أقنعة فرويد؛ تأمُّلات في الأحلام التنبُّؤيَّة (1)

image_pdf

استهلال:

بالإمكان رد الأحلام إلى فئتين: الأولى هي التي تقع لتأثُّرها بوقائع الإنسان في اليقظة، وتُمثل ماضيه وحاضره، والفئة الأخرى هي التي تستبق الأحداث، ومصدرها يكون من خارج النفس. وتلك الأخيرة هي ما رفضها «فرويد» رفضًا باتًّا؛ حيث يقول: «الحلم فرع من الماضي بكل معنى من المعاني، ومع ذلك فاعتقاد القُدامى أن الأحلام تنبئ بالمُستقبل لا يخلو كل الخلو من الصدق؛ فالحلم مهما يكن من أمر يسلك بنا جهة المُستقبل؛ إذ يصور رغباتنا مُحققة (ص 602*)»، وفي موضع آخر يرى أن كل ما يُقدمه التفسير الشعبي هو الاستبدال بمكمون الحلم الغامض معنى آخر أكثر وضوحًا (ص 7X)1.

فتبعًا لـ«فرويد» فإن الأحلام ما هي إلا تحقيق رغبة، حتى إن بدت هذه الرغبة أليمة مثلما يحدث في أحلام «الهيلة»2، وحتى وإن لم تبدُ سافرة مثلما تُعبر الرغبة الطفلية عنها بجلاء، فتستتر خلف الرموز والتكثيف، وبفعل الرقابة التي ترافق الإنسان البالغ في الحلم كما في اليقظة؛ ففي خاتمة المطاف، الأحلام برُمتها تبعًا لـ«فرويد» والتحليل النفسي، هي «الطريق الملكي» لأغوار النفس البشرية (ص 110 -)؛ لأنها تنبُع من النفس للنفس.

وعلى الرغم من أن «فرويد» لم يكرِّس مساعيه لكشف اللثام عن تفسيرات لتلك الأحلام التنبُّؤيَّة في الظاهر، وفيما نما إلى علمي لم يخصص لها، تخصيصًا مُباشرًا، كتابًا أو فصلًا بحياله ليُفند من خلاله مزاعم التفسيرات الشعبية حولها، اللهم إلا أنه قد لمَّح في موضع بإتيانه لبراهين سيكولوجية تُبرر تلك الطائفة من الأحلام3، فإنني رأيت في بعض أطروحات «فرويد»، فيما يخص ظاهرة الحلم، ما هو جدير بالتأمل، وما يتسع ليُشكل براهين منطقية تتفاوت في درجة الإقناع لتفسير بعض ظواهر تلك الفئة من الأحلام؛ لذا وجب التعريف بالأقنعة التي استترت خلفها تلك الأدلة والعمل على تأملها معًا.

1– القناع الأول: الأحلام الذِّكروية

قد يُدرِج المرء الأحلام الذكروية ضمن سلسلة الرؤى التنبُّؤيَّة أو الاستباقية، حينما تُعرب عن شخص أو مكان أو اسم أو أي ذكرى يظن الحالم للوهلة الأولى أنه لا علم له بها في الواقع، وتزداد الدهشة حينما يدفع الفضول المرء إلى البحث عن حقيقةِ ما شاهدَهُ فيجد له وجودًا فعليًّا، لكن سُرعان ما تتبدل الدهشة حينما يعلم المرء أن ثمة معرفة مُسبقة قد ترجع إلى أزمنته السحيقة كعهد الطفولة الأول، فيأتي الحلم بشموليته الخارقة لإجلاء ذكريات كساها الزمان تحت تُرابه، ما كان للمرء أن يسترجعها إلا إذا كان قد دوَّنها من قبلُ في مُذكراته.

وقد ضرب فرويد أمثلة كثيرة على تلك النوعية من الأحلام، منها ما قد وقع لديلبوف Delbœuf4، وأخرى لموري Murray5، أو حتى له هو شخصيًّا؛ فالأول رأى أن فِناء منزله مُغطى بالثلوج وبه عظايتان، فأخذهما واعتنى بهما وأطعمهما نوعًا من نبات «السرخس» يُدعى «أسبلنيوم روتا موراليس»، وللحلم تكملة، ولكن ما يهُمنا هو اسم ذلك النبات الذي ينمو على الحائط، لقد ظن «ديلبوف»، للوهلة الأولى، أن معرفته بذلك النبات كانت عن طريق الحلم، ولكن حيرته زادت حينما علم أن تلك النباتات موجودة بالفعل وتُدعى باللاتينية «أسبلنيوم روتا موراريا»، لقد اكتشف حقيقة ذلك النبات بعد مرور ستة عشر عامًا حينما زار صديقًا له، فوجد عنده سجلًّا به نباتات مُجففة وتحت كل نبات اسمه باللاتينية، ومن بينها ذلك السرخس، وهو الذي كتب تلك الأسماء بخط يده، أي: فرويد، في ذلك السجل الذي سقط تمامًا من ذاكرته، ثم أرسله مع أخت صديقه (ص 51، 52*). أما عن «موري»، فلقد رأى حلمًا لرجل يرتدي بزة عسكرية في بلدته القديمة «تريبور»، وكان موري في هيئة طفل يلعب على جسر، فسأل ذلك الرجل عن اسمه فأجابه قائلًا: «س»، وعرف نفسه بأنه حارسً لذلك الجسر (ص 55، 56 *)6، ثم تبيَّن لـ«موري»، في حياة اليقظة من خادم عجوز، أن ذلك الرجل موجود بالفعل.

وشاهد فرويد في المنام رجلًا عرَّف نفسه بأنه طبيب في المكان الذي وُلد به فرويد، لكن ذلك الرجل اختلطت ملامحه مع مُدرس لـ«فرويد» ظل على علاقة به مدة طويلة، وعند يقظته حدَّث والدته بما رأى، فأخبرته بأن ذلك الطبيب كان المعالج له في صغره بالفعل، وأنه أعور مثل المدرس، وكان ذلك الأخير هو العامل المُشترك للخلط (ص 56*)، وحلم آخر راوده عن أوتو، صديقه، وكان يبدو عليه مظاهر الاعتلال الجسدي في الواقع، إلا أن حلم فرويد قد ألبسه لباس مريض «البازدوف» خصيصى، ومع تأمل ذلك في اليقظة من قِبَل فرويد رجع بذاكرته سنوات، ليتذكر أنه قابل رجلًا عليه علامات ذلك المرض، من جحوظ في العين، واسوداد في البشرة (ص 284، 285*). بجانب حلم ثالث راوده كثيرًا عن «برج» من أبراج الكنائس، تبيَّن له فيما بعدُ أنه كان يمُر دائمًا به في طريقه، ولكن سقط هو الآخر من ذاكرته (ص 54*). وهناك جُملة من الأحلام أوردها فرويد في ذلك الصدد، مثل حلم «السيدة الشقراء» (ص 53*)، و«الكونتوشوفكا» (ص 54*)، و«السيد ت» (ص 56*)، و«زاراوس» (ص 189*)، و«المُدرس والمُربية» (ص 210*).

2– القناع الثاني: المُنبهات الحسية

في بادئ الأمر، قد يتعجب المرء حينما يرى ما شاهده في منامه مُتحققًا على أرض الواقع بعد مدة وجيزة من الزمن، فيتيقَّن حينها أنه كانت ثمة رسالة من الغيب تُنبئه بحدث سوف يقع له في المُستقبل القريب، ليأتي القناع الثاني فيكشف للمرء عن جزء من ذلك الغموض، ويطرح تفسيرًا آخر مُغايرًا، هو أن ما يُرى في الحلم «قد حدث بالفعل، لكن المرء يجهل بحدوثه!»؛ نظرًا لتجلي حساسية مُفرطة للمرء إبان الحلم تُمكنه من الإلمام بخبايا حواسه. بمعنى آخر: الرؤيا الاستباقية تتنبأ بحدوث شيء «معدوم الوجود»، بحسب التفسير الشائع (الشعبي)، أما الرؤيا الاستباقية بالنسبة للمُنبهات الحسية فهي تُعرب عن اقتراب ظهور شيء «حادث بالفعل»، لكنه خفي عن الأنظار.

هناك المُنبهات الحسية الخاصة بالأعضاء الباطنية للإنسان. وتكون النفس أكثر علمًا وإحاطة في الحلم، بحيث يُمكنها أن تتنبأ بمرض، على سبيل المثال، في بداياته، وقد لا يشعر المرء به في يقظته بحسب «شتروميل» (ص 71*). فها هو حلم هيلة قد عرضه فرويد في كتابه، كان يُراود امرأة في الثالثة والأربعين من عمرها، سرعان ما تبين أن تلك المرأة تعاني مرضًا في القلب، على الرغم من ظاهرها الذي يوحي بتمام الصحة والعافية (ص 72*). فأحلام مرضى القلب تتسم بالسرعة وتنتهي بتجربة الموت في الحلم عادةً، ومرضى الرئة يحلمون بالازدحام والهروب والاختناق7، ومرضى اضطرابات الجهاز الهضمي يحلمون بالرغبة أو النفور من الطعام (ص 72*). وبهذا فمن المُمكن أن يتسنى لامرأة أن تتنبأ في المنام بحملها وهو في بداياته، على الرغم من عدم ظهور علامات الحمل عليها بعدُ، وسوف نأتي على ذكر مضمون الرمز في الحلم عند فرويد فيما بعدُ.

أما عن المُنبهات الحسية الخارجية، فالأب الذي تُوفي ابنه وترك جثته في معية رجل مُسن في غرفة ولده حتى الصباح، رأى في المنام أن ابنه المُتوفى يطلب منه النجدة لإنقاذه من الحريق، وحينما استيقظ الأب وجد بالفعل أن النار تحيط سرير الابن المتوفى. وقد تحقق الحلم بفعل الشموع التي كانت بجوار سرير الطفل حينما شبَّت نيرانها في المكان وسطع ضوءها على عينَي الأب المُغرق في النوم على كرسي أمام غرفة ولده، مع الشك المُسبق الذي كان يساوره في اليقظة عن قدرة المُسن على حماية جسد ابنه المتوفى (ص 504*)، ليتحول القلق المُسبق في اليقظة إلى واقع مُجسد ومُعايش في الحلم (ص 541*)، وقد أطال الأب الحلم رغبةً في عودة ابنه إلى الحياة حينما رآه ماثلًا أمامه من جديد (ص 68 X). وكما نُشاهد في هذا المثال، فتحقُّق الرؤيا لم يستغرق أيامًا وسنين حتى تُفسر، بل وقعت على الفور.

يُتبع..

________

الهوامش:

1- النص الأصلي «إن الحلم في نظره معنى، وهذا المعنى ينطوي على نبوءة، وحتى تستخلص هذه النبوءة من مضمون الحلم، الذي غالبًا ما يكون مُبهمًا مُلغزًا، فلا بُدَّ من اللجوء إلى بعض الطرائق في التفسير، وهذه الطرائق لا تعدو أن تكون بوجه عام استبدالًا لمضمون الحلم، كما انطبع في الذاكرة، بمضمون آخر».

2– «الهيلة» بالألمانية Angst: استخدمها فرويد للتعبير عن الخوف المُجرد، وهي في التحليل النفسي تعني الأحلام التي تقع خشية أحداث قد تقع في المُستقبل، مثل: الموت، والمرض، والفشل (ص 184*).

3– يؤكد فرويد أيضًا موقفه ذلك، قائلًا: «وأخيرًا، فما يقال عن قوة الأحلام عن الإنباء بالغيب موضع لنزاع تُقابل فيه اعتبارات لا يكاد يكون لها دفع بتوكيدات عنيدة معادة، ولا شك في أننا نُحسن صُنعًا إذا تجنبنا إنكار كل سند من الواقع لهذا الرأي؛ فقد نوفق عمَّا قريب إلى تعليل سيكولوجي طبيعي لطائفة من الحالات» (ص 99*).

4-جوزيف ريمي ليوبولد ديلبوف Joseph Rémi Léopold Delbœuf عالم نفس تجريبي من بلجيكا.

5– هنري ألكساندر موري Henry Murray عالم نفس أمريكي بجامعة هارفارد.

6- هناك حلم آخر لـ«موري» ذكروي ولكن لم يتيسر معرفة جذوره للكشف عن كلمة «موسيدان» التي راودته كثيرًا في اليقظة والحلم معًا، وهي بالفعل مدينة في فرنسا. انظر (ص 52*).

7- عادةً ما يحلم «بصعوبة في التنفس» أصحاب الأمراض القلبية والأمراض التي تُصيب الرئة (ص 254*).

المصادر والمراجع:

(*) فرويد، سيجموند، تفسير الأحلام، ترجمة: د. مصطفى صفوان، مراجعة: د. مصطفى زيور، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السابعة، 2023.

(x) فرويد، سيجموند، الحلم وتأويله، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1982.

(-) فؤاد جلال، محمد، مبادئ التحليل النفسي، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2018.

جديدنا