ما بعد الحداثة وسؤال الأخلاق؛ الأخلاق السائلة عند زيغمونت باومان

image_pdf

 

تقديم:

كان التقويض والتفكيك هو النقطة المفصلية بين العصر الوسيط والحداثة، الحداثة التي حاولت أن توحد البشرية تحت مسمى العقل الذي هو أعدل قسمة وزعت بين الناس، آملة تخليص الإنسان من الظلامية الدينية التي عرفتها القرون الماضية، وبتمكينه في آن واحد من الوسائل التي تجعله: حسب التعبير الديكارتي سيدا على الطبيعة ومالكا لها[1] ، وما تعقب هذه السيادة من التحالف المزدوج للعلم والتقنية، هذا ما مكنه من الإقدام على الإبداع والمبادرة، كان المشروع الحداثي مشروعا واعدا محاولا أسطرة قيم أخلاقية جديدة لا تجعل من الإله مصدرا لها، بل من الإنسان نفسه، ومن الذات منبعا لها، هكذا جسدت الحداثة مركزية الإنسان ومنحته مكانة ممتازة في العالم، وفي تطور التاريخ وكذا سيرورة المعرفة. وتمكنت الذات البشرية من تحقيق فعاليتها وسيادتها على المستوى المعرفي، والوجودي، والأخلاقي … ولكن سرعان ما أبانت الحداثة في نهاية الأمر عن مآزق غائرة، ومزالق عدة كانت وراء هذا الإيمان المفرط بالعقل، ما جعل منها حداثة ناقصة أو دوغمائية حسب ما ذهب إليه لوك فيري، بحيث تشكل تصورا مازال سلطويا للعلم الذي كان واثقا من نفسه ومهيمنا تجاه الطبيعة …[2]، لقد كان نيتشه بداية روح النقد للحداثة ولقيمها متوجها إلى قلبها، والهروب من عقل الحداثة المطلق نحو نوع جديد من التحرر الذي يمزق مركزية العقل وفرادة الإنسان وذاتيته، ويخلق نوعا من العقل المعارض[3]، فأعقبه فلاسفة أخرون عبروا بحس نقدي عن الأزمة التي آلت إليها، وإعلانهم عصر جنازات المرويات الكبرى ، موت الإنسان ، موت الميتافيزيقا ، موت المؤلف …، إن الإنسان كما تصورناه بأعين الحداثة، ودافعت عنه هذه الأخيرة وعن قضاياه الملحة، لم يعد له وجود أو هو قل على وشك الاختفاء، لقد أضحى تصورنا عنه كذات وعقل وإرادة وكقدرة على الخلق والإبداع متهافتا، ومعالم صورته المألوفة في المركزية بدأت في التلاشي، بالإضافة إلى أن القيم الأخلاقية التي كان يشرع لها انحرفت عن اصلها الأول لتدخل في طورها المتمثل في السيولة والمرتبط بالتطور السريع لوسائل التكنولوجيا وسيطرة العقلانية الرقمية التي فرضت على الإنسان منطق الاستهلاك الذي عزز الجانب الفردي للقيم الأخلاقية ذات بعد ضيق تلهث وراء الإشباع الفوري وتحاول أن تتأقلم مع كل المستجدات الراهنة، من هذا المنطلق يحاول باومان وصف الأثر الذي أحدثته ما بعد الحداثة في كنه الإنسان المعاصر، بحيث يصف التحول الذي تعرضت له المراكز الصلبة والسرديات الراسخة التي نادت وتبججت بها الحداثة، إذ أنه ينظر بأن الحداثة التي أذابت ما هو صلب في العصر الوسيط هي الأن بدورها تتعرض للإذابة وللتمييع نظرا لعدم صلابتها بما يكفي .

تعزى السيولة في فكر باومان في وصف الوضع الراهن الذي لا يمكن فيه لشيء أن يتسم بالثبات والصلابة، وما تتسم به أزمنتنا في الأصل “بتفكيك النظم”[4]، إن الدرب الذي سار عليه باومان وفي أفق مابعد حداثي والذي لا ينفي فيه الحداثة بتاتا، بل حاول أن يفعل ممارسات تتفاعل في ظل الحياة الراهنة التي تشهد وضعا غير مسبوق في تفاصيلها وفي منطقها السيال، فلم ينظر الفيلسوف للحداثة وما بعدها بمنطق الفصل أو العداوة أو ما شابه، إذ يقول: “لم أنظر من قبل، ولا أنظر الآن، إلى الصلابة والسيولة باعتبارهما ثنائية متعارضة، بل انظر إليهما على أنهما حالتان متلازمتان تحكمهما رابطة جدلية”[5]، يشبه هذا القول ما ذهب إليه جان فرانسوا ليوتار في نفس السياق، حيث يرى أنه: “لا الحداثة ولا المسماة ما بعد الحداثة يمكن تحديدهما وتعريفهما ككيانات تاريخية مرسومة بدقة، وأن الثانية تأتي دوما بعد الأولى، بل يلزم القول على العكس من ذلك، أن ما بعد الحداثي متضمن سلفا في الحداثي بحيث إن الحداثة، الزمنية الحديثة، تحتوي في ذاتها إفراطا في الاندفاع لتجاوز حالتها إلى حالة أخرى …، إن الحداثة تحمل في تكوينها وفي أحشائها وبدون توقف ما بعد حداثتها”[6] .

إن مسألة تجاوز حالة الحداثة أو عدم تجاوزها كمشروع لم يكتمل بعد، ليست النقطة الجوهرية في حديثنا مع أهميته ولكن المسألة التي أثارت فضولي هي الحالة التي انتهت إليها الحداثة والعقل الغربي عموما من تشظي قيمه وأخلاقه التي نادى بها، وما أسفرت عنه كمشروع يكاد يكون من أبشع ما قد تنتهي إليه حضارة ما، أرادت لنفسها يوما السيادة ونمذجة صورها في متخيل الحضارات الأخرى، لقد انتهت الحداثة لمآزق عدة ولكن المأزق الأشد وطأة هو الأكسيولوجي الذي يجسد هشاشة القيم وأفولها، قد لا تسلم الأخلاق هنا من فكرة النهايات التي طبعت السرديات الكبرى، إلا أن موت الإنسان في الفكر المعاصر يلازمه موت الاخلاق الذي هو مشرعها بعدما نصب نفسه مكان الإله في اعطاءها مصداقية. من هذا المنطلق يتساءل باومان عن إمكانية عودة الأخلاق أو هل من فرصة لها في ظل عالم سيال معولم؟ هل كانت الحداثة يوما محاولة لترسيخ قيم أخلاقية ترتقي بالإنسان لإنسانيته؟ أم أن التقنية والعلم وصعود الرأسمالية ومنطق السوق المتمحور حول إنتاج وتكوين مستهلك مثالي تغيب فيه إنسانيته وإراداته ووعيه وإبداعه وبالتي غياب ما يمكن أن يشكل به علاقات أخلاقية مع الأخر.

الأخلاق بين صلابتها وسيولتها:

  إن صلابة الأخلاق يمكن أن تتبن لنا في ما ذهب إليه كانط، أخلاق غير مبنية على منطق السوق وعلى أية منفعة كانت بل على الواجب[7] الذي من خلاله أعامل الأخر في شخص الإنسانية، أخلاق كهذه، كونية إنسانية رغم جمودها إلا أنها صلبة متينة بالرغم ما قد يعاب عليها من الطموح الكانطي المبالغ فيه في إمكان تأسيس أخلاق كونية، بالإضافة إلى كانط، نجد الدعوة التي أقر بها فرويد في كتابه قلق الحضارة أن حب الجار كما نحب أنفسنا هي من المبادئ الأساسية للحياة المتحضرة، في هذا الصدد يبدأ التحليل الباوماني حول لا معقولية المطالبة بحب الجار كما أحب نفسي، وذلك أن الأمر ليس عقلانيا فقد يكون ذلك الاخر المختلف عني ليس جديرا بالحب، أي لا شيء في هذا الجار يشبهني لدرجة أحب ذاتي فيه، إن عملية حب الجار كما تحب نفسك، ورغم أنها وصية صعبة كما قال عنها باومان إلا أنها حسب فرويد عملية ولادة للإنسانية، هل يكون حب الجار بداية للأخلاق، الحب الصوفي الذي تتماهى الذات مع الذات، وشرطا أوليا للإنسانية والحضارة، هل يمكن أن يجد هذا المبدأ بحب الجار مكان له بيننا في عالمنا المعاصر الذي تحكمه النوازع الأنانية واللامعيارية التي تحكم القيم، هل من الضروري أن أتعامل على أساس أخلاقي وبحب وبلطف مع الأخر، كلا إن الواقع لا يدع لك فرصة لكي تنسج علاقات بدون نوازع أنانية فردانية انتهازية، منطق السوق والربح دائما ما يحاول دائما أن يأسس لأخلاقيات جديدة تتماشى مع سياسة الاستهلاك، هناك أخلاق جديدة، نحن لم نشهد أفول الأخلاق بل نشهد ذوبانها وتمييع ثوابتها وأساسها القائم على فكرة الإله.

الراجح أن سيولة الأخلاق لا ترجع فقط إلى هذه النزعة الاستهلاكية التي أصبحت طاغية على الحياة التي نحياها، وإنما ترجع سيولتها  بالأساس إلى المجازر البشرية والهيمنة والتجبر الذي انتهت إليه العقلانية الغربية، بحيث تم الانتقال من قيم التنوير والتبشير بالمواطنة والتسامح وحقوق الانسان إلى انتاج جماعي للعمى الأخلاقي تجاه الشعوب الضعيفة والمغلوب على أمرها، إنها عقلانية أداتية تقوم على منطق السطوة وتنفك ممارسة السلطة عن هياكل السياسة[8] وبهذا تجتاح قوى خارجية مساحات السيادة، وتتحكم توازنات الاقتصاد الدولي في مسارات المجتمعات، إنها الرأسمالية، فحتى أغلب ما كان على عاتق الدولة أضحت الرأسمالية تتكفل به، عوض أن توفر لنا الأمن مثلا، فالرأسمالية تقوم عوضا عنها وتقدم لك أحدث كاميرات المراقبة، تتلاعب الرأسمالية بكل ما يخص المرء، إنها تسعى لأن تخلصه من الشقاء ومن التعب وتصنع له الهناء كي يحيا بسلام واطمئنان. يحق لنا أن نتساءل هنا هل ما سقطت فيه الحداثة من مزالق تتحمل مسؤوليتها باسم العقل والعقلانية؟ أم أن المسؤولية تقع على عاتق قوى رأسمالية انفلتت من قبضة الحس الأخلاقي؟


[1] ديكارت، مقال في المنهج-ترجمة جميل صليبا، المكتبة الشرقية، بيروت، لبنان، ط:1 ،1970، ص153

[2] لوك فيري بتعاون مع كلود كبلياي ، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة-ترجمة حمود بن جماعة، دار التنوير للطباعة والنشر، ط:1، 2015، ص319

[3] يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق، ص 155

[4] زيجمونت باومان، الحداثة السائلة- ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط:3 ،2019 ،ص33

[5] المرجع السابق، ص27

[6] جان-فرانسوا ليوتار، في معنى ما بعد الحداثة، ترجمة وتعليق: السعيد لبيب، المركز الثقافي العربي، ط:1، 2016، ص71

[7] إمانويل كانط: تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق – ترجمة ذ: عبد الغفار مكاوي، مراجعة: عبد الرحمن بدوي، منشورات الجمل، بيروت:2002، ص57

[8] باومان: الحداثة السائلة- ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، …. ص33

جديدنا