكن أن تكون شيئًا آخر، بل إنها تضيقنا في عملية التفكير، فما بالك بعملية الإبداع؟ لا محيد إذًا للفلسفة «وهي تسعى كي تقف في وجه البلاهة، من أن تصدر عن تخطٍّ أصليّ للمعايير، فوحدة القيام في حدود المعيارية La Frontière à Des Norms من شأنه أن يحرّر العقل، ويفتح الفكر على آفاق مغايرة، ويولّد الأطر التي تفتأ تفجّرها رغبة جامحة جديدة.» ([34]) ولا مناص أيضًا للفكر، وهو يسعى كي يقف أمام هذا التغلغل اللا فكري الذي يصبغه على نفسه صبغة البلاهة تارة، والإعلام تارة أخرى، إلا أن يتخذ: المراوغة، واللف، والدوران أسلوبًا له الذين تلخصهم كلمة واحدة هي ” المشاغبة “، ” المشاغبة ” بما هي تخطي المعايير إلى حد الإقامة في حدود المعايير، أي: تخطي الحدود. وعندما يُتخّطى كل معيار، فهو إثبات للذات كمقياس خاص، وحيد، فريد من نوعه على حد تعبير الفيلسوف والمترجم الفرنسي “ميشيل هار (1937-2003م)”.

من هنا تصبح المشاغبة تمرد وتخطٍّ، ويصبح التخطي تحررًا، تحررًا من البلاهة واللا فكر، ومن قبضة حدود المعايير والمقاييس، أو إن شئت قلت التحرر من البداهة والمباشرة، من الوضوح المطلق واليقين المُعطى، أو من القواعد – المنهج.

علاوةً على ما سلف ذكره، نتساءل: بأي معنى تكون الفلسفة مشاغبة فكرية من المشاغبة إلى التخطي؟ لابد أولًا أن نقف عند معنى التخطي كما حدده ” بنعبد العالي“، إذ يعرج بنا وهو في سياق حديثه عن مفهوم التخطي إلى ثنائيتين ظلتا متلاصقتين متقابلتين، أو بالأحرى إلى طرفين ظلا متلازمين، يتعلق الأمر هنا بالمقابلة بين « أبولون » و« ديونيزوس »، بين « ميتريون» و« الهيبريس »، اللذين دأب التقليد الإغريقي على تكريس علاقتهما في تضاد، عادًّا – التقليد/ الثقافة الإغريقية- العقل له القدرة على الحد ورسم الخطوط، وبخس بذلك كل ما من شأنه تجاوز وتخطي هذا الحد. وبلغة “بنعبد العالي“، فهم يرمون بكل ما يتخطى « المقاييس Démesure » ضمن الأهواء، والغواية، والخروج عن الحدود.

فيما تغيرت تلك النَّظرة العلائقية بينهما بحلول القرن التاسع عشر مع ” فريديريك نيتشه (1900-1844)” تحديدًا في ” ولادة المأساة “، بحيث أصبح ” أبولون ” يجسد النظام، والمعيار، والعقل، والوضوح في مقابل ” ديونيزوس” الذي يجسد التخطي، والإفراط، والتجاوز، والتمرد، والحرية، والنشوة، والفرح، والألم، والحماس، وظل كذلك ” هيبريس ” متجسدًا لكل الأهواء والملذات ودليلًا على تحكم الرغبة، وما يتخطى ويتجاوز الحدود، وإلى جانبه ” ميتريون”.

هذا لا يعني البتة أن اليونان غاب عنهم حس التخطي وروح التجاوز، بل نجد لهما صدى وحضورًا قويًّا في أسطورة « بروميثيوس Prometheus » التي تعكس الرغبة في تحقيق إنسانية الإنسان وخطر التجاوز والبحث عن المعرفة العلمية والحفاظ على النوع البشري، فقد « نُظر إلى هذه المقابلة، في أغلب الأحيان، على أنها مقابلة تضادّ بين مراعاة المقاييس من جهة، وبين تخطّيها من جهة أخرى.»([35])

 من هذا المنطلق، فالتخطي يعني تجاوز الحدود وكسر أي مألوف أو تطابق، إنه لا يغدو أن يكون انفصالًا، ضد أي تقعيد وتحكم، كما تبدو المشاغبة الفكرية، كمحاولة الانفلات من الانضباط ومن التقعيد؛ لكسب المزيد من الحرية، حرية التفكير، حرية الإبداع، حرية التقويض؛ ذلك لكون المعايير والمقاييس دائمًا ما ترمي إلى نماذج أو نموذج مُتحقق لما ينبغي أن يكون عليه الشيء، ويُقاس به غيره ويُسوَّى.

المشاغبة إذًا، هي محاولة التفكير خارج الحدود، خارج معيار التحكم.

في الأخير، فيما تفيدنا تجربة الحدود هذه وهذا التخطي للمقاييس أو المعايير؟ إنهما في نظر ” بنعبد العالي” سر الخلق والابتكار، موطن الإبداع والاكتشاف، وسبيل الارتقاء نحو معرفة تتولّد عن الغلو، وبهما يمكن أن نعثر على ما لم نكن نبحث عنه، عن بداية جديدة لشيءٍ ما، كما حدث مع فطيرة تاتان.

إن نظرة ” بنعبد العالي” للفلسفة هي نظرة متعددة متنوعة بتعدد التعريفات والمعاني التي يقدمها، فهي تارة أداة للحوار وفن للعيش وممارسة علاجية، وتارة أخرى، استراتيجية تكرس للانفصال وتعادي للاتصال/ التقليد، أو مقاومة ضد الإيديولوجيا وضد كل نزعة كليانية وإعلام الفرجة، أو كمشاغبة فكرية تنشد تخطي الحدود وتجاوزها. ليخلص في الأخير إلى تعريف – يبدو جامعًا لما أراد الرجل أن يصف بها الفلسفة -، إنها في آخر المطاف ممارسة لسؤال التفكير وإعماله في النص الفلسفي.

لكنه من البيّن أن ما أوردناه ينصبُّ ولو بشكلٍ جزئي عن تعريف تقني للفلسفة، فحينما نقول: إنها أداة وفن وتكريس ومقاومة واستراتيجية، فالأمر يبدو كأنه تقني محض، وبالتالي، فلاريب إذًا من التساؤل عمَّا يطبع الفلسفة في كليتها، عمّا يود المدافعون عن الخصوصيات تكريسه، عن المنادين بعدم جدوى محاورة الفكر المعاصر. على خلاف هذا([36])، يرى ” بنعبد العالي” أنه – اليوم – أمر غير معقول وغير مقبول، بل مرفوض، ومن الحمق القول بهذا وذاك، أي: القول هذه فلسفة عربية صرفة، وهذه فلسفة غير عربية، ويلازم ألا ترتمي في أحضان الفكر المعاصر، وأن تبقى في عروبتها وأصالتها، وهو رأي نابع بالأساس من مفهوم محدد عن الذات والآخر، عن الهوية والاختلاف.

إن الفلسفة لا يمكن لها أن تكون إلا « شمولية النزعة وكونية الطابع.» ([37]) ماذا يعني هذا؟ وهل هذا الزعم – من لدن ” بنعبد العالي“- وربط الفلسفة بمفهومين: ( الشمولية، الكونية )، يعود إيجابًا أو سلبًا لما تقدمنا به أعلاه؟ ذلك لكون الفلسفة كما رأينا ضد أي نزعة كليانية/ الشمولية. وبالتالي، فكيف للتي لا تقبل الشمولية أن تدعها؟ ربما الخروج من هذا المأزق لن يتم إلا من خلال تقديم تعريف، أو الأصح تقديم دلالة يقيمها ” بنعبد العالي” لكل من مفهوم الشمولية ومفهوم الكونية. مؤكد هذا الأخير أن هذه الزعم لا يقيم أي فرق أو تفريق بين مفهومي الشمولية والكونية، حيث يُتخذ مفهوم ميتافيزيقي يعد الشمولية متعالية عن الزمان والمكان، كما أن مفهومًا تاريخيًّا ينظر إلى الكونية بوصفها مفهومًا معاصرًا حديث الولادة، إذ رافق سيادة التقنية التي هي بدورها غيرت مفهومنا للعالم وللفكر بانتشارها وتوزيعها على أوسع نطاق، ليصبح كل شيء أمامها – حتى الفكر – كونيًّا.

إذًا، فالفكر الكوني لا يتخذ لنفسه صبغةً ما، إنه معدوم العِرق، والجغرافيا، والقومية إلى درجة لا يمكن القول: أنه « يخص حضارة دون أخرى، أو منطقة من مناطق العالم دون غيرها أو قسمًا من الإنسانية دون غيره، فالكونية المقصودة لا هوية لها، وربما كانت اليوم هي ما يحدد كل هوية.»([38])

يُفهم مما سبق أنه ليست هناك اليوم إمكانية القول بأن هناك فكرًا أصيلًا، إن هناك فلسفة بمعزل عن الفكر العالمي؛ لأن كل سؤال فلسفي هو مجبر بالضرورة بالانخراط في الفكر العالمي، إنه انخراط في الكونية دون سواها، وأصالة لا تتم إلى كيفيات لا تجد منبتها إلا عن طريق المشاركة والمساهمة في العالمية/ في الفكر الكوني.

والنتيجة كون« الكونية اليوم قدر تاريخي وليست اختيارًا إراديًّا،» ([39]) كما أنه إذا أردنا حقًّا تحقيق هذا المطلب، مطلب الانخراط أمام الكونية المفروض، فلا ينبغي التطلع إلى من تكون لفلسفتنا فلسفة عربية خالصة، مع الحرص كل الحرص على الانفصال التام مع كل الدعوات التي تقول بلا جدوى في محاورة الفكر المعاصر الذي يتكلم هو الآخر لغات، ويحمل هويات متغايرة وهمومًا متباينة.

إن ” بنعبد العالي” لا يحصر الفلسفة في تعريف أحادي، بل يفتح لها آفقًا تُشبه تفرع قضاياها ومشكلاتها، ففي موضعٍ آخر من كتبه يقول:« ويكفي أن نتذكر أن الفلسفة لم تعد اليوم تنصب على موضوع بعينه، وأنها أصبحت استراتيجية، وهي أساسًا استراتيجية لتقويض الأزواج الميتافيزيقية..، تتشابك استراتيجية إذًا باستراتيجية الأدب لتصبح كتابة تستهدف مُراوغة اللغة، وتقويض الميتافيزيقا، وتفكيك أزواجها.»([40])

 كما يُنظر إليها – الفلسفة – على أنها الابن العاق الذي يتنكر لجميع السلطات، رحال لا موقع له، يتيم ينتج الفوارق، ويعدد الهويات، وينحاز نحو الهوامش، يلجأ إلى مفاهيم مغايرة (الاختلاف، والانفصال، والتعارض البنيوي، والتعدد، والمنظورية)، ويقف عند الحدود والنهايات LIMITES، ويرصد: موطن الخلل، ونقاط الضعف، والهوة، ويتبنى استراتيجية الهدم دون أن يغفل البناء والتحديث.([41])

يقول ” بنعبد العالي“:« لا داعي على أن نلح على إدخال الفلسفة (..) أو على الأقل ليس مهمًّا أن ندخلها هذا الدخول الرسمي، المهم هو أن تتسرب عبر الدراسات الأدبية والمناهج التَّاريخية (..) الفلسفة ليست معرفة أو استردادًا لنصوص، فهي في آخر المطاف ممارسة لسؤال وإعمال الفكر- التفكير- في النص الفلسفي»([42]) كما أنه من اليسير أن نُزَاوِج: الأدب، والفلسفة، والتَّاريخ، والفن، وغيرهما من الحقول المعرفية الفكرية في ما بينها، أن نجعل الأدب يتكلم فلسفة، والتَّاريخ ينطق أدبًا، والفلسفة تحتوي شعرًا، وتاريخًا، وعلمًا، والفن يشكل فلسفة وأدبًا وعلمًا.

أو ليس هو القائل في لقاء خصته له منصة ” معنى الثقافية ” (18 غشت 2019):« أحب عادة أن أشبه عناوين كتاباتي بعناوين دواوين الشعراء، كلكم تعلمون أن الديوان الشعري لا يأخذ عنوانه إلا بعد كتابة القصائد، كأن الشاعر يتحول إلى قارئ لما تم إنجازه؛ كي يحاول رسم خطاطة عريضة لما صدر عنه، ويعطيها عنوانًا ما…» بمعنى أننا أمام فلسفة نلامسها في العمل: الأدبي، والفني، والفكري، كما نلمسها في العمل الفلسفي ذاته، وهل هناك مَن وجد إلى هذا الطريق وهذه الفلسفة سبيلًا؟ إجابتنا عن هذا السُّؤال ستكون في الشق الأخير، والآتي من هذا الفصل الثالث الذي خصصناه لرجل تنعكس فيه أطروحة الجمع والالتقاء بين: الأدب والفلسفة، والسينما، وبين الفلسفة كأداة للحوار وفن للعيش.

جدير هنا بالذكر وتماشيًا لما جاءت به مجمل الفقرات السابقة من أفكار، إن الفلسفة مع ” بنعبد العالي” لم تكن يومًا أسماء أعلام، بل لا يمكن حصرًا أن تنحصر في مهمتها التقنية، وما هي إذًا؟ وهل يمكن أن توجد فلسفة بلا فلاسفة بالمعنى التقليدي للكلمة؟ إنها « ليست مجرد أعلام، ولعلها ليست أساسًا أسماء أعلام بقدر ما هي مناخ فكري، فقد تكون هناك فلسفة من غير أن توجد فلاسفة بالمعنى التقليدي للكلمة.»([43]) ولعل التجسيد الصريح لهذا يتجلى اليوم في الفكر المعاصر بحيث نجد نصيبًا لا يُستهان به من الفلسفة عند غير أهل التخصص، سواء أكان أصحاب النَّقد الأدبي والدراسات اللسانية أم عند: علماء الأنثروبولوجيا ومؤرخي الأديان والأساطير وأصحاب التَّحليل النفسي…، وعلى هذا النحو، فإن الفلسفة تنتعش داخل حقول معرفية أخرى، وإذا كان الأمر هكذا، فأي واقع تعيشه الفلسفة اليوم؟

إن الفلسفة في نظر ” بنعبد العالي” وجدت لنفسها بعد أن اكتملت فضاءات أرحب تحقق فيها انتعاشها، في: الفن، والنَّقد السينمائي، والتشكيل… وهو التصور الذي يتماشى في بعض منه مع ما جاء به ” الدّكالي“، وبالتالي، فإن الرجلين يلتقيان في أكثر من موضع.

مادامت إشارتنا هنا في سياق ” بنعبد العالي” نطرح معه سؤالين خاصين أكثر، ألا وهما: أيّ مستقبل للفلسفة في العالم العربي؟ وكيف يمكن تحقيق هذا المناخ الفكري أو ما السبيل إلى خلق هذا المناخ؟ جوابًا عن السُّؤال الأول: إن الفلسفة في الوطن العربي بحسب ” بنعبد العالي” تعاني حصارًا ونبذًا وتهميشًا، وهي إلى الآن لا زالت في بعض الدول العربية في وضع المحرمات والمنوعات، كما حالها في دول أخرى تُدرسها دون أن تمهد لها تمهيدًا سليمًا عقب الأطوار السابقة، لتمهيد اللاحق، فهي تعاني أيضًا « من ضعف المقررات وتقادمها، وندرة المراجع والافتقار إلى أمهات الكتب »([44])، فضلًا عن المناخات سواء أكانت سياسية أم إيديولوجيات التي قد تكون هي الأخرى من مسببات هذا التحجيم والإقصاء الذي تعانيه الفلسفة هنا وهناك.

جوابًا عن السُّؤال الثاني ( كيف يمكن تحقيق هذا المناخ الفكري؟ أو ما السبيل إلى خلق هذا المناخ؟ ) إذا كانت الفلسفة اليوم تعيش من وفي هوامشها، فإن إحياءها وعودتها أو انطلاقتها من جديد لن تكون إلا من خارجها، بمعنى أنه سيتم إحياؤها خارج الجامعات وعلى هامش المؤسسات الرسمية، على النحو الذي وجّه به الجمود الفلسفي الأوروبي، في هذا الصدد يقول ” بنعبد العالي“: « فترك ” التقليد ” للفضاءات التقليدية وجاء الانفتاح من ” خارج “.»([45])

كل هذه الأسباب وغيرها يعدّها ” بنعبد العالي” هي نفس الأسباب التي تعرقل وتحول دون توفير أهم وأبرز شروط المناخ الفكري، وبالتالي، فإن تجاوز هذه العراقيل لا يتم إلا من خلال إدخال الفلسفة وانفتاحها على الدراسات: الأدبية، والنفسية، واللغوية، والاجتماعية، والتربوية، ولا يتم كذلك إلا من خلال الاقتداء بالثورات الفكرية التي أقامها كل من: ” مالارمي، وفرويد، وداروين، ونيتشه، وسوسيور…“، في مختلف الحقول المعرفية والفنية… باختصار، إن الحل يكمن في نظر صاحب كتاب ” منطق الخلل” في أمرين، هما:  

أولًا: المتابعة الفعلية للحداثة الفلسفية.

ثانيًا: إعطاء مساحة شاسعة للفلسفة تمكنها من اقتحام: الحياة، والمدرسة، والمتجمع.

كما أن الفلسفة عنده فن للعيش وأداة للحوار منظور إليها اجتماعيا وفكريا، وتكريسا للانفصال ومواجهة منظور إليها فلسفيا وعلميا.


[1]) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة أداةً للحوار، ( المغرب- الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 2011 )، ص79.

[2]) عبد السَّلام بنعبد العالي، ” لماذا أكتب على نحو ما أكتب؟ أو الفلسفة، كتابة شذرية “، مجلة نزوى، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، العدد63 (2010)، ص248.

[3]) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة أداةً للحوار، ( المغرب – الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 2011 )، ص7.

[4]) هنا نشير بشكلٍ أدق إلى ما أورده ” محمد وقيدي ” – هو نوعًا ما يتماشى مع ما سنرد رفقة بنعبد العالي-، في ما يخص هذا التلازم بين الفلسفة والحوار، بحيث يقول ( وقيدي ): هناك نوع من التلازم بين الفلسفة والحوار، فهي توجد حيث يكون، تقوى بقوته وتضعف بضعفه، وتكاد تغيب بغيابه (..) – إلى أن يصبح – الحوار شرطًا من شروط التَّفكير الفلسفي (..) فالفلسفة لا تنشأ ولا تتطور في انعزال عن الوضع الفكري العام في المجتمع (..) – كما أن – الفلسفة ذاتها تتوقف في تطورها (..) على توافر شروط الحوار وإمكانيته في المجتمع. انظر، محمد وقيدي، جرأة الموقف الفلسفي، ( المغرب: أفريقيا الشرق، ط1، 1999 )، ص: 13-14.  وكنموذج لهذا الحوار الفلسفي يعطي لنا ” وقيدي” حوار الفلسفة وتاريخ العلوم نموذجًا، كما يسوق لنا نموذج “ديكارت” الذي يقول بأنه يحاور في مؤلفاته جملة من الفلاسفة حتى وإن لم يسمهم بأسمائهم، إلا أن القارئ المتمكن من تاريخ الفلسفة يستطيع أن يقف عند نصوص أخرى ( كأفكار ) تتضمنها نصوص ” ديكارت “.

[5] ) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة أداةً للحوار، ( المغرب – الدار البيضاء: دار توبقال للنشر ط1، 2011 )، ص: 9-8.

[6]) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة أداةً للحوار، م. م. س، ص9.

[7]) المصدر نفسه.

[8]) عبد السَّلام بنعبد العالي، الكتابة بيدين، ( المغرب – الدار البيضاء: دار توبقال للنشر ط 1، 2009 )، ص 48.

[9]) نشره ” بنعبد العالي عبد السَّلام ” ضمن سلسلة المعرفة الفلسفية، سنة 2008، بدار توبقال بالدار البيضاء، المغرب، وهو كتاب يعكس صورة الحوار المركب – مع الفكر المعاصر والحديث- الذي كان وليد قراءات لكل من: ديكارت، وسارتر، وألتوسير، وفوكو، ودريدا، وفرويد، وهايدجر… .

[10]) في هذا الأفق ينظر ” محمد وقيدي ” إلى الفلسفة بوصفها نمطًا فكريًّا يُذكي الحوار في المجتمع، بمعنى أنها فكرٌ حواري متوقف على شرط الحرية، حرية التَّفكير.  انظر: جرأة القول الفلسفي، ص14.

[11] ) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة فنًّا للعيش، ( المغرب: دار توبقال ( ضمن سلسلة المعرفة الفلسفية) ط1، 2012) )، ص10.

[12]) يُقصد بها حالة من: السكينة، والطمأنينة، وغياب الاضطراب، وهي لفظ يوناني استعماله الأبيقوريون؛ تعبيرًا عن حالة السعادة والتوازن بين ما نرغب فيه، وما يمكن لنا تحقيقه التي هي غاية الحكيم وظلته. ( انظر: معجم الفلاسفة).

[13]) يُقصد بها حالة من صفاء النفس/ الروح من الهموم وتعبيرًا عن انعدام الانفعال/ المعاناة.( معجم المعاني)

[14]) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة فنًّا للعيش، م. م. س، ص11.

[15])  عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة فنًّا للعيش، م. م. س، ص121-122.

[16]) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة فنًّا للعيش، م. م. س، ، ص11.

[17]) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة أداةً للحوار، م. م. س. ص14.

[18] ) يُقصد بها الاعتقاد الشائع أو الرأي الشعبي ويتناقض مع المعرفي، ويشير إلى مجال الرأي والمعتقد، أو إلى المعرفة المحتملة.

[19]) هو العنوان الفرعي الذي اختاره ” عبد السَّلام بنعبد العالي” لمقال نُشر له تحت عنوان: ” ضد الراهن”، في مجلة ثقافات، العدد 15-16، 2005.

[20]) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة فنًّا للعيش، م. م. س، ص11.

[21] ) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة أداةً للحوار، م. م. س، ص16.

[22] ) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة أداةً للحوار، م. م. س، ص14.

[23] ) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة أداةً للحوار، م. م. س، ص16.

[24] ) عبد السَّلام بنعبد العالي، ” هل الفلسفة مجرد مشاغبة فكرية؟ من المشاغبة إلى تخطي المعايير”، منصة معنى MANA (الإلكترونية)، 2021:

  • https://mana.net/19526/

[25]) الكليانية/ الشمولية: يقصد بها التحكم بالوسائل كافة على كل مناحي الحياة بما في ذلك التحكم في: الإعلام، والاقتصاد، والتَّعليم، والفن، والمؤسسات، وكل شيء.

[26]) عبد السَّلام بنعبد العالي، ” ضد الراهن الفلسفة كتكريس للانفصال”، مجلة ثقافات، العدد 16-15( 1  تموز 2005 )، ص10.

[27]) عبد السَّلام بنعبد العالي، الفلسفة فنًّا للعيش، م. م. س، ص29.

[28]) عبد السَّلام بنعبد العالي، ” ضد الراهن الفلسفة، كتكريس للانفصال “، مجلة ثقافات، العدد 16-15، (1 تموز 2005)، ص 10-11.

[29]) المصدر نفسه، ص11.

[30]) عبد السَّلام بنعبد العالي، ” ضد الراهن الفلسفة، كتكريس للانفصال “، مجلة ثقافات، العدد 16-15، (1 تموز 2005)، ص 11.

[31] ) المصدر نفسه، ص 11.

[32]) عبد السَّلام بنعبد العالي، ” هل الفلسفة مجرد مشاغبة فكرية؟ من المشاغبة إلى تخطي المعايير”، منصة معنى MANA الثَّقافية، 2021 :

  • https://mana.net/19526/

[33] ) عبد السَّلام بنعبد العالي، ” هل الفلسفة مجرد مشاغبة فكرية؟ من المشاغبة إلى تخطي المعايير”، منصة معنى MANA الثَّقافية، 2021:

https://mana.net/19526

[34] ) المصدر نفسه.

[35] ) عبد السَّلام بنعبد العالي، ” هل الفلسفة مجرد مشاغبة فكرية؟ من المشاغبة إلى تخطي المعايير”، منصة معنى MANA الثَّقافية، 2021:

https://mana.net/19526

[36])  يقول ” محمد وقيدي“: إذا فكرنا في الفلسفة في هذه البلاد التي تُسمى بالمغرب ( وهي جزء من العالم العربي والإسلامي، فسنجد أن الأمر لا يتعلق فيها بنشأة، فقد انطلقت من هذه الأرض فلسفات ذات قيمة إنسانية عامة في عصور ازدهرت فيها الحضارة العربية الإسلامية، كما أن الوجود السابق للفلسفة في هذه الجهة من العالم يجعل سؤالنا اليوم متعلقًا باستئناف لم يمنع الوضع السابق، مع ذلك، انبثاق الفلسفة من جديد واستئنافها للحضور في الواقع الثَّقافي المغربي، وكان ذلك بفضل الفيلسوف الشَّخصاني محمد عزيز الحبابي الذي استطاع أن يحقق الاندراج ضمن تاريخ الفلسفة. انطر: محمد وقيدي، جرأة القول الفلسفي، ص73-72) (بتصرف).

[37]) عبد السَّلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، (المغرب – الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط 3، 2008)، ص 44.

[38]) المصدر نفسه، ص: 44-45.

[39])  عبد السَّلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، (المغرب – الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط 3، 2008)، ص 45.

[40]) عبد السَّلام بنعبد العالي، الأدب والميتافيزيقا، دراسات في أعمال عبد الفتاح كيليطو، (المغرب – الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 2009)، ص: 9 -10.

[41] ) لكن والحالة هاته: ماذا عن دراسات الفكر الفلسفي في المغرب، الظاهر أن كتاب ” بنعبد العالي“، الموسوم بـ: (التراث والهوية)، ويأتي مثل سابقيه غنيًّا بتساؤلات تدل على أن صاحبه يتوافر على تكوين فلسفي يأبى الوقوف عند ما قد نعدّه أمرًا ليس من السهل، لدراسته عندنا ومتابعة حركته وتقويمه، يتعلق الأمر هنا بالقول بوجود إنتاج فلسفي مغربي -عربي، في ظل وجود أطروحات تتنكر وتنكر وجوده، بدافع أن ما يُكتب لا يعدو أن يكون مجرد مؤلفات مدرسية، ولا تضاهي حتى الفلسفة الإسلامية في زمن انتعاشها. في حين أن ” بنعبد العالي” لا يتوقف عنده هذا فقط، بل يباشر بالقول: « لقد سبق أن قلنا: إن الفكر الفلسفي لا ينشغل اليوم بموضوعات بعينها بقدر ما ينشغل بنفسه، ويبحث عن أصوله وكيفية نشأتها، لا عجب إذًا أن ينصب التفكير الفلسفي عندنا في مفاهيم استراتيجية ترمي إلى: مراجعة مفاهيم الفلسفة، وقضاياها، وإعادة النَّظر في التراث الفلسفي.» انظر: عبد السَّلام بنعبد العالي، التراث والهوية – دراسات في الفكر الفلسفي بالمغرب، ( المغرب- الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 1987 )، ص9.

[42] ) لقاء مع المفكر المغربي عبد السَّلام بنعبد العالي، “حول الفلسفة والترجمة، وحالهما في العالم العربي”، منصة معنى الثَّقافية، ( 2 نيسان 2020):

  • https://mana.net/6468/

[43]) عبد السَّلام بنعبد العالي، منطق الخلل، ( المغرب – الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 2002)، ص62.

[44]) المصدر نفسه، ص63.

[45])  المصدر نفسه، ص63.

وسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديدنا