الحياة كفلسفة؛ الأوديسة الفكريَّة لـلدكتور عبد الجبار الرفاعي

image_pdf

سبعينية الرفاعي – قراءات في مشروع تجديد الفكر الديني عند عبدالجبار الرفاعي.

د. فاطمة الثابت[1]

جسَّدت السيرة الذاتية لعبد الجبار الرفاعي، “مسرات القراءة ومخاض الكتابة: فصل من سيرة كاتب”، الرحلة الفلسفية للذات الفاعلة، كما تصورها عالم الاجتماع آلان تورين. وعلى النقيض من المفاهيم التقليدية للهوية، التي غالبًا ما تصورها باعتبارها بنية ثابتة أو مفروضة من الخارج، تتميز الذات الفاعلة لتورين بقدرتها على التأمل والاختيار والتصرف داخل العالم الاجتماعي، والتفاوض باستمرار على مكانها ومعناها في سياقات مختلفة.

إن قصة حياة الرفاعي هي مثال حي على هذه الذات الديناميكية والمتطورة. لا تكتفي سيرته الذاتية بتوثيق أحداث حياته؛ بل إنها تسلط الضوء على الدور النشط الذي لعبه في تشكيل هويته من خلال الانخراط المتعمد في القراءة والكتابة. من نشأته الريفية، حيث كان الوصول إلى الكتب محدودًا، إلى ظهوره كمفكر عميق التأمل في المشهد الثقافي النابض بالحياة في بغداد، كانت رحلة الرفاعي رحلة بناء ذاتي مستمر.

إن سعيه الدؤوب وراء المعرفة، وقراءته الانتقائية والمتعمدة، ودمج تجاربه الفكرية والعاطفية في كتاباته، كلها تعكس ذاتًا تشارك بنشاط في خلقها. بالنسبة للدكتور الرفاعي، فإن الحياة هي استكشاف فلسفي – رحلة مستمرة حيث تساهم كل تجربة، وكل كتاب، وكل تأمل في العملية المستمرة لتحديد وإعادة تحديد هويته. سيرته الذاتية ليست مجرد سجل لماضيه؛ إنها شهادة على فلسفة الحياة التي عاشها بهدف وفضول فكري.

وبالتالي، فإن سيرة عبد الجبار الرفاعي تشكل دراسة حالة قوية لكيفية عمل الذات الفاعلة كما وصفها تورين، في العالم الحقيقي. ويسلط الكتاب الضوء على دور المشاركة الفكرية والثقافية في عملية تكوين الذات المستمرة، يقدم الدكتور عبد الجبار الرفاعي استكشافًا مقنعًا للعلاقة المعقدة بين القراءة والكتابة والهوية الذاتية، يقدم هذا الكتاب أكثر من مجرد لمحة عن حياة الرفاعي؛ فهو يقدم تأملًا عميقًا حول كيفية تقاطع العوالم الفكرية والشخصية لتشكيل هويتنا، من خلال تجاربه يفترض الرفاعي أن القراءة ليست مجرد فعل استهلاك بل هي عملية نشطة تعيد كتابة قصتنا الذاتية. تتعمق هذه المقالة في كيفية تطور هذه العملية في رواية الرفاعي وما إذا كانت القراءة تمتلك بالفعل القوة التحويلية لإعادة بناء هويتنا.

دور القراءة في تشكيل الهوية

تتميز حياة الرفاعي المبكرة، كما يصورها الكتاب، بالبساطة التي تعكس نشأته الريفية. ففي هذه السنوات التكوينية، كان تعرضه لمواد القراءة محدودًا، حيث اقتصر بشكل أساسي على الكتب المدرسية وعدد قليل من كتب القصص. يروي الرفاعي: “لم أر كتابًا في المرحلة الابتدائية غير الكتب المدرسية، ولا أتذكر أنني رأيت كتابًا في منزل أي شخص في قريتنا لم يكن المزارعون من جيل آبائنا يقرؤون ولا يكتبون” (ص 13). عكست هذه البيئة الأدبية المقيدة، القيود الثقافية والفكرية الأوسع نطاقًا في ذلك الوقت والمكان، حيث كانت معرفة القراءة والكتابة نادرة وكانت آفاق النمو الفكري ضئيلة.

ومع ذلك، حدث تحول كبير عندما انتقل الرفاعي إلى بغداد في أوائل السبعينيات لمواصلة دراساته. كانت العاصمة، بتراثها الفكري الغني وأسواق الكتب الصاخبة، وخاصة في شارع المتنبي، تشكل تناقضًا صارخًا مع بساطة حياته القروية. لقد كان هذا التحول بمثابة بداية انخراطه العميق في القراءة، والتي تطورت تدريجياً من مجرد هواية إلى حجر الزاوية في هويته الفكرية. يصف الرفاعي لقاءاته المبكرة مع ثروة الكتب في بغداد بإحساس بالرهبة: “بعد انتقالي للدراسة في بغداد عام 1973، بدأ تراكم الكتب في النمو، وأصبحت مساحة الصندوق ضيقة مع الكتب المضافة” (ص 44).

كان هذا التحول من الندرة إلى الوفرة في الوصول إلى الكتب يعني أيضًا تغييرًا أعمق في وعي الرفاعي. لم تعمل الكتب التي قرأها على توسيع معرفته فحسب، بل لعبت أيضًا دورًا حاسمًا في تشكيل نظرته للعالم. يقول: “ليس من المهم كم يقرأ الشخص، ما هو مهم هو جودة ما يقرأه، وكيف يتلقى ما يقرأه، وقدرة عقله على تمثيله وتوظيفه، وظهور تأثيره على نمط تفكيره وشخصيته وسلوكه” (ص 29). يسلط هذا المنظور الضوء على الطبيعة الانتقائية والتحويلية للقراءة، حيث يمكن لجودة وعمق الانخراط في القراءة أن يغير بشكل أساسي تصور المرء لذاته وفهمه للعالم.

الكتابة باعتبارها انعكاسًا للذات

إذا كانت القراءة هي المحفز للتحول الذاتي، فإن الكتابة، في رأي الرفاعي، هي الوسيلة التي يتم من خلالها التعبير عن هذا التحول وترسيخه. تكشف تأملاته حول الكتابة كيف تعمل كأداة لمعالجة وتفسير التفاعل المعقد بين الخبرات والعواطف والرؤى الفكرية المكتسبة من خلال القراءة. إن كتابات الرفاعي ليست مجرد نتاج للمعرفة المتراكمة بل هي حوار مع الذات، وطريقة للتنقل وفهم العواصف العقلية والجروح العاطفية التي شكلت حياته. يشير بشجن إلى أن “كتاباتي هي نتاج دراسات بدأت في مرحلة مبكرة من حياتي ولم تتوقف ولن تتوقف، وتبقى كما كانت في المرة الأولى نتاج عواصف وتأملات ذهنية فرضها علي عقلي الذي لا يتوقف عن التفكير” (ص 69).

إن هذا الارتباط الحميم بين القراءة والكتابة وتكوين الهوية يضع السرد الذاتي للرفاعي في وضع فريد. فعلى عكس السير الذاتية التقليدية التي قد تركز على سرد الأحداث بشكل زمني، يتشابك نهج الرفاعي مع الأدبي والشخصي. ويصبح سرده مساحة حيث يتم إعادة كتابة الذات باستمرار، ليس فقط من خلال التجارب المعاشة ولكن من خلال الانخراط الفكري مع النصوص.. وما يميز سيرة الرفاعي في ارتباطها العميق بالتاريخ الثقافي والفكري للعالم العربي، وخاصة من خلال تأملاته حول أهمية المشهد الأدبي في بغداد.

مفهوم “القارئ الكاتب

إن أحد أكثر الجوانب إثارة للاهتمام في سيرة الرفاعي هو فكرة أن كل قارئ عميق هو أيضًا كاتب محتمل. تشير هذه الفكرة إلى أن فعل القراءة إبداعي بطبيعته، ويوفر المادة الخام التي تتشكل منها الأفكار والتعبيرات الجديدة. ترمز المكتبة الشخصية، وهي عنصر متكرر في أعمال الرفاعي، إلى هذه العملية من التنظيم الفكري والعاطفي. يصف نمو مكتبته ليس فقط كتراكم للكتب ولكن كتشكيل لمشهده الفكري والعاطفي: “تحتوي مكتباتي على حوالي 30.000 كتاب ودوريات دراسية ومجلات ثقافية” (ص 55).

في هذا السياق، فإن القارئ الكاتب هو شخص لا يستهلك النصوص فحسب، بل يتفاعل معها بطريقة تحول فهمه، وفي النهاية، هويته. لا يقتصر هذا التحول على المجال الفكري بل يمتد إلى العوالم الشخصية والعاطفية، حيث يصبح فعل الكتابة وسيلة للتعبير عن قصة الذات وصقلها. تشير رواية الرفاعي إلى أن الحدود بين القراءة والكتابة، والاستهلاك والإبداع، سائلة، حيث يعمل كل نشاط على إعلام وتعزيز الآخر.

هل تعيد القراءة كتابة سيرتنا الذاتية؟

يقدم كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي “مسرات القراءة ومخاض الكتابة ” استكشافًا عميقًا للطرق التي تشكل بها القراءة والكتابة هويتنا. من خلال كتابه يوضح الرفاعي أن القراءة ليست مجرد نشاط سلبي بل هي عملية تحويلية يمكنها إعادة كتابة قصتنا الذاتية. تصبح الكتابة بدورها الوسيلة التي يتم من خلالها التعبير عن هذه الذات المعاد كتابتها وفهمها. بهذا المعنى، تدعونا أعمال الرفاعي إلى إعادة النظر في دور القراءة في حياتنا، ليس كمصدر للمعرفة أو الترفيه فحسب، بل كأداة أساسية لاكتشاف الذات الفاعلة وتكوين الهوية. إن الذات الفاعلة ليست مجرد تمرين تجريدي للوعي؛ بل إنها مرتبطة بطبيعتها بالنضال، وهو نضال ضروري لظهور العمل الجماعي. ومع ذلك وعلى الرغم من اندماجها في النسيج الاجتماعي، تظل الذات الفاعلة تجربة فردية في الأساس، وتدافع باستمرار عن الحقوق العامة. وتتشكل مكوناتها وتترابط من خلال علاقة مع حقوق الفرد المتأصلة، إلى جانب نضالها المستمر ضد القوى المهيمنة.

وبينما نشق طريقنا الفكري، تشجعنا تأملات الرفاعي على أن نكون على وعي بما نقرأه وكيف نتفاعل معه، مع فهم أن كل كتاب لديه القدرة على إعادة تشكيل فهمنا لأنفسنا والعالم من حولنا. ومن خلال التفاعل بين القراءة والكتابة، نعمل باستمرار على صياغة وإعادة صياغة قصتنا الذاتية، مما يجعل فعل الانخراط في الكتابة تجربة شخصية وتحويلية عميقة.


[1] أستاذة علم الاجتماع بكلية الآداب في جامعة بابل في العراق.

وسوم:

اترك رد

جديدنا