أدبالتنويري

“كلاب تنبح خارج النافذة” رواية المرض النفسي والسعي للخروج من المتاهة

ما الذي تتوقعه حين تقرأ عملا يبدأ بجملة “تم تكليفكم بمراقبة هشام، ومن الآن تبدأ المهمة”، لابد أننا سنعتقد أنها رواية بوليسية، وأن ثمة مغامرة كبرى على نهج أفلام المهمة المستحيلة وغيرها، لكننا سرعان ما سنكتشف أن الكاتب تلاعب بنا، فليس هناك مغامرة ولا لغز، فثمة شخصيات بسيطة تدعونا للتعاطف معها، بدءا من هشام الذي يعاني من قصور ذهني جعله يبدو طفلا في جسد عملاق، وزميلته جيهان التي تعشق البرفانات وماركات الملابس الراقية، لندخل في أجواء عمل الموظفين بإحدى الهيئات أو المؤسسات الحكومية، ونعيش تفاصل حياة البطل أو السارد التي توزعت ما بين تلك المؤسسة وشخوصها، وبين الحي الهامشي الذي يقيم فيه على حدود المدينة، والذي أطلق عليه الكاتب مسمى “أنجريتا”، وهو المسمى الذي سيصبح عنوانا للجزء الأول من الرواية، بينما الجزء الثاني فسوف يحمل عنوان “فئران بدينة”.

وتبدو عولم النص كما لو أنها أجواء نمطية معتادة، وشخوصها نمطيين، يتوزعون ما بين أنجريتا والمؤسسة، حيث يمكننا أن نجد أربعة أماكن مركزية في النص، الأول هو بار لامبو العجوز في أنجريتا، وهو نقطة التقاء الشخوص بدءا من لامبو الذي أمضى حياته قاتلا مأجورا وقاطع طريق، وصبيه سعد الذي وجده ذات يوم على باب البار، وانتظر أن يأتي أحد ليسأل عنه، فلما لمم يأتيه أحد فقد أصبح ابنه دون ارادة منه، ورزق الله السباك الذي أمضى حياته سفرا بين بلدان النفط كي يزوج أخواته ويبني لنفسه بيتاً في أنجريتا، والسارد الذي تربطه بصديقه ثابت علاقة غريبة، فهو لا يتوافق معه، ولا يمكنه أ ينفصل عنه. لكن ثمة شخوص أخرى في أنجريتا لا يظهرون من خلال البار، أمثال ضاحي، وهو شيخ لا نعرف إن كا سلفياً أن إخوانيا، لكنه يتعامل مع الإخوان، وهو الظهير الذي يوفر لهم كل ما يحتاجون إليه، ويورد إليهم مستحقاتهم عبر شيكات باسم ثابت صديق السارد، وهناك والد السارد الذي أمضى ترك السارد وأمه المريضة سنوات طويلة للعمل في بلدان الخليج كي يعود ويهدم بيته القديم ويبني بيتا من عدة طوابق، ويجعل من مدخله الخلفي مخزنا كان سيؤجره للشيخ ضاحي، لكن السارد يأخذ المكان ويجعله سكنا له، مستقلا بنفسه عن أمه التي تعاني عدة أمراض من بينها الذئبة الحمراء.

المركز الآخر للسرد هو بيت هشام الذي بناه والده ووالدته قبل أن يموتا في حادث سير، تاركين هشام وشقيقه الأكبر (هيثم ) أمانه في عنق عمتهما، تلك التي انتقلت بابنها ياسر بعد وفاة زوجها كي تقوم برعايتهما، لكننا نعلم فيما بعد أن زوجها كان منتميا لجماعة الاخوان، ومن ثم لا يتركها صديقه المحامي، بل يسهر على رعاية مصالحها هي وياسر، ويقوم بتوظيف هشام حين يخبرها طبيبه بضرورة البحث له ع عن عمل كي لا يقتله الاكتئاب، بينما يصبح ابنها ياسر كادرا ضمن جماعة الاخوان، ويأخذ معه هيثم، شقيق السارد، ليكون ضمن جوقة التابعين له، أما المركز الثالث فهو المؤسسة التي عملت بها جهان بعدما قررت رغبت في الزواج والاستقرار، بدلا من السعي خلف الأحلام بعيدة المنال، حيث عالم رجال الأعمال الذين تداولوها فيما بينهم، ولم يعد من المتوقع أن يقرر أحدهم الزواج بها، وهي نفس المؤسسة التي عمل فيها هشام بعدما تدخل محامي الإخوان لتوظيفه فيها، ثمة مكان أو مركز رابع هو الميدان الكبير الذي سيشهد فصول ثورة يناير و30 يونيو، والذي سيتواجد في كل من السارد وصديقه ثابت وجيهان وهشام.

لكن المدهش أن الكاتب تلاعب بنا بالفعل، فمع نهاية الجزء الأول من الرواية سوف تتكشف لنا خيوط المؤامرة التي أدارها بعناية على مدار صفحات روايته، فكل الشخوص مريضة وتعاني من اهتزازات نفسية، بدءا من السارد وثابت وجيهان وهشام، وحتى الذين لا يعانون من ارتباك نفسي فقط سقطوا في بئر الارتباك الجسدي، فلامبو قاطع الطريق كان قد سقط أسفل قطار في أثناء هروبه من مطارد ذوي قتيل له، فأضاع القطار منه ساقا وذراعاً بالتبادل، بينما رزق الله يعاني من قصر في إحدى ساقيه، وسعد يعاني من السمنة وربما الخنوثة، أم السارد تعاني من ذئبة حمراء وعدة أمراض أخرى، ولا يختلف عن ذلك الشيخ ضاحي ولا الشيخ ياسر ابن عمة هشام، ولا شقيق هشام نفسه، فجميعهم مصابون بمرض الفكر السلفي، والجمود الفكري عند القرون الأولى من الحضارة الإسلامية، وهو أمر أشبه بالقصور الذهني الذي يعاني منه هشام وشقيقه، فكلاهما توقف نموه الذهني عند سن الحادية عشر م عمره.

أين يكمن التلاعب إذاً؟ تبدأ الرواية في فك خيوطها وفضح ما استغلق منها، إذ نجد أنفسنا أمام مستوى آخر يجعلنا نعيد قراءة الجزء الأول من جديد، خاصة حين نعرف أن ثابت والسارد هما شخصية واحدة، وأن ثابت الذي يقوم برواية أو كتابة الجزء الثاني، كنوع من الرد على مزاعم وتصورات الكاتب في الجزء الأول، هو نفسه السارد، أو هو الهوية الثانية من السارد الذي يعاني من مرض تعدد الهويات المتفارقة، حيث تعيش كل شخصية من شخصياته في عالم خاص بها، ولا تظهر إلا في وقت اختفاء الآخر، لكن ظهوره قد يكون سريعاً، وله علامات صغيرة في الحضور، كان ثابت يمثل الجانب القوي الجريء المنفتح على العالم، بينما السارد كان شخصا ودودا وعاطفياً، حتى أننا يمكننا أن نتنبأ بأفعاله، بينما ثابت فإنها يفاجئنا دائما ولا نستطيع التكهن بما قد يأتي به.

تكمن خدعة التلاعب في أننا سنتصور في المستوى الأول لقراءة النص أن السارد يروى عن الآخرين وليس عن نفسه، لكننا سنكتشف أنه كان منشغلا بنفسه، والحوار معها، ونكتشف أيضا أن البطل الذي هو السارد وصديقه ثابت قد قام بقتل كل من هشام وعمته ورزق الله السباك، وأنه الذي أوقع بالفتنة بين لامبو وضاحي، مما جعل ضاحي يحرق بار لامبو، وجعل لامبو يتوع ضاحي بالقتل، وبالفعل ينفذ وعده، حتى أنه يحرق جثته أمام قبله، ثم يرش على نفسه وعلى جثة ضاحي بنزيما، ثم يشعل النار في نفسه والجثة، ويطلق النار على رأسه، لتنصهر الجثتان معاً، ويضطر الناس أن يدفنون القاتل والمقتول معا في مقبرة واحدة، دون القدرة على الفصل بينهما.

تبدو رواية موسى بسيطة ومسلية، لكننا سرعان ما نجد أنفسنا أمام مستويات أعلى من ذلك في قراءتها، وهو ما يعيدنا لرسم خرائط الشخوص وأماكن مجالهم الحيوي، كي نعرف لماذا تصرفوا على هذا النحو، ولنعرف المصائر المتشابكة لهم جميعا، ويبدو موسى متعاطفا بشكل واسع مع شخوصه، وهو في غالبيتهم من الفقراء، ولعلنا نسأل أنفسنا إن كانت هذه الرواية عن المرض النفسي الذي أصاب الجميع بعد الهزة العنيفة التي أحدثتها الثورة للمجتمع المصري ككل، أم أنها عن قاتل متسلسل قام بعدة جرائم دون أن يتم اكتشافه، أم عن الصراع بين السلطة والاخوان والشعب الذي فقد كل شيء بينهم، وهل يمكن اعتبارها روايتين، حيث تجيء الأولى على لسان السارد، بينما يجيء الجزء الثاني على لسان ثابت. أم أنها عمل واحد مركب، نظرا لأن الشخصية البطل مركبة من أكثر من شخصية، ولكل منها أبعاده وعوالمه، وبطولاته الخاصة، ومن ثم فالجزء الثاني تظهر فيه كثيرا اعادة حكي بعض الأجزاء من الجزء الأول، لكنها تأتي من وجهة نظر ثابت، ورؤيته تجاه ما رواه المؤلف في الجزء الأول، وهكذا نتوقع أننا أمام رواية أصوات، لكنها ليست رواية أصوات، وإنما رواية المرض النفسي، والبحث عن مخرج من الهلاوس والضلالات التي يعيشها الجميع.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة