رجلٌ يلوّحُ بالحلول؛ تحيَّة للدكتور عبد الجبار الرفاعي في عامه السبعين

image_pdf

سبعينية الرفاعي – قراءات في مشروع تجديد الفكر الديني عند عبدالجبار الرفاعي.

د. عبد الحميد الصائح[1]                       

يدخلُ الدكتور عبد الجبار الرفاعي عامَه السبعين، العامَ الذهبي لأيّ صانع رأي ٍ أو منتج فكر وفن وإنجاز علمي أو إنساني، يرى بعدَه تماماً أثرَ رسالتِه في الناسِ والتاريخ، ويكونُ شاهداً على نفسِه فيما ابتكرَ وجادلَ وأثارَ من اشكالاتٍ وفكّكَ من عُقد. تعلمّ وعَلمّ وتطور أو غيّر من أفكار لم يجد لها تطبيقاً يدعمُها. السبعون بيتُ الحكمةِ الكبير أطالَ الله في عمر استاذنا الرفاعي ليواصل عطاءه أمينا على ما أنجزه خلاله.

سمعت عن الدكتور عبد الجبار الكثير قبل أن اقرأه بجدية، كان حضورُه كثيفاً بين العراقيين الأصدقاء خاصة الإسلاميين الذين التقيتُهم بعدَ خروجي من العراق بدايةَ تسعينات القرنِ الماضي، لفت انتباهي كثرةُ وتنوعُ الاستشهادات بمقولات ومقالات وأحداث ومواقف قالها الرفاعي، أو كان طرفاً فيها في وقت لم ينجز كتبَه الأساسية التي مثلت فلسفته فيما بعد.

على الرغم من حيّز المودةِ الذي كنتُ أكنّه للرفاعي عن بعد، ربما بتأثير الأصدقاء وجنوبيته، فهو ابن الرفاعي والناصرية، التي كان لها ثقلٌ مدوٍّ في فرنِ الحنين الكبير الذي دخلتُه، وكونِه من العامّةِ الفقراء الذين يدخلونَ محرابَ الفكر الديني الذي بقي حكراً على أبناء العوائل والمدن المقدسة. ظل الاقترابُ من آراء الرفاعي أو التسليم بجدواها مشوباً بالحذر، وذلك – بصراحة – لكوني من المتعلمين المتابعين الذين تحيطهم الشكوك، لا أطمئن لما يُكتبُ في الدين الا نادراً، حيث لا أرى في الأمر جديدا، بل تراكم من الأدلة والتأويلات لتكريس اتجاه واحد. جعل من الاستثنائيين الذين يتجاوزون الخطوط الحمر في هذا الاتجاه نجوما وفرسانا لا مجال لذكرهم هنا، وقد حاورهم الرفاعي في كتبه وحلل أقولهم. وهو أيضا جدل ليس جديدا بشأن الفلسفة المجردة ومنطق رجال الدين او مثقفيه، والجماعات المتصارعة ملحدها ومؤمنها، فضلا عن اثارة الحديث عن الفرق بين الباحث التجريبي والفيلسوف الذي ينتج الأسئلة بحثا عن اليقين، والباحث المؤمن الديني الذي ينطلق بشكل معاكس، أي من يقين مجرب مؤكد لديه يعمل على تكريسه بأدلة يفترضها اجابات على الأسئلة الأساسية.

بإزاء هذا المعيار كانت الصورة ملتبسة لدي كمتابع للرفاعي الذي توقعته قبل أن اقرأه مجرد  باحث من  منظّري الإسلام السياسي ومثقفي الاحزاب الدينية، حتى قرأت كتبه بعد ذلك، وتشرفت بلقائه في منزل صديقنا المشترك سماحة السيد مضر الحلو واهدائه كتاب بعنوان ثوري: (إنقاذ النزعة الانسانية في الدين، 2012)، الذي غيّر عنوانه في الطبعات اللاحقة الى: (الدين والنزعة الإنسانية، 2019)، ثم أصدر: (الدين والظمأ الأنطولوجي، 2015)، الذي اعتمدته فيما بعد مصدرا من مصادر اطروحتي للدكتوراه، وتوالت مؤلفاته في سنوات لاحقة، فأصدر: (الدين والاغتراب الميتافيزيقي، 2018)، (الدين والكرامة الإنسانية، 2021)، (مقدمة في علم الكلام الجديد، 2021)، (مسرات القراءة ومخاض الكتابة، 2023)، (مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث، 2023).

كأني اكتشف رجلاً يحمل بيده حدائق ملونة ويلوّح بالحلول، في أكثر منطقة وعرة محرمة مقفلة في حياتنا على الاطلاق، أزمة العقل وأزمة الدين في عالمنا العربي تحديدا، منطقة النزاع الذي لم ولن يحسم بين الايمان والالحاد بين المادية والمثالية، بين الدين اليومي ودين الرهبان. وهي معادلات حكمت طروحات كثيرة في سياق محنة الحوار وتراكم الأدلة والمعلومات والخلافات التي تقع بين حقلين متلاصقين متباعدين!

يقدم الرفاعي رؤيا جديدة لفلسفة الدين، تعتمد العقلَ في بحث وتحليل المقدسات والمعتقدات والظواهر الدينية وتفسيرها، بدل قطعان التوحش والتطرف التي بدأت تخرج لنا من النصوص وتفسيراتها العنيفة. ليقرر بشجاعة أنّ الدين لا يمكن أن يكون ايديولوجيا، وانه خيار بشري، وسعي ذاتي يبدأ من الانسان باتجاه الغيب وليس العكس. انه خيار وجودي وليس انتساباً غرضياً، وهو ينطوي على تمجيد للحياة والخير، أكثر من الفهم المغلوط الذي يرى الدين دائما حديثاً في الموت. تصبح مهمة الرفاعي هنا البحث تحت مظلة (معنى الوجود في هذا العالم)، وليس (البحث عن سبب الوجود في العالم) وهما مظلتان مختلفتان بين طاقة الابداع والحب الالهي العميق في فضاء الاولى، وقيود الجدل الوجودي المستهلك المغلق مع شحة الأدلة عن الاثبات والنفي تحت المظلة الثانية.

وإعادة تعريف الدين الى منطقته البدائية الروحية الأولى بوصفه ارتواء بعد ظمأ، بدل مهمة تسيس الدين الذي أفلت من مداره الطبيعي ليدخل في مدار التوظيف والتخويف والعنف، حتى يكاد يكون عبئا على الانسان، لا متنفسا وسلاما داخليا له. وحقن شراسة الاختلاف بوحدة الهدف وواحدية الحقيقة، فالحقيقة واحدة في ذاتها الا انها نسبية في معرفتها حسب علم الكلام الجديد الذي يتبناه الرفاعي وينظّر له.

كان الرفاعي أبعد من باحث، كان محاربا من أجل انقاذ الانسان والدين معا من القطيعة وانحراف الهدف. فلسفة الرفاعي الجريئة لم تكن دعوة دينية معتادة، بل بحث عن عقد روحي آمن، في عالم من الخيال الحر في حضرة الخالق، الخالق الذي لا يمكن لأحد كشف أسراره وعالمه.


[1] كاتب عراقي.

جديدنا