عبد الجبار الرفاعي: الطريق الثالث

image_pdf

تحتفل (مجلة التنويري) هذا الشهر – تموز/ يوليو 2024 بسبعينيَّة المفكِّر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي، الذي ولد بجنوب العراق سنة 1954. بدأ الرفاعي قارئا نهما، واستمر راصدا يقظا حاذقا لحركة الفكر في المنطقة والعالم. وأمضى أكثر من أربعين عاما تلميذا وأستاذا ومؤلفا في حوزتي النجف وقم، إلى أن اجتهد في معارف الدين. وبموازاة ذلك تحصَّل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلاميَّة، والماجستير في علم الكلام، والبكالوريوس في معارف الدين.

منذ 35 سنة يعكف الرفاعي على مشروعه في (التنوير)، منطلقا من رؤية تجديديَّة “لا إحيائيَّة ولا إصلاحيَّة” وفقا لمفهومه للإحياء والإصلاح والتجديد. تذهب رؤيته التجديديَّة إلى الأعماق ولا تتوقف عند السطح، وتنطلق من الأصول المؤسسة في الدين، فتبدأ بعلم الكلام، بوصفه كما يرى: “نظريَّة المعرفة في الإسلام”، التي تتأسس عليها الفروع. وضع خارطة طريق لبناء هذا العلم في كتابه: “مقدمة في علم الكلام الجديد”، واقترح “إعادة تعريف الوحي” معيارا لتمييز الكلام الجديد عن القديم. وقبل ذلك وضع تعريفه للدين، بقوله: “الدين حياة في أُفق المعنى، تفرضه حاجة الإنسان الوجوديَّة لإنتاج معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفرديَّة والمجتمعيَّة”، ومن هذا التعريف انبثقت رؤيته لتجديد معارف الدين. الرفاعي مولع بالتفكيك، لكنه مولع أيضا بالبناء، فهو يفكك ليركب، ويهدم ليبني، ففي كل ما كتبه يؤكد على أنه: “ينشد إيقاظ المعاني الروحيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة في الدين”، ويحدد هذه المعاني في ضوء منهجه في تفسير القرآن الكريم. في سياق ذلك ولدت أسئلته الضروريَّة والحاسمة، أكثر بكثير مما أنتج اجابات نهائيَّة وناجزة، لأنه يرى أن: “الأسئلة الميتافيزيقيَّة لا جواب نهائيا لها”. كان الرفاعي وما زال يعمل بجهود وموارد شخصيَّة، وهو يثابر على غرس فسائل العقل بصبر وحكمة ومحبة في أرض وعرة شائكة.

 تعد مجلة قضايا إسلاميَّة معاصرة (1997- ) الرائدة، التي صدر منها 80 عددا متخصصا في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، العلامة الفارقة في مشروع الرفاعي، إذ يمكن اعتبارها سجلا ثريا لرحلته الفكريَّة من دارس ومدرس ومؤلف في علوم الدين الى مفكر معاصر في فلسفة الدين ومنظر لعلم كلام جديد، يعيد تعريف الإنسان والوحي والدين والشريعة، مشغول بأسئلة الانسان وقلقه الوجودي و(ظمئه الانطولوجي) في عصر التكنولوجيا الرقميَّة والنانو فيزيك.كما ان المجلة سجل شامل لعقود من الصيرورة الفكريَّة والمعرفيَّة لمنطقتنا في سياق تجربتها الإشكاليَّة مع (الدين في الاجتماع السياسي والحكم) وفي سياق اتجاهات التفكير الفلسفي العالميَّة، وأسئلة التحديث والحداثة وما بعد الحداثة وصلتها العضويَّة بالفكر الديني.

ورغم نخبويتها فقد تلقفت أجيال مختلفة كتب الرفاعي، الأخيرة منها خاصة، مثل: (السؤال اللاهوتي الجديد)، (الدين والنزعة الإنسانيَّة)، (الدين والظمأ الأنطولوجي)، (الدين والاغتراب الميتافيزيقي)، (مقدمة في علم الكلام الجديد)، (مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث)، (مسرات القراءة ومخاض الكتابة)، وهي مؤلفات تنتشر بشكل واسع وتعاد طباعتها باستمرار، بنحو أضحت فيه أشبه بالظاهرة الثقافيَّة.

ابتهاجا بهذه الظاهرة الثقافيَّة، واحتفاء بالقراءة والكتابة والتفلسف والأسئلة والأجوبة والتجديد تحتفل (التنويري)، بمعيَّة منصات عربيَّة اخرى، مثل جريدة (الصباح) العراقيَّة، بمسيرة الرفاعي، التي أحيت الفلسفة في زمن الإسلام السياسي، وأيقظت النزعة الإنسانيَّة في الدين، وأيقظت المعاني الروحيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة في الدين.

ستنشر التنويري سلسلة مقالات وشهادات تكريميَّة كتبت بهذه المناسبة.

المحرر

_________________

د. حسن حنفي[1]

أثناء زيارة قم بعد قيام الثورة، وبالمصادفة تعرفت على شاب عراقي في مقتبل العمر في حوزة قم، يجتهد ويفكر في مدينة الاجتهاد والتفكير. حوّل بيته إلى مكتبة، وحصير غرفه إلى منتدى فكري وقاعات للاستقبال والدراسة، على طريقة العلماء القدماء. هو وأسرته يستقبلون الطلاب. لا فرق بين منزل وجامعة، بين طعام الجسد وطعام الروح.

(مع الدكتور حسن حنفي 2002)

هو فقيه وعالم من علماء التراث، منفتح على قضايا العصر، مثل عديد من العلماء في قم الذين يحملون همّ نشر التراث، كما تفعل مؤسسة آل البيت لإحياء التراث للعلامة جواد الشهرستاني، التي أسسها وأنفق عليها، ويعمل فيها المحققون الشبان. ومثل أصحاب مكتبات التراث التي تزخر بها شوارع قم، فالدين والعلم قرينان. كما تزخر قم بعديد من مراكز الأبحاث لتربية العلماء الشبان، إقامة ودراسة،كما كان الحال في تراثنا القديم، حتى أروقة الأزهر القريبة العهد. لا يحتاج العلم إلى دولة ترعاه، أو مؤسسة تسانده، بل يكفي أن يتطوع عالم بمفرده بكل ذلك، على سنة القدماء أو ما يسمى قطّاعا خاصا أو مؤسَّسات ثقافية للمجتمع المدني. فالعلم هو الدولة، والدولة صرح يشيِّده العلماء.

بدأت الأعداد الأولى لمجلته “قضايا إسلامية معاصرة” في الصدور، تنبئ بمضمونها واتجاهها، الطريق الثالث الذي يتجاوز السلفيين والعلمانيين. وتفتح صفحاتها إلى عديد من المفكرين الجدد الذين يمثلون هذا التيار، في شكل حوارات معهم أو مقالات منهم، واضحة ومفهومة، وقادرة على إقناع القراء بما تريد. فما كنت أفكر فيه: في إنشاء مجلة فصلية “اليسار الإسلامي” ها هي تصدر في قم، بصرف النظر عن العنوان. والأفكار تتوالى بصرف النظر عن المكان، قم أم القاهرة، مما يدل على مدى الحاجة إليها وواقعيتها. فقد آن الأوان لتطوير الفكر الإصلاحي، من الخطاب الأخلاقي الوعظي إلى الخطاب العلمي التحليلي.

(من اليمين ناجي غشيم، طالب غريب عبد الجبار الرفاعي، أربيل 1976)

هو عراقي مهاجر إلى حوزة قم، بعد أن حُكم عليه بالإعدام في بغداد، أيام حكم الاستبداد السابق، ومطاردة العلماء والقادة الوطنيين. لم تكن الهجرة إلى باريس أو لندن للنضال من بُعد، بل كانت إلى قم مدينة العلم والثورة، والقريبة إلى بغداد. واستمر النضال الثقافى كأساس للنضال السياسي في أيام الثورة الأولى، التى كانت تمثل أملاً للمسلمين جميعا، خاصة في فلسطين بعد أن تحولت سفارة إسرائيل المفتوحة أيام الشاه إلى سفارة لفلسطين.

وصدرت الأعداد الأولى لمجلة “قضايا إسلامية معاصرة”، وكأنني أقرأ نفسي، لا فرق بين شيعة وسنة. تحمل نفس الهموم، قضايا “التراث والتجديد”، متجاوزة ما كان يصدر في العالم الإسلامي، في الكويت، أو في ماليزيا. تحمل همومًا ثقافية، وإن لم تشر صراحة إلى العراق أو إيران أو الثورة الإسلامية. وقد تجلى ذلك في المقابلة مع عبد الجبار الرفاعي، بعنوان “قم تسأل، والقاهرة تجيب”، مما أحزن بعض علماء قم، وكأن قم هي الحائرة، والقاهرة هي التي لديها الخبر اليقين، وهو غير صحيح على الإطلاق.كان يمكن أن يكون العنوان بالعكس “القاهرة تسأل، وقم تجيب”. فالسؤال أحيانا أهم من الجواب.

وفي القاهرة صدر العدد الأول من “اليسار الإسلامي” عام 1980 حاملاً همّ الأمة، في العراق وفلسطين وكشمير والحجاز. فلماذا لا تتعدَّد البؤر الثقافية للإسلام التنويرى على مختلف مداخله، في قم والقاهرة وفى كل مدينة ثقافية إسلامية. فالبحث جار عنه في أندونيسيا وماليزيا وجنوب أفريقيا، يساهم في تحرير الشعوب ونهضتها، وإنشاء جيل جديد يشق طريقه بين السلفيين والعلمانيين، بين القدماء والمحدثين، بين التقليديين والتجديديين، مثل “نهضة العلماء” في أندونيسيا.

وتحويل “قضايا إسلامية معاصرة” من قم إلى بغداد، وعودة مؤسسها إلى موطنه الأصلى، شجاعة كبيرة في جو العراق بعد نهاية الاستبداد، حيث الاحتلال ما زال جاثما بطريقة أو بأخرى، وما يهدد العراق من مخاطر التجزئة. فالتحرر الحقيقى لا يأتى فقط عن طريق المقاومة العسكرية للاحتلال، أو مقاومة التجزئة الطائفية والعرقية، بين الشمال الكردي والوسط السني والجنوب الشيعي، بل يأتي عن طريق العمل الثقافي على الأمد الطويل، وإعادة تفسير التوحيد بما يحقق وحدة العراق، والعدل بما يحقق العدالة الاجتماعية، والنبوة والمعاد كبعد للتاريخ بين الماضي والمستقبل، والإيمان والعمل هو الحاضر والتأثير فيه. ولا يكفى فقط إعادة قراءة العقائد، بل أيضا الأحكام الشرعية، وإعطاء الأولوية للمعاملات على العبادات. تستطيع “قضايا إسلامية معاصرة”  أن تكون منبرا للحوار الوطنى بين مثقفي العراق وعلمائه، وليس فقط بين ساسته. فالثقافة السياسية لها الأولوية على العمل السياسى.

شارك عبد الجبار الرفاعي في أعمال الجمعية الفلسفية المصرية في مؤتمرها بجامعة قناة السويس بالإسماعيلية، وهو أحد أعضائها البارزين.كان سيقدم هذا العام سيرته الذاتية، لولا أن منعته الظروف من الحضور. وهو يمثل تيارا تنويريا في العراق وإيران. كما يمثل “اليسار الإسلامى” هذا التيار في مصر. وقد أصبح هذا التيار شائعًا كموضوع دراسة في الماجستير والدكتوراه.

وما زالت هناك صعوبات أمام التيار الذى تمثله “قضايا إسلامية معاصرة”، و”اليسار الإسلامي”. كيف يمكن تحويل اجتهادات فردية في بغداد والقاهرة إلى تيار فكري، له مفكروه وطلابه وأنصاره وتأثيره؟ فما زال الاستقطاب بين التيارين الكبيرين، الإسلامي والعلماني شديدًا، لدرجة الخصومة والتناقض، بل والعداوة والعدوان. الإسلاميون يكفّرون المدنيين، والمدنيون يخوّنون الإسلاميين، لدرجة قسمة البلاد إلى فريقين متناحرين متنازعين. ونسي كلاهما العداوة الرئيسية للاستبداد في الداخل، والعدوان في الخارج، والتبعية لأمريكا، والاستيطان الإسرائيلي. ما زال كل فريق يتسابق نحو السلطة، ظانا أنه إذا حصل عليها استطاع أن يحقق برنامجه الديني أو المدني: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.

لا تتبنى الرفاعي أية مؤسسة، أو أي حزب، أو أي نظام سياسي. فما زال المنطق السائد هو منطق “إما… أو” على النقيضين، وليس منطق “معًا” أو “سويًا”، تحت تأثير حديث الفرقة الناجية، ووجود الحق من جانب واحد. بل إن الإصلاح الذى حاول التجديد والخروج من مأزق الاستقطاب كبا أكثر من مرة، بسبب اضطهاد الإسلاميين وسجنهم وتعذيبهم، فارتدوا معظمهم سلفيين محافظين.

(مع الدكتور محمد حسين الرفاعي ابنه وهاجر القحطاني ابنة أخيه عند قبر جبران خليل جبران بشري 2016)

الكل ينادي بالحل الثالث، وضرورة تجاوز الاستقطاب، لكن الواقع لا أحد يريده أو يفهمه، لأنه لا يطالب بالسلطة مطلب الفريقين المتنازعين. ويعمل على الأمد الطويل، التغيير الثقافي، والانتقال إلى مرحلة تاريخية جديدة. يتهمه العلمانيون بالإسلامية المتخفية، ويتهمه الإسلاميون بالعلمانية المتخفية. ليس له منبر يستطيع التحدث من خلاله. ما زال تيارًا فكريًا يتمثله بعض المثقفين. وهو بعيد عن الوسطية التي تنتهجها التيارات الإسلامية المحافظة، لأنه يتطلب أحيانًا الثورة والتطرف في أخذ حقوق الفقراء من أموال الأغنياء، وحقوق المستضعفين من نهب المستكبرين. لا يتعامل مع نظم سياسية، حتى لا يفقد استقلاله، ويظل تيارًا فكريًا يخاطب المثقفين، لإعادة بناء الثقافة الشعبية. هذا ما تمثله “قضايا إسلامية معاصرة” بإشراف وتوجيه عبد الجبار الرفاعي.

تحتاج المجلة إلى مزيد من التعريف والانتشار خارج العراق. وما زالت في حاجة إلى تعدد كتّابها، وعدم قصرهم على فئة واحدة. وكل شيء يبدأ صغيرًا وينتهى كبيرًا. و قضايا إسلامية معاصرة بدأت كبيرة وما زالت تكبر، بفضل صاحبها ومؤسسها وراعيها وحاميها من غوائل الزمان عبدالجبار الرفاعي.

_______

نعيد نشر هذه الشهادة تخليدًا لذكرى الصديق العزيز المرحوم الدكتور حسن حنفي، الذي كتبها بمناسبة صدور العدد 60 التذكاري لمجلة “قضايا إسلامية معاصرة”. عندما كانت كتاباته حاضرة بكثافة في المجلة، خاصة في موضوع “علم الكلام الجديد”، الذي خصصت له المجلة ستة أعداد في سنواتها الأولى، وغيره من محاور المجلة في سنوات لاحقة.


[1] مفكر مصري.

جديدنا