التنويريفكر وفلسفة

أقنعة فرويد؛ تأمُّلات في الأحلام التنبُّؤيَّة (3)

4- القناع الرابع: تاريخ الحالة

هو أسلوب مناهض لمنهجين شعبيين في تفسير الأحلام، هما: «الرمزية والشفرة»، اللذان حاول فرويد بشتَّى الطرق تجنُّب اللجوء إليهما فيما يخص ذلك، ومن ثَمَّ تعامل معهما في أضيق الحدود المُمكنة، فالمنهج «الرمزي» يعمل على أن يستبدل بمحتوى الحلم المُبهم في مُجمله محتوًى آخرَ مُستساغًا للعقل يتماثل مع الأول في بعض الخطوط العريضة (ص 126*)، ويرى فرويد في ذلك المنهج عوارًا حينما يُصيب التشويش لا معقولية الحلم (ص 127*)، وضرب مثالًا على ذلك، بحلم «فرعون» الذي تنبأ فيه النبي «يوسف» بوفرة الغلال في مصر لسبع سنين، ثم من بعد ذلك تحدُث مجاعة بعدد سنوات الوفرة، وكان ذلك بواسطة تأويله لرمزية «السبع بقرات السمان التي تأكلها السبع العجاف»، ولأن الإنسان يعتقد بقدرة الأحلام على كشف الغيب، ظل يؤمن بإمكانية السفر إلى المُستقبل بواسطة التفسير الرمزي الذي يعمل على فك طلاسم الحلم، لكن في النهاية ذلك الأمر مرهون بالحدس الفائق والتخمين الذي يتطلب موهبة خاصة (ص 127*(.

إذا تقنَّعت أفكار الحلم بقناع الرمزية، فهذا – بحسب فرويد – من خصائص الأحلام، لكن الرمزية ليست حكرًا على الأحلام دون غيرها، فهي أيضًا من سمات التفكير الشعبي على وجه الدقة، والتفكير اللاشعوري. نجدها في أساطير الشعوب وسردياتها المُتواترة، وتعابيرها الدارجة، وحكمها المأثورة، ونكاتها الجارية، وأغانيها، أكثر من وجودها في الحلم (ص 358*)؛ لذلك تتكون الرموز على حسب ثقافة المجتمع ولغته. ويرتد الاصطلاح على الرمز إلى ما وراء اللغة أحيانًا (ص 359*)؛ لذا نرى أنه كثيرًا ما يحتكم فرويد في تفاسيره للرموز إلى الثقافة واللغة التي تحيط بالحالم، سواء أكانت فرنسية أم فارسية أم ألمانية أم برتغالية كمثال؛ لأن في خاتمة المطاف يستمد الحالم الرموز من مادة ذكرياته الخاصة (ص 359*)، وهذا ما يعول عليه فرويد في المقام الأول. ويمكننا القول: إن لكل حالم «كتاب أحلام» خاصًّا به.

أما عن منهج «الشفرة»، فهو أقرب ما يكون إلى الخطاب المُطلسم الذي يحتاج إلى تأويل كل كلمة فيه، يحدث ذلك وَفقَ «مفتاح ثابت» يعلمه مُفسر الأحلام، ضرب فرويد مثالًا على ذلك بكلمة «خطاب»، يفسرها كُتاب الأحلام إلى «نكد»، و«جنازة» يجري تأويلها على أنها «خطبة»، ثم بعد ذلك يضع المُفسر في جملة مُفيدة ما قام على تبيانه ويسوقه إلى المُستقبل (ص 127*). وهذا يشبه إلى حدٍّ كبير التفسير بالأضداد في ثقافتنا الشرقية، ذلك ما لم يغفل عنه فرويد في كتابه «تفسير الأحلام»، وسوف نضرب في هذا الصدد أمثلة من هذا القبيل، ولكن في «القناع الخامس الأخير» الذي يُعد امتدادًا للقناع الرابع. ولقد أقحم «أرتميدوروس الأفسوسي» بعض التعديلات في منهج «الشفرة»، على رأسها: «حالة الحالم»، من طباعٍ وسيرة ذاتية، وإن كان مُتزوجًا أو أعزبَ، غنيًّا أو فقيرًا. فكل هذا يُحدث فرقًا في تأويل الحلم وليس الأخذ بمحتوى الحلم وحده1.

خُلاصة القول: رفع فرويد ثقته عن هذين المنهجين الشعبيين؛ لأنهما لا يتعاملان مع الأحلام بمنهجية علمية؛ فالمنهج «الرمزي» يرى أنه محدود ولا يصح الاحتكام إليه في شرح المبادئ العامة، أما منهج «الشفرة» فمرهون بمدى الموثوقية في كتاب الأحلام، أي: «المفتاح» (ص 129*)، ولكن فرويد يجد نفسه مضطرًّا لاستخدام منهاج يرتكز من ناحية على مُستدعيات الحالم، ومن ناحية أخرى، تجري الاستعانة بمعرفة المفسر للرموز بهدف سد الثغرات (ص 360*)، فالسبيل الأول هو الأساس الذي يستند إليه نظريًّا وعمليًّا، أما ترجمة الرمز فهي أمر ثانوي (ص 361*)؛ إذ يطلب فرويد من الحالة، إبَّان التحليل النفسي، ألا تصف شعورها تجاه الحلم في جملته، ولكنه يُقسِّم الحلم إلى أجزاء، ثم يستفسر من الحالة عن كل جزء حتى تتكشف له سلسلة من المُستدعيات المُستترة خلف الحلم. وبذلك يقترب من منهج «الشفرة» في عدم إهماله للجزئيات، ويبتعد عن المنهج «الرمزي» في ذلك الموضع (ص 132، 133*)، ومن جهة أخرى، يبتعد فرويد كذلك عن منهج «الشفرة» الذي يستند إلى «المفتاح الثابت»، عندما يغوص في أغوار الحالم إبَّان التحليل النفسي؛ فهو يرى أن «ذات الشيء» قد تختلف باختلاف خبرات كل حالم وأحواله (ص 133*).

4. 1– تفسير الرموز والشفرات

يذهب فرويد مع «كارل ألبرت شرنر Karl Albert Scherner» في اعتقاده أن الحلم يعمل على الإشارة إلى عضو الجسد والمنبه الصادر عنه وطبيعته بالرموز، وهذا يحدث بعدما يتحرر المرء من مشاغله اليومية ويخلد إلى النوم (ص 244*)2، وفي الواقع كثيرًا ما ينطوي الحلم على الرموز التي تُشير إلى أعضاء الجسد ووظائفها (ص 245*)، فيجري تصوير أعضاء الجسد التي صدرت عنها المُنبهات كالآتي:

تتخذ «الرئتان عند التنفس» رمزية الموقد المُشتعل، بما ينطوي عليه من صوت حفيف الرياح، كذلك «القلب» يتخذ الصناديق والسلال الفارغة رموزًا له، في حين أن «المثانة» تتخذ الأشياء المكوَّرة رمزًا لها، وأحيانًا الأشياء المُستديرة التي تشبه الأكياس، وإذا شاهد الحالم في المنام مبسم «الكلارينت»3، فقد يرجع ذلك إلى منبه «جنسي»؛ حيث يقوم ذلك الرمز مقام العضو الذكري، مثله مثل العصا المنتصبة أو كل ما شابه العصا (ص 245*)، في مُقابل «الحالة الأنثوية» التي تتخذ رمزية فناء ضيق تُحيط به منازل، أو كممر ناعم وأملس شديد الضيق يجري عبر فناء (ص 118*)، كذلك «رحم الأنثى» يُشار إليها بالأدراج والدواليب والمواقد والعلب والصناديق (ص 361*)، أي: كل الموضوعات المجوفة، أما «الجسد العاري» فيُشير إلى الخبز الأملس فاتح اللون، أما إذا رأى الحالم في المنام بهوًا مُرتفع السقف مقوسًا فيرمز إلى «الفم»، ويرمز السلم إلى «الطريق المؤدي من الحلق للبلعوم»، وذلك في الأحلام ذات المنبه السني (ص 244*)4، والماء يدل على وجود «منبه بولي» (ص 361*)، و«جسد الإنسان» في جُملته يُرمز إليه بالبيت وكل موضع فيه يُشير إلى عضو (ص 244*).

وعن حالة المرء النفسية والجسدية في منامه، فقد يرى أنه في حالة من التصارع المصيري على الحياة مع كلاب متوحشة أو ثيران، وكذلك عندما تشاهد امرأة في المنام رجلًا عاريًا يُطاردها (ص 118*)، يقع هذا الأمر في حالة «المنبهات الأليمة». ومشاهدة «القط» تعرب عن «مزاج سيئ» (ص 244*)، أما عن حالة «الصداع» فيشاهد المرء فوق رأسه عناكب تشبه الضفادع السامة تغطي السقف (ص 244*)، والأحلام التي تدل على وجود «مُنبه بصري» تعج بالألوان الزاهية وتنطوي على حركة فوضوية أكثر من غيرها من الأحلام (ص 246*)، وإذا لوحظ وجودٌ لوحلٍ في الطريق، فهذا قد يشير إلى «مُنبه معوي»، أو زبد البحر فقد يُصرح بمنبه «البولي»، فالترميز لا يوحي فقط بالشكل الخارجي للعضو بل بمحتواه أيضًا (ص 118*)5.

وحالة «الهيلة» يُرمز إليها بالسقوط، ولدى الإناث قد تُعرب عن الوقوع في الحب والاستسلام له، وعند الصغار يستحيل أن تجد طفلًا إلا وقد سقط فعليًّا على الأرض، أما عن حالة الشخص الذي كان «يُبلل فراشه في صغره» فيشار إليها بالسباحة وشق الأمواج في سعادة غامرة، وفي ذلك استعادة لحالة من اللذة في أحلامه عند الكبر. ورمزية الحريق ترجع إلى التشريع الأخلاقي الموضوع للصغار «ألَّا يلعبوا بالنار حتى لا يبللوا فراشهم» (ص 399*).

وهناك طائفة كثيرة من الأحلام تُعبر عن «حياة الحالم الجنينية والإقامة في رحم الأم والولادة»، وفيها يمر المرء من خلال أماكن ضيقة ويمكث بالماء، والخروج من الماء كذلك قد يعني «الولادة» (ص 403*)، كما هو الحال في الأساطير. مثلما أشرنا من قبل في قضية «الرمز» والعلاقة الوثيقة بين الأحلام والأساطير، ففي تلك الأخيرة يصور «الخروج من مياه الرحم عن طريق القلب، أي: في صورة الدخول إلى الماء» مثلما حدث في مولد «أدونيس، وأوزوريس، وموسى، وباكوس» (ص 404*)6.

أما عن أفراد الأسرة، ففي الحلم: «الإمبراطور» و«الإمبراطورة» يُمثلان أبوي الحالم في معظم الأوقات، ولكن في أوقات أخرى قد يكون «الإمبراطور» تجسيدًا لشخصية عظيمة مثلما كان الحال بالنسبة لـ«هيتشمان Hitschmann» تجاه مثله الأعلى «جوته»7، أما «الأمير» و«الأميرة» فيشيران صراحةً إلى الحالم نفسه أو الحالمة (ص 360*).

4. 2– من أحلام المشاهير

نستعرض في ذلك الجزء من المقال نماذج من حلم لرجل الدولة والسياسي البروسي الألماني «أوتو فون بسمارك Otto von Bismarck»، ثم بعد ذلك نعرض مُقتطفات من أحلام عالم النفس النمساوي «هربرت سيلبرر Herbert Silberer»، مُتضمنة وجهة نظره.

يُفسر فرويد حلم بسمارك على مرحلتين، ففي الأولى «يضيق به الحال»؛ حيث إن مشكلاته ومشاغله السياسية التي تدور في خَلده على مدار اليوم رافقته في الحلم على أمل إيجاد مخرج منها، بمعنى آخر: أنه ود التحرر من قيود الواقع بواسطة الحلم؛ لذا ففي أثناء المرحلة الأولى كانت تداعبه رغبة مُستترة، ألا وهي «السفر إلى جبال الألب»، فحقق له الحلم تلك الرغبة دفعة واحدة، في لمح البصر (ص 383*). وأما في المرحلة الثانية فقد حدثت «الانفراجة»؛ حيث إنه وجد جميع رغباته مُحققة فعليًّا، مثل أنه «شن حربًا على النمسا»، فرأى الكتائب البروسية رافعة راياتها في «بوهيميا» (ص 384*). ولم يخلُ الحلم بالطبع من الجانب الرمزي، فعلى سبيل المثال: «الجواد» في المنام كان يُعبر عن «بسمارك» نفسه، وهو ما اعتاد التشبُّه به من واقع خطاباته، أما «اليسار» فهو رمزية إلى كل ما هو مُحرم8، وأتى هنا للإشارة إلى فعل «الاستمناء»، أما «السوط» فيرمز للعضو الذكري من جهة، ومن جهة أخرى «حينما ضُرب الصخر بالسوط» ففي ذلك مُماثلة مع النبي «موسى» وهو «يفجر الماء من الصخر بعصاه»، وتوجد مُماثلة أخرى في نبوءة «الأرض الموعودة» لموسى، والاقتراب من التلال والغابات لـ«بسمارك» (ص 385، 386*).

يؤخذ في بعض الأحيان على فرويد أنه يردُّ رموز الأحلام إلى موضوعات جنسية؛ حيث إنه يشير إلى العضو الذكري برمزية «القبعة» أو الرجل عمومًا (ص 366*)، وكذلك «الطفل الصغير» يرمز إلى الأعضاء التناسلية، و«السقوط تحت العربة» يُشير إلى الجماع (ص 367*)، و«المباني والسلالم والمغاور» ترمز إلى الأعضاء التناسلية أيضًا (ص 369*)، وقد يُعبر «الأشخاص» في تفاسيره عن أعضاء التناسل عند الرجل، وكذلك «المناظر الطبيعية» ولكن عند المرأة (ص 370*). رمزية «الكمثرى والتفاح» تُشير إلى صدر الأنثى (ص 377*)9، أما عن الحلم الذي يرى فيه الحالم أنه يمر من خلال «حجرات متتالية» فهو دليل على وجوده بمنزل لـ«البغاء»، وقد يعبر عن النقيض، أي: «الزواج» (ص 361*).

أما «سيلبرر» فيصرح، من خلال ملاحظته لحالته، بأنه إذا ما انخرط في التفكير بأمر مُهم في الوقت نفسه الذي يُهيمن عليه النعاس، أي: مرحلة ما قبل النوم مباشرةً، تحولت أفكاره إلى مشاهد رمزية، وضرب أمثلة كثيرة على ذلك (ص 352*)، فحينما يدور في خَلده إبان اليقظة أنه يجب عليه إعادة النظر في جزئية ناشزة من مقاله، تتحول تلك الحالة إلى مشهد يرى نفسه فيه وهو «يسوي قطعة من الخشب» (ص 352*)، أو حينما يرى نفسه وهو «يدفع سكينًا تحت فطيرة كبيرة، كما لو كان يريد أخذ قطعة منها»، فقبلها في اليقظة كان يعمل على التأكُّد من جدوى دراسات ميتافيزيقة مُحددة كان يريد الإقدام عليها، وكانت الأفكار التي استبدت به حينها هي أنه يتوجب على المرء «أن يشق سبيله في بحثه عن الوجود إلى صور أسمى من الشعور» أو إلى طبقات أرقى من الوجود (ص 352*)، فحركة السكين تعني «شق السبيل» الذي تحدَّث عنه، أما عن اختياره لذلك الرمز بالتحديد، فهو كان نتيجة لفعل قد اعتاد القيام به من حين لآخر على طاولة الطعام، أي: رفع الشريحة بسكين وتوزيعها على البقية، فـ«السكين تحت الشريحة» تعني «شق الطريق ببطء للوصول إلى الأسس»، وكانت الفطيرة في هذه الحالة من تلك النوعية التي تحتوي على عدة طبقات، أي: «طبقات الشعور والتفكير» (ص 353*)10.

نلاحظ من خلال اجتهادات فرويد التي قدمها، بجانب استشهاده ببعض النماذج من تجربة «سيلبرر» الذاتية في هذا الصدد، أنه يُبطل الغرض التنبُّئِي لمنهجي «الرمزية والشفرة»، ويردّ تلكما الظاهرتين إلى المادة الكامنة في التفكير اللاشعوري للحالم، أي: إنه يستمد تلك الصور من مخزونه الفكري الخاص. وهذا يحدث على هذا النحو لسببين، الأول: لأنها أكثر اتفاقًا مع مقتضيات تكوين الحلم من حيث إمكانية التصوير، والثاني: لأن تلك الصور قادرة على الإفلات من «الرقابة» عادةً (ص 356*).

5– القناع الأخير: تعارض الحالة الوجدانية مع المحتوى الفكري

أشرنا سابقًا في المُستهل إلى أن هذا القناع يُعد امتدادًا للقناع الرابع من حيث الرد على فكرة «التفسير بالأضداد»، ويصرح فرويد بأنه ثمَّة انفصال واضح بين «المحتوى الفكري للحلم والأثر الوجداني»؛ فهما غير مُرتبطين بعضهما ببعض؛ فقد يرى المرء موقفًا يدعوه إلى الخوف ولا يخاف، والعكس؛ وذلك لأن الفكرة تتجرد في الحلم من قيمتها النفسية كما قال «شتروميل»، وتفسير ذلك يُمكن تلخيصه في «أن محتوى الحلم مسه كثير من التحريف، ولكن الحالة الوجدانية بقيت كما هي ثابتة» (ص 458*).

ولقد ضرب فرويد أمثلة كثيرة على ذلك، ومن ضمنها أحلام «موت الأحياء» التي يُمكن تقسيمها إلى طائفتين، الأولى هي التي يشعر فيها الحالم بالحزن العميق حتى البكاء لفقدان عزيزه، والطائفة الأخرى هي التي لا يُحرك فيها الحالم ساكنًا لموت الشخص العزيز، أي: تتغمده البلادة (ص 265*)، وتلك الأخيرة عمل على تجسيدها بإتقان حلم «الخالة» الذي رأت فيه ابن أختها الوحيد «كارل» ميتًا أمامها، مثلما هو الحال لأخيه الأكبر «أوتو» في الواقع، وكان «أوتو» هو الابن المُفضل لدى الخالة، فظنت هاهنا أنها تحمل مشاعر ضغينة تجاه ذلك الطفل، أي: «تتمنى لو أنه تُوفي بدلًا من أخيه»؛ وذلك لأنها لم تشعر بحزن على موت ابن اختها ولم تُبدِ ألمًا في الحلم (ص 461*). وسرعان ما فسَّر فرويد تلك الرغبة على نحو مُعاكس، ففي اليوم نفسه الذي تُوفي فيه «أوتو» المُفضل، حضر حبيب لها ودت يومًا أن تُصبح زوجته. فذلك الحلم المرير كان قناعًا للحب الذي تحمله تجاه ذلك الرجل؛ لذلك فالحلم في ظاهره يتناقض مع الرغبة الحقيقية للحالمة (ص 177، 178، 265، 266*).

أما في حالة الحزن الشديد على فقدان العزيز في أثناء الحلم والبكاء عليه؛ ففي الواقع يُعد ذلك دليلًا على وجود مشاعر مُعاكسة للحالم يكنها للمتوفى ولم يجهر بها، ألا وهي «الرغبة في موته حقًّا» (ص 266*)، وقد يرجع ذلك لسنوات الطفولة أو في أيٍّ من فترات حياة الحالم، وليس شرطًا أن تكون تلك الرغبة مُهيمنة عليه في حاضره (ص 267*). فيزعم فرويد أن كثيرًا من العلاقات بين الإخوة، أو بين الأب والابن، أو بين الأم والابنة، كانت في إحدى اللحظات تكتنفها العداوة والبغضاء والنزاع على السُّلطة11 (ص 269*)12،وهناك أمثلة كثيرة على ذلك (ص 269 إلى 282*).

حلم آخر يُعد دليلًا على تعارض الحالة الوجدانية مع المحتوى الفكري للحلم، وفيه رأت الحالمة «ثلاثة أسود، وكانت لا تشعر بالذعر منهم»، ففي اليوم الذي سبق ذلك صادفها في موضوع الإنشاء الإنجليزي أن «اللبدة زينة الأسد»، ووالدها كانت لحيته مثل اللبدة، فهذا هو «الأسد الأول»، أما «الثاني» فيُشير إلى الآنسة «Lyons: Lions: أسود»، مدرسة اللغة الإنجليزية، في حين أن «الأسد الثالث» يرمز إلى أشعار من نَظم «Loewe، وهو الأسد في الألمانية» وقد أُرسلت إليها تلك الأشعار من قِبل واحدة من معارفها، وهذا كله بالإضافة إلى بعض المعلومات التي رأتها عن الأسود في «الصحف الطائرة»، فلِمَ تشعر الحالمة إذًا بالذعر من الأسود الثلاثة، إذا كانت بهذا المعنى؟! أما عن «تسلق الحالمة على الشجرة» فهو يُعبر عن التماثل فيما بينها وبين «الزنجي الذي تسلق الشجرة هربًا من الكلاب» في قصة قد اطلعت عليها (ص 460، 461*).

حلم أخير في هذا الصدد لرجل مُسن أيقظته زوجته لأنه «كان يضحك في الحلم بشدة»، وكان ذلك الرجل صراحةً قد استبدت به أفكار عن «الموت» قبل النوم بشدة، فتحولت على «النقيض» إبان الحلم، أي: إن فكرة الموت التي يعج بها الحلم تبدلت إلى مشهد هزلي (ص 471*).

نلاحظ في تلك الطائفة من الأحلام ما قد ينطوي على التبرير العلمي لظاهرة تفسير «الأحلام بالأضداد»، أي: إن ما يتنبأ به المُفسر في «المنهج الشعبي» وفق «مفتاح ثابت»، على أن «البكاء»، على سبيل المثال، قد يُعد إشارة إلى اقتراب «الفرج»، أو أن «القهقهة» قد تُنذر بقدوم «كارثة» وشيكة، قد برره فرويد بأن «الحالة الوجدانية تتعارض مع المحتوى الفكري، نتيجة لثبات الأولى وكثرة التحريف التي تمس الآخر».

نختتم بحلم أخير يجمع بين «القناعين الرابع والخامس» وهو لـ«فرويد» ذاته. وفيه «الأماكن التي ظهرت» هي أماكن قد رآها فرويد فعليًّا مع أخيه في أثناء رحلات قام بها في البحر «الأدرياتي» قبل الحلم بأسابيع قليلة13، أما عن «الحرب البحرية» ففي الواقع كانت تُشير إلى القلق الذي ساوره على أقربائه الذين هاجروا إلى أمريكا؛ حيث إن الحرب كانت ترمز إلى الصراع «الأمريكي الإسباني» في ذلك الزمن (ص 462*)، أما عن اللامبالاة التي كان يشعر بها تجاه «موت القائد» في الحلم، فقد تبين بعد ذلك أن القائد هو فرويد ذاته، وأتى ذلك ليُشير إلى فكرة أليمة كانت تسيطر عليه، مفادها: «ماذا سوف يحدث لعائلتي إن متُّ مُبكرًا؟»، ونتيجة لكثرة التحريف في محتوى الحلم، انتقل إحساس «الفزع» إليه فيما بعد حينما كان «قائدًا للحصن» أيضًا، ورأى «السفينة الحربية» تقترب نحوه، أي: إنه حدث انقلاب في «الحالة الوجدانية» هنا (ص 463*). أما عن «السفينة الحربية» ذاتها التي شعر تجاهها بالخوف، ففي الواقع ذكرته بأوقات ممتعة (ص 462*)، و«سفينة الإفطار» عجيبة الشكل التي ظهرت في خاتمة الحلم، حين أخذ في استرجاع تفاصيلها ذكَّرته بأشياء قد شاهدها في متاحف المدن «الإترورية» فرأى فيها صينيات من الخزف الأسود ذات مقبضين، موضوعًا عليها أشياء تشبه فناجيل القهوة والشاي، وفيما بعد تبين أن تلك الأشياء كانت عدد تواليت لسيدة إترورية بما تحويه من أدوات للزينة، رمزية «السفينة» في الحلم تعني «تواليت أسود، أي: ثوب حداد» وكانت تشير إلى موضوع «الموت» مباشرةً، أما الجزء الآخر من «سفينة» الحلم فكان يذكره بـ«القوارب الجنائزية»، إن «السفينة» على الرغم من أنها كانت في الواقع تعبر عن أسعد اللحظات، فإن أكثر الأفكار إظلامًا كانت تقبع خلفها في الحلم (ص 463، 464، 465*).

الخاتمة

إن الحلم له قيمة خاصة، بحسب فرويد، في كونه فعلًا نفسيًّا مدفوعًا برغبة كونته في نهاية المطاف، وخبرات يوم سابق تمده بأقرب مادة يبني بها محتواه (ص 246*)؛ لذا يتمخض عن كل حلم سبق ذكره رغباتٌ دفينٌ تقبع تحت ركام من السفاسف الفوضوية؛ فالغاية النهائية من حلم «المبحث النباتي» التي قامت على استثارة شتات تلك الصور الفوضوية هي «إثبات حرية الإرادة» وأن للإنسان الحق في تقرير مصيره اعتمادًا على منظوره الخاص (ص 465*). أما عن حلم «اللحية الشقراء» فكان مبعثه ذكرى نبوءة من عهد الطفولة من قِبل عجوز تنبأت لـ«فرويد» بعظم «مكانته» في المستقبل، ونبوءة له أخرى من قِبَل شيخ طاعن في السن بتقلده «منصب وزير» في المستقبل (ص 212*، 213*). وحلم «حقنة إرما» كانت الرغبة الحقيقية فيه هي «الانتقام للذات» من «إرما» ودكتور «م» من جهة، (ص 143*) وإلقاء اللوم على «أوتو» من جهة أخرى (ص 146*). حتى حلمي الذي أشرت إليه باسم «ناطحة السحاب»، كان يستتر خلفه رغبة «السفر بُغية الاستجمام في الوقت الذي منعتني فيه من ذلك وعكة صحية».

خلاصة القول: تبرز المقالات الثلاث موقف فرويد تجاه علاقة الحلم بالغيب أو قدرته على التنبؤ، الذي يُنكر فيه أن تكون للأحلام أدنى علاقة بالغيب، ويحيل كل ظواهر الحلم إلى ذاكرة المرء حتى لو كانت منسية في أغواره، بما تنطوي عليه من خبرات وصراعات نفسية، ورغبات مكبوتة.

_______

الهوامش:

1- أرتميدوروس الأفسوسي، وُلد على الأرجح في القرن الثاني من الميلاد، ووضع كتابًا ضخمًا عن الأحلام وكان يلح فيه على ضرورة الأخذ بالملاحظة والتجربة.

2- «كارل ألبرت شرنر Karl Albert Scherner» (26 يوليو 1825 – 6 يونيو 1889)، فيلسوف وعالم نفس ألماني، اختلف معه فرويد لأنه وجد أن نظريته تقوم على التبصرات أكثر من قيامها على المنهجية العلمية؛ لذلك وصفها بـ«التفسيرات الهمجية».

3– «الكلارينت أو اليراعة Clarinet»، آلة موسيقية غربية نفخية قديمة.

4- الأحلام التي تنطوي على «المنبه السني» عادةًما تنكشف في ختام الحلم، حينما يخلع الحالم سنته صراحةً، انظر (ص 244*).

5- لأمثلة أخرى انظر (ص 353 إلى 356*).

6- انظر (ص 405 إلى 425*).

7 – «إدوارد هيتشمان Eduard Hitschmann» (28 يوليو 1871 – 31 يوليو 1957)، مُحلل نفسي نمساوي أمريكي.

8- لأنه كان يمسك «السوط» بيده «اليسرى»، واليسار في تفسير الأحلام يشير إلى السبل المحرمة أو الخطأ عمومًا.

9- انظر أيضًا للأحلام (ص 371 إلى 383*).

10- لأمثلة أخرى انظر (ص 353 إلى 356*).

11- يطلق فرويد على المشاعر العدائية التي يُكنها الابن تجاه والده «عقدة أوديب Oedipus complex»، في الوقت نفسه الذي يكون فيه الابن مُتعلقًا بشدة بوالدته، وإن كان العكس، أي: إن الابنة هي المُتعلقة بوالدها بشدة، وتحمل مشاعر الكراهية تجاه الأم فتسمى حينها «عقدة إلكترا Electra complex».

12- لأمثلة أخرى انظر (ص 269 إلى 282*).

13– «البحر الأدرياتي أو البحر الأدرياتيكي Adriatic Sea»، هو بحر يفصل بين شبه الجزيرة الإيطالية وشبه جزيرة البلقان.

المصدر:

(*) فرويد، سيجموند، تفسير الأحلام، ترجمة: د. مصطفى صفوان، مراجعة: د. مصطفى زيور، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السابعة، 2023.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

كريم عبد الحميد محمد

كاتب وباحث مصري.

مقالات ذات صلة