كُنْ أَنْتَ؛حكمةُ الرفاعي في” مسرّات القراءة ومخاض الكتابة”

image_pdf

سبعينية الرفاعي – قراءات في مشروع تجديد الفكر الديني عند عبدالجبار الرفاعي.

*د. باسم المكيّ

من دواعي السرور والبهجة أن يساهم المرء بشهادة أو مقال تكريما للأستاذ عبد الجبّار الرفاعي في عيد ميلاده السبعين. وليس من باب المجاملة القول إنّ الرجل جمع بين دماثة الأخلاق وسِعة العلم. من عرف الرفاعي، يقف على أنّ الأخلاق ليست مجرّد مواعظ تُلقى على المنابر أو نصائح يَكتُبها النّاس في دفاترهم، وإنّما هي ممارسة يوميّة تتجلّى في سلوك المرء ومعاملاته مع أفراد أسرته وأصدقائه وزملائه وطلبته… ومن عرف الرفاعي يكتشف تواضع العَالِم وتنسيبه لنتائج أعماله وتحفيزه للأقلام الشابّة والواعدة.

ليس من قبيل الصدفة أن تكون سيرته الذاتيّة ” مسرّات القراءة ومخاض الكتابة”، الصادرة عن منشورات تكوين ودار الرافدين سنة 2023، مرآة تعكس تجربة وجوده بما في هذه التجربة من نجاحات وانتكاسات وآلام وأخطاء… هي سيرة الاعتراف. الاعتراف بحقيقة الذات المجبولة على النقص والخطإ. ما أندر أن يعترف كاتب ما بنقائصه وأخطائه. وما أندر الكُتّاب الذين يمتلكون جرأة مراجعة ما صرّحوا به من أفكار بان عبر الزمن تهافتها. ولهذا جاءت سيرة الرفاعي فريدة “على غير مثال” لا تشبه غيرها من السير. فلم تغرق في سرد تفاصيل حياة كاتبها ولم تسع إلى رسم صورة نموذجيّة له، وإنّما اختارت أن تكون فصولا من تجربة صاحبها في القراءة والكتابة بهما أضفى على حياته ووجوده معنى.

سيرة عبد الجبّار الرفاعي هي سيرة البحث عن المعنى. ولا نجانب الصواب إذا ما قلنا إنّ هذا الزوج: القراءة /الكتابة هو الذي حقّق له الراحة النفسيّة وآنسه في لحظات إحساسه بوحشة الوجود وتقلّبات الدهر. فكانت القراءة/ الكتابة ملاذا يحتمي به من عسف الزمن وقسوة الحياة. وانظر في فصول سيرته، تر احتفاءه بالكتاب وتقديره له. فكان الكتاب، عنده، “خير جليس” و”أحد مهدئات الاكتئاب” (مسرّات القراءة، ص 22).

1- لذّة القراءة:

لا يعرف لذّة القراءة إلاّ من عاشر الكتاب. والكتاب في ما وصف الجاحظ هو “الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغريك، والرفيق الذي لا يَمَلُّك، والجار الذي لا يَستبطئك، والصاحب الذي لا يُريد استخراج ما عندك بالمَلقِ، ولا يُعاملك بالمكر، ولا يَخدعك بالنّفاق، ولا يَحتال لك بالكذب”. وقد خبر الرفاعي هذه الحكمة فرافقه الكتاب مذ كان صبيّا “رفقةُ الورق والكُتب استغرقت معظم أيّامي، أنفقت من سنوات عمري معها أكثر بكثير ممّا أنفقت برفقة البشر” (مسرّات القراءة، ص 7). وها هو وقد شارف على السبعين من عمره يكتب في أوّل جملة من “مسرّات القراءة ومخاض الكتابة” ” أنا قارئ قبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء” (مسرّات القراءة، ص 7). فلم تثنه تكاليف الحياة ولم يقلع عن عادة اقتناء الكتب ومعاشرتها ومصاحبتها في حلّه وترحاله.

انظر في قولته ” أنا قارئ” تراها محمّلة بالدلالات. فهو، إذ، يُعرّف نفسه، بالقارئ يعبّر عن أنّ كيانه قد نُحت عبر القراءة في الكتب والنظر في “كتاب الحياة” الكبير. وليس فعل القراءة باليسير. فهو فعل تجدّد وكسر للسائد من الأفكار وخروج عن الأطر والأسوار المغلقة. فليس أفضل من الكتاب قدرة على “نحت كيان الإنسان”. وليس أفضل من الكتاب وسيلة يتعرّف بها المرء على أفكار الآخرين. فتنفتح أمامه السُبل. وتدرك الذات حدودها وتكتشف ثراء التجربة الإنسانيّة.            

القراءة، عند الرفاعي، ” سياحة مؤنسة”. دأب عليها منذ الصغر. فكانت قصص “المياسة والمقداد، والسندباد البحري، وغزوة بئر العلم، وعنترة بن شدّاد” تحرّره من ضيق أفق قريته وتخفّف عنه وطأة الفقر والخصاصة. أدرك الرفاعي، وهو ابن قرية غاب فيها الكتاب، أنّ القراءة تمكّنه من السفر إلى فضاءات أرحب. فرحل عبر الكتاب، كما رحل السندباد، إلى عوالم متعدّدة اكتشفها رويدا رويدا فشكّلت ذاته ونحتت كيانه. وما من سفر إلاّ ورافقته متعة الاكتشاف: ” كلّما قرأت كراسة من هذه القصص يتضاعف ولعي” (مسرّات القراءة، ص 13) حتّى صار يشعر أنّ الكتاب ” يحميني من الوحدة ووحشة الحياة واكتئاب غياب الأحبّة” (مسرّات القراءة، ص 13). هكذا، صار الكتاب صديقا مؤنسا وفضاء رحبا يُحلم النفس بعوالم أفضل وأنبل.

وسرعان ما وقع أسيرَ الكتاب. وأَحبِبْ به من أسر. يقول عبد الجبار الرفاعي: “وقعت أسيرا للكتب في حياتي. أشعر بوحشة مريرة في بيت يخلو من الكتب، أحتاج الوجود الماديّ للكتب أكثر من احتياجي لمختلف الأشياء الكماليّة في البيت، وحتّى بعض الأشياء الضروريّة” (مسرّات القراءة، ص 21). فليست القراءة، عنده، ترفا فكريا وإنّما هي ضرورة وجوديّة بها تتشكلّ الذوات البشريّة وبها يُضفي الإنسان على حياته معنى يحميه من نوائب الدهر.

في القراءة، إذن، حيوات أُخَر. فكلّما ضاق عالم النّاس، فتح الكتاب لقارئه عوالم أرحب. فالقراءة فعل تحرّر. فهي التي تساعدك على كسر الأغلال. وهي التي تمكّنك من التفكير ” خارج الأطر المغلقة”. فالكُتب الجيّدة ليست تلك التي تقدّم لك حلولا جاهزة أو توهمك بالمعرفة، وإنّما هي التي تحفّزك على التفكير وتوقظ فيك روح السؤال. فليست العبرة بكثرة ما تقرأ وإنّما في حسن اختيار ما تقرأ. فـ ” ربّما تقرأ كتابا واحدا يوقظ عقلك ويجعله يفكّر بعمق، وربّما تقرأ مكتبة كاملة من الكتب الرديئة، لا تفقر عقلك فقط بل تخدره وتغرقه في حالة سبات، وتجعلك عاجزا عن التفكير العقلانيّ بأيّ شيء، إن استسلمت لما ورد فيها من أكاذيب وأوهام وخرافات” (مسرّات القراءة، ص 35).

” كن أنت في قراءاتك” هذا هو الدرس الذي يقدّمه الرفاعي لقارئه. فلم ينتصب الرجل معلمّا يقدّم للنّاس قائمة في الكتب الجيّدة والكتب الرديئة. ولم ينتصب واعظا يحثّ النّاس على قراءة هذا الكتاب وترك ذاك، وإنّما كان يرغب في أن يغامر كلّ قارئ ليكتشف متعة القراءة ويتخيّر ما يناسبه من الكتب. وتَفحصْ قوله ” ليس بالضرورة أن تكون كلّ الكتب الجيّدة المناسبة لك مناسبة لي، مسار حياتي يختلف عن مسار حياة غيري، وجيلي يختلف عن الأجيال الأخرى” (مسرّات القراءة، ص 32- 33)، تَقفْ على وعيه العميق باختلاف تجارب الذوات البشريّة. ومهما يكن من أمر، فـ ” ليس المهمّ كميّة ما يقرأ الإنسان، المهمّ نوعيّة ما يقرأ، وكيفيّة تلقيه لما يقرأ، وقدرة عقله على تمثّله وتوظيفه” (مسرّات القراءة، ص 29).

 ولمّا كانت القراءة مغامرة فرديّة، فإنّ الرفاعي حذّر قارئه من خطرين يَحسن أن لا يسقط فيهما. أمّا الخطر الأوّل فسوء الهضم. فكم من شخص تراه يلتهم الكتب التهاما ولكنّك لا تجد لمطالعاته أثرا في تفكيره وسلوكه. فلا تكون القراءة مفيدة إلاّ إذا ما أثّرت في ذات صاحبها فهذّبت فكره وصقلت شخصيته. أمّا الخطر الثاني، فأن تقرأ طيلة حياتك كتابا واحدا. فأن تقرأ في حياتك كتابا واحدا أي فكرا واحدا وتصوّرا واحدا، فأنت قد سيّجت ذاتك وحصرت عقلك وتوهمت أنّك تعرف وغفلت عمّا في الحياة من ثراء وتنوّع.

2- وجع الكتابة:

رُوي عن الفرزدق قوله في وصف وجع الكتابة: ” إنّ خلع ضرس يكون أهون عليّ من قول بيت شعر”. لا شكّ في أنّ الفرزدق اختار من الأوجاع أعسرها ليعبّر عن لحظات “المكاشفة الشعريّة”. ولعلّه لم يبالغ في وصفه هذا. فلا تكون الكتابة، عند من خبرها، إلاّ وجعا وألما. هو وجع شبيه بمخاض الولادة. يقول الرفاعي: ” الكتابة داء ودواء. قبل الكتابة أقلق، حين أفرغ منها أهدأ، بعد النشر أسكن” (مسرّات القراءة، ص 69). ووجع الكتابة مأتاه الحرص على أن يَخرج النصّ في صورة يرتضيها القارئ. ولا يُحقّق النصّ هذه الوظيفة إلاّ إذا كان نابعا من أعماق صاحبه معبّرا عن شواغل ذاته.

وإذا ما كانت الكتابة مغامرة وجودية، فإنّها، حسب الرفاعي، ” ليست عملا فرديا بحتا، كلّ كتابة حقيقيّة تختزل سلسلة طويلة من قراءة كتب متنوّعة، وكلّ ما تشبّع به وتمثّله وعي الكاتب، وترسّب في لاوعيه، لا يتكوّن الكاتب إلاّ بعد أن يقرأ كلّ شيء وينسى معظم ما قرأ” (مسرّات القراءة، ص 72). القراءة والكتابة، عند الرفاعي، فعلان متكاملان. فقد قادته القراءة إلى تجربة الكتابة. وتولّدت كتاباته من رحم قراءاته. ففي ” كلّ نصّ ترقد طبقات من نصوص” (مسرّات القراءة، ص 73). وكلّ نصّ هو سنفونيّة من الأصوات المتعدّدة والمتناغمة.

وأمر الكتابة، عند الرفاعي، أجلّ وأخطر من نقل المعارف أو إنتاجها. فالكتابة، في نظره، اعتراف أو لا تكون. اعتراف بحدود الكائن البشريّ. فليست غاية السيرة أن يرسم الكاتب لنفسه صورة البطل الأسطوري أو الملاك المنزّه عن الخطإ. ” أصدق سيرة ذاتية قرأتها وتعلّمت منها ما كانت مرآة لذات كاتبها، وما اعترف كاتبها فيها بطبيعته بوصفه بشرا لا ملاكا، وتحدّث عن شيء من ثغرات شخصيته، وأعلن عن شيء من وهنه وعجزه، وندمه عل أخطاء بعض أفعاله وآرائه، بموازاة حديثه عن مزاياه ومنجزاته ومكاسبه ومواهبه” (مسرّات القراءة، ص 81). تكون السيرة، بهذا المعنى، صادقة. فلا تسعى إلى أن ترسم لصاحبها صورة ” الشخصيّة النموذجيّة”، وإنّما تروم أن تنقل إلى القارئ تجربة حياة إنسان بما في تلك التجربة من فرح وألم وشجاعة ووهن وانتصار وفشل…

والكتابة قبل كلّ شيء تحرّر من كلّ وصاية. وهي تحرّر من الأفكار السائدة والموروثة. فأن تكتب يعني أن تتخلص من كلّ قيد مهما كان هذا القيد. فلا يكون عمل الكاتب مثمرا إلاّ إذا نجم عن عقل ناقد وذات قد انعتقت من سلطة الموروث سواء أكان موروثا اجتماعيا أم دينيّا أم فكريّا. وهكذا، فإنّ الكتابة مغامرة هدفها ” أن يلتمس الإنسان الضوء الذي يهديه إلى الطريق (…) من يعجز عن اكتشاف طريقه بنفسه يعجز عن الإبداع. عندما يقودك دليل يعرف الطريق من دون أن تكتشف بنفسك الطريق، ستضيّع أثمن تجربة اكتشاف في حياتك” (مسرّات القراءة، ص 77). وكم هي عميقة ودقيقة هذه الحكم! فلا حريّة إلاّ لمن جرّب وأخطأ ثمّ أعاد الكرّة مرارا حتّى وصل إلى طريقه الخاصّ. فليس أعذب من هذه المغامرة التي يعتمد فيها الإنسان على عقله ويكتشف فيها ذاته. من لم يغامر بحثا عن طريقه الخاصّ لن يكتشف ذاته ولن يفهم جوهر كينونته. “إنّ أفضل الطُرق تلك التي تخطّها بنفسك في الصحراء. إذا سرت على خُطى من سبقك، لن تدركه البتّة“. هذه حكمة رجل من الطوارق، سكان الصحراء، لا نراها تختلف عمّا كتبه الرفاعي، بل نراها تتفاعل معها لتقول لنا: ” كُنْ أنت“.

” كن أنت” تلك هي حكمة الرفاعي. “كن أنت في ما تكتب”. لا يقدّم لك صاحب “مسرّات القراءة” وصفة جاهزة ” لا أقدّم أيّ توصيات، لست وصيّا على إرادة أحد، يهمني تحرير العقل من الوصايات مهما كان القناع الذي تتلبس به” (مسرّات القراءة، ص 79)، وإنّما يحثكّ حثّا على الحريّة والمسؤولية في اختيار طريقك.

” كن أنت” في اختيار طريقك. إنّها لمتعة أن يشقّ الإنسان لنفسه طريقا متفردا ومسلكا وعرا ينحته بين الصخور وفي التضاريس الصعبة.

” كن أنت” لأنّك إذا ما أردت أن تسلك طريق غيرك، فإنّك ستعجز، لا محالة، على اللحاق به.

——————

   د. باسم المكيّ (كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس/ تونس)

جديدنا