التخطيط العمراني والعمارة عنوان قد يستغربه القارئ لأي موقع أو صحيفة عربيَّة، لكن في حقيقة الأمر أن العرب يغيب عن مجالهم العام وأبحاثهم النقد المعماري حتى في أقسام العمارة في الجامعات العربيَّة، هذا ما يجعل المجال العام في العديد من المدن العربيَّة يبعث على الكآبة ويخلق توترًا نفسيًّا لدى سكان المدن العربيَّة، هنا العمارة ليست بنايات بل أماكن نعيش فيها وتعيش فينا، هذا ما يؤشر لغياب علمين من الجامعات العربيَّة علم الاجتماع المعماري الذي مجاله علاقة العمران بالناس وتفاعلاتهم المجتمعيَّة مع المدن والعمارة، وعلم النفس المعماري الذي مجاله التأثير النفسي للعمارة علي الناس فالعمارة تبعث إما على البهجة في الحياة أو على الاكتئاب، من هنا فعلم النفس المعماري مهم إلى حد اندماجه مع جماليَّات العمارة.
هل لدينا تخطيط عمراني وعمارة ؟
هذا سؤال صعب وسهل في ذات الوقت، لدينا تخطيط عمراني نعم، لدينا عمارة نعم، لكن إلى أي مدى ممكن أن تكون العلوم المرتبطة بهما مطبقة علي أرض الواقع، أن طرق التعاطي مع التخطيط العمراني والعمارة باتت في حاجة إلى مراجعة، فالعمارة دائما ما تنطق بالصدق، لكن بطريقة غامضة، لتحيلنا إلى تفسيرات تفضح عصرها، فحينما نذكر عصر الاضمحلال بين الدولة القديمة والدولة الوسطي في مصر الفرعونيَّة، نرى العمارة في هذا العصر تذهب للتقزم والتقليد، فالعمارة ترتبط بإحساسنا : بكيف ينبغي أن تكون عليه الأشياء ؟
البيئة المعماريَّة نألفها وتألفنا، وإذا لم تحدث هذه الألفة يشعر الإنسان بالغربة، هذا الاغتراب يقود إلى عدم تفاعل الإنسان مع المكان وتفاعل المكان مع الإنسان، وبالتالي يحدث أن الوطن وهو الأرض والمكان يفقد حضوره في حياة الناس، فالمنزل الذي تعيش فيه لسنوات وتتفاعل معه وتتجاوب مع أركانه تتوحد معه دون أن تدري لذا من الصعب أن تتخلي عنه فليست هي ذكريات تستعيدها بل مكان تعيش فيه ويعيش معك، من هنا فإن تجاهل دور المجتمع الساكن في أي بناء معماري في المنطقة أو الشارع يعني فقدان حقوق الجوار العمراني في المجتمع، هذا يعني أن العلاقة بين الساكنين في الشارع أو الحي هي علاقة لا انتماء فيها، مشاركة القاطنين في الحي في صناعة القرار في الحي هي المشاركة في الوطن، فإذا استبعدوا من القرار يعني هذا أنهم ضيوف، لعل هذا يفسر لجوء الطبقة الوسطى في مصر لتفضيل السكن في كومباوند له سور يعزله عن الخارج ويديره الساكنون فيه عبر اتحاد يجمعهم، فكان بديلا عن عزلة الانسان عن محيطه العمراني أو جواره العمراني وللأسف هذه الظاهرة تتنامى في المنطقة العربيَّة من المغرب للخليج، ومع الزمن تزداد العزلة لهذا المجتمع مجتمع الكومباوند عن باقي المجتمع فيصبح لدينا مع الزمن مجتمعين منعزلين، وأجيال لا تتفاعل مع باقي الوطن.
إن ما يفعله المعماريون هو تصميم المباني مراعين قيمتها الثقافيَّة، إذ يحاولون أن يكسبوها شكلا على نحو أو آخر، والمبني يتوقف على انسجامه مع المباني المحيطة به وطريقة إنشائها التي يمكن من خلالها استخدامها، فضلا عن الدور الذي يلعبه المبني، لذا فإن تصميم المبنى عمليَّة إبداعيَّة، ويرتبط به الأثاث الذي سيجهز به لأداء دوره، هذا ما أدركه نجيب محفوظ في روايته فنجد عنده وصف للشوارع والمباني بتفاصيلها الدقيقة والأثاث بحيث يجعلنا نقرأ الشخصيات والأحداث عبر المكان، هكذا قيمة المكان ومعناه.
هذا هو الفرق بين مدينة نصر ومصر الجديدة كلاهما من حيث التخطيط العمراني خططا جيدا وبصورة إنسانيَّة، لكن العمارة بها إشكاليات بدأت من الدولة التي هي أول من خالف الحد الأقصي للارتفاعات في مدينة نصر بأبراج عثمان في شارع مصطفي النحاس، وأبراج 15 مايو ومخالفة الأرتفاعات تعني للمخطط العمراني المحسوب بدقة، كثافة مروريَّة للسيارات غير محسوبة في اتساع الشوراع وانسيابيَّة المرور بها،ومشكلات في حجم كافة المرافق التي جرى حسابها على كثافة سكانيَّة طبقا للارتفاعات، وبالتالي أزمات في الصرف الصحي والمياه والكهرباء،و الحاجة لمزيد من المدارس نظرا لارتفاع الكثافة السكانيَّة عما هو مخطط له مسبقا، وبالتالي يتحرك الأطفال لمسافات أبعد وتزداد كثافة المرور من وإلى المدارس وهكذا.. كانت مخالفة الدولة الارتفاعات في أبراج عثمان بمدينة نصر مقدمة إلى عدد أكبر من مخالفات الارتفاعات و من شبكات فساد ارتبطت بالدولة، وهو ما أضر بالمجال العمراني لمدينة نصر، لكن هذا الضرر نري عكسه في التجمع الخامس أو ما يعرف بالقاهرة الجديدة التي يجري الالتزام فيها بالارتفاعات مع تخطيط عمراني غير واضح المعالم، بحيث نرى شبكات الشوراع تؤدي إلى اختناقات متوقعه مستقبلا أو تساؤلات حول أين تبدأ وأين تنتهي فالمحاور والشوراع تضيق وتتسع أو تؤدي إلى ماذا ؟ لا أحد يعرف، ثم أين الميادين الرئيسيَّة، لا أحد يعرف، أين الحدائق العامة، لا احد يعرف، فمدينة نصر تتوسط مناطقها حدائق عامة من 5 إلى 10 فدادين، هذه ليست مساحات مهدرة بل تلعب دور المتنفس للمنطقة ولحركة الهواء ومناطق تجمع في الكوارث ومساحات لنقل الحركة، ومساحات مركزيَّة إرشاديَّة للمارين، ومتنزة للسكان، هذا ما يجعل المقابل لحدائق الميرلاند في القاهرة الجديدة غير موجود.
لكن المشترك بين مدينة نصر والقاهرة الجديدة هو غياب قصور الثقافة والعديد من الخدمات العامة علي العكس من مصر الجديدة التي شهدت مكتبة مصر الجديدة، فالمسارح أيضا غائبة حتي سينما مدبنة نصر هدمت، هنا نستطيع أن نقرأ ما هي العمارة وما هو التخطيط العمراني، لذا فإن التساؤل نفسه ينسحب حول الفرص الذهبيَّة لمصر،مثل اعادة تخطيط وعمارة مدينة بورسعيد بعد العام 1973 م، والتي أضاعها عثمان أحمد عثمان حين لم يجر التفكير فيها كميناء دولي ومحطة خدمات وصيانة للسفن في مدخل القناة وكذلك الحال بالنسبة لمدينة السويس وكلاهما منطقتين صناعتين واعدتين، ونستطيع ان نقول إن سنغافورة التي نشأت بعدهما خططت وفق أسس علميَّة دقيقة صارت نتيجة لهذه الحسابات العلميَّة التي كانت تحمل رؤي مستقبليَّة ودراسة لاحتياجات المنطقة حولها والعالم فلو كانت بورسعيد والسويس نفذتا في السبعينيات وفقا لمخططات عمرانيَّة متكاملة لكانتا غيرتا وجه مصر.
دكتور خالد عزب
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.