قراءة في كتاب “الحبّ وجود والوجود معرفة” للكاتب ريبر هبون

image_pdf

 (أن تشعل شمعة خيرٌ من أن تلعن الظلام )، وأن تطلق صرخة في زمن الصمت عملٌ شجاع لا يقوم به إلا ثائر مرتبط عضوياً بمجتمعه شعبه وإنسانيته ارتباط القلب بالجسد.

في هذا الكتاب يحاول الكاتب ريبر هبون أن يشعل شمعة وأن يصرخ، أملاً في مستقبل ناصع أبيض يمحو سواد تاريخ دموي في بقعة جغرافية تسمى بالشرق الأوسط، احتوت كل شيء إلا المعرفة والوعي.

يتكون الكتاب ( الحب وجود والوجود معرفة ) من اثنين وعشرين فصلاً، يمتزج فيه الفكر بالسياسة تارة وبالفلسفة تارة أخرى في لغة ناصعة واضحة تعكس وضوح الأفكار في ذهن كاتبها.

ولعل أدق تسمية يمكن إطلاقها على ما ورد في الكتاب بالنظر إلى محتواه وأسلوب الكاتب هو البحث فالكتاب إذاً: مجموعة من البحوث الفكرية تتناول واقع الشرق الأوسط حكومات وشعوباً، وما يستشري فيه من علل وظواهر سلبية كالجهل والعنصرية والاستسلام، يرسم طريق الخلاص لشعوب مقهورة ينبغي أن يقودها ذوو الفكر والمعرفة بعد أن فشلت الأحزاب والساسة في قيادة هذه الشعوب إلى بر الأمان.

يبدأ ريبر هبون في كتابه برسم المعركة الضارية التي كانت وما زالت بين المعرفيين والسلطات المستبدة التي تدعمها في حربها إعلام بلا أخلاق ما انفك يشوه الوقائع في غفلة عن مجتمع يفتقر إلى النقد والغربلة.

يلقي الكاتب في استعراضه لواقع التنظيمات الكوردستانية الضوء على ظاهرة اختراقها استخبارتياً، ويؤكد على تشبعها بالموروث الاستبدادي، الأمر الذي يضع هذه التنظيمات في خط مواجهة مباشرة ضد كل ذي معرفة، كما يضع الإعلام المتحالف معها في تلك المواجهة أيضاً.

بنظرة تحليلية تغوص عميقاً في الوقائع يربط الكاتب ما تمت تسميته بالربيع العربي بأطماع اقتصادية لأمريكا وروسيا ودول الجوار الإقليمية المتصارعة فيما بينها؛ ذلك الربيع الذي علّقت عليه في بداياته الشعوب المقهورة والمعرفيون التنويريون آمالاً في الحرية والتقدم والازدهار تطوي عصوراً من الظلام في ذلك الشرق البائس، لكن الآمال خابت وبقي الواقع كما هو ظلم وجهل ومعاناة.

 يستشهد الكاتب في عرضه لواقع ذاك الربيع في سوريا مثلاً بشيوع النزعة الطائفية والعرقية التي كنا خير شهود عليها إبان ما سمّاه بعض الحالمين بالثورة.

أمام واقع كهذا لابد من ثورة يحمل لواءها المعرفيون الذين عليهم أن يتخذوا من  الكتابة المسؤولة وسيلة لمواجهته وتغييره من خلال رسائل إنقاذ وإيقاظ إلى الشعوب التي تعرضت لعمليات غسيل أدمغة بوسائل ميكافيلية خبيثة، قام فيها رجال الدين بدور بارز، جاء في الصفحة 41 من الكتاب: ( فالسلطة قامت بتلقين بعض فئاتها حب التبعية والمحاباة، وكذلك عمدت عبر رجال الدين إلى جعل الطاعة العمياء للمرؤوسين من طاعة الرب ).

يتقاطع فكر الكاتب في حديثه عن سياسة السلطويين المستبدين مع أفكار الكواكبي الذي فضح ممارساتهم وطبائعهم قبل قرون، فيرى كما رأى الكواكبي أنّ السلطوي ( لا يلجأ إلى محاولات الإصلاح؛ لاعتقاده أن ذلك اعتراف مبطن بخوفه من الشعب ص 56 ).

يعطي الكاتب حيزاً كبيراً في كتابه للتطرف الذي يعادي كل نهضة اجتماعية معرفية صحيحة، فيستنطق التاريخ القريب الذي شهد مقاومة الكورد في سوريا والعراق لتنظيم داعش الإرهابي، انطلاقاً من حافز المعرفة المتجسد بوعي المقاتلين بسلبيات التطرف ونتائجه الكارثية على الإنسان وحياته، مؤكداً على تورط الأنظمة المباشر في إشاعة الإرهاب بقوله: ( فالأنظمة القمعية تهدد دوماً بأن بديلها هم الإخوان والتنظيمات الإرهابية المرتبطة بالقاعدة ص 81 ).

ويرى الكاتب ارتباطاً وثيقاً بين العنف والمقدس، فيقول: ( ارتباط القداسة بالعنف يعتبر أصلاً للشرور، هذا الإيمان الأعمى وضع العقل في معتقل ص 101 ).

وكثيراً ما يعيد التاريخ يعيد نفسه حين لا نستفيد من دروسه؛ فانقسام الحركة الكوردستانية اليوم تكرار لانقسام الكورد قديماً بين الإمبراطوريتين المتصارعتين العثمانية والصفوية، الصراع السني الشيعي، والشعب الكوردي هو الضحية.

يرى الكاتب أن الأدب والفن إذا تحزّبا انفسدا؛ لأن الإيديولوجية والإبداع لا يلتقيان ( تفسد السلطة الحزبية الأدب والفن ص 110).

أمام واقع متشرذم كهذا يرى ريبر هبون أن الأدب وظيفته ردم الهوة الروحية بين الجماهير الكوردستانية وتوحيدها بعد عجز الأحزاب السياسية الكوردسانية في تحقيق ذلك. ( ص 111).

وفي الكتاب تمجيد للعقل والإنسانية في مواجهة العرق والقومية، فقد ورد في الصفحتين 120 – 121 قوله: ( الرابطة العقلية وليست الدموية هي التي تجمع المعرفيين والمبتكرين والأدباء والفنانين بعيداً عن العنصرية، إنها الرابطة المنتجة للإبداع والجمال والخير والحب، وتسعى لوضع الاقتصاد في خدمة الأمن والسلام بدلاً من الحرب والخصام في مختلف بقاع الأرض ).

ومن واجب المعرفيين أيضاً أن يعملوا على نشر القيم الإنسانية ويزرعوا بذرة النقد في العقول (  المعرفيون أقدر اليوم على تهذيب حالة الشره التي تعمي أبصار الناس وتحرض فيهم غريزة الاستحواذ والملكية من خلال زرع الخير وحب العمل في النفوس بدلاً من العنف والكسل… ومن خلال تحريض العقول على الفكر التحليلي القادر على النفكيك والشك بدلاً من العقل الكسول الراضخ للمسلمات والغيبيات التي يحرص على استمرارها كل من السلطة والإعلام التابع لها ص 123).

وتسود النزعة الإنسانية في الكتاب، فما من سلام بين الشعوب إلا بالمحبة والتعارف ( إن شوفينية القوميين وعنصريتهم جلبت الخسائر المتتابعة لأمم لن تنهض إلا بالمحبة والتعارف ص 133).

أخيراً فإن هذا الكتاب كتاب جدير بالقراءة، في زمن قلّ فيه من يكتب في مجال الفكر، وهو وإن كان يغوص عميقاً في الفكر فإنه يتجول أيضاً في عالم السياسة، ويفتح صفحات التاريخ، ويحتوي على رؤى فلسفية، ويحلم بمستقبل يتحد فيه ذوو المعرفة – أدباء وفنانين ومفكرين – لصنع عالم جميل يسوده السلام والخير بدلاً من الخصام والشر.

جديدنا