للحافظ العلّامة أبي بكر بن أبي الدنيا، رحمه الله تعالى، كتابٌ نادر بعنوان “الرُّهبان”، جمع فيه أقوال الرهابنة وحكاياتهم الغابرة، الممتدّة إلى القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام، ولا يُعرَفُ لهذا الكتاب خبر، فقد مع غيره من الكتب الرائعة الهادفة. ومن الجميل أن يُعثَرَ على ملخَّصٍ له، أو مختارات منه، في نسخة وحيدة محفوظة بالهند، نشرها الأستاذ السوري في عام 1956 الدكتور صلاح الدين المنجد ([i]) (مؤرخ، باحث، أديب ومؤسس دار الكتاب الجديد وأحد المهتمّين بالمخطوطات، ت. 2010) في مجلة معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان ([ii]) ، مج 3، صفحة 349- 358، القاهرة بعنوان “المنتقى من كتاب الرهبان لابن أبي الدُّنيا” ([iii]). ولأهمية هذا “المنتقى” كان مدعاةً لإخراجه من جديد في هذه المقالة.
لماذا كتاب “الرهبان” مهمّ جدًّا؟
الحنبلي الحافظ ابن أبي الدنيا، أبو بكر، عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس القرشي البغدادي (208 هـ – 281 هـ) رصد خلال كتابه “الرهبان” مرحلة دقيقة لعبور العلاقة بين الرهبان والتصوُّف نقطة حرجة حصل فيها تبدل نوعي. نجد أن الحافظ تَقَصّد أن يبرز مرحلة نضجت فيها طبيعة الاحتكاكات بين الراهب النصراني والمتصوِّف المسلم. فلم يعد الراهب مصدرًا لتثقيف المتصوفة بسلوكيات خشنة وغليظة يرفضها الإطار الذي وضعه الرسول ص. للراهب الصحابي عثمان بن مضعون ([iv]) بعد دخوله في حوزة الدين الجديد ومن تأثر بهم. فترة الحافظ بن أبي الدنيا فترة غلب عليها سمة تبادل بين الطرفين لمواعظ الحكم والعبر والزهد والقصص. نجد في كتاب “الرُهْبَان” أن الراهب استوعب المسلك الذي يجب أن يطبّع على نهجها علاقته مع المتصوف لتستديم خطوط الاتصال بينهما دونما أن يعكر صفوهما الفقهاء، ودون أن يشق عصا الهوية الإسلامية. كما أن المتصوف الفقيه عرف كيف يسوس العلاقة الروحانية الرهبانية مع الروحانية المتصوفة لكيلا يستفز حفيظة نخب المجتمع الديني الروحانية.
الحافظ ابن أبي الدنيا عمل بمقولة “الحكمة ضالة المؤمن”. فمقدار الحكمة الروحية الخالدة الموجودة في أقوال وقصص الرهبان من الأهمية بمكان الذي دفع العقل العربي الإسلامي الى تجميعها وتخليدها ([v]) . لقاءات الصوفي المسلم مع رهبان نصارى سمح له ممارسة تأمله اللاهوتي في أجواء النصرانية التعبدية، مما، بالمقابل، سمح للرهابنة من إدراك البعد الصوفي الإسلامي المتولدة من التجربة الروحانية. وبشكل خاص، يُعتبر نص الوثيقة النجاشية التي رواها أحمد في مسندة (حديث رقم 1725) على لسان النسطوري الآريوسي النجاشي ( [vi]) ” ان هذا (آيات القران) والله والذي جاء به موسى (وفي رواية عيسى) ليخرج من مشكاة واحدة”. إنه النور المشترك كما نعت تجلي ذاته العلية في الأكوان قائلا: ﴿الله نور السماوات والأرض﴾ سورة النور 35. مارس الصوفي المسلم القديم مع الصوفي الرهباني القديم مشروع الجلسات. سمح هذا النشاط لرؤية البعد المشترك الدنيوي منه والآخروي. الطُرُق التي تؤدي إلى “المشكاة” ( [vii]). “القيام” من أجل السير عبر الطريقة واكتمال الإستضاءة بنور المشكاة إستعداد لنيل الكمال عند القيامة النهائية. يوم قوله تعالى : يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ سورة الحديد (12) الآيات .أخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن الحسن في قوله : يسعى نورهم بين أيديهم قال : على الصراط حتى يدخلوا الجنة .
والذي يحتضن زائد النور الذي يضيء الأماكن، بالبعد الصوفي الذي يمكن اعتباره واحدًا من قمم التجربة الدينية التي يمكن اكتشافها تاريخيًا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) … الآية، ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ” مِنَ المُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيءُ نُورُهُ مِنَ المَدينَةِ إلى عَدَنَ أبْينَ فَصَنْعاءَ،
إن البعد الصوفي لكل تجربة دينية يسلط الضوء على فائضها ويدعو إلى البعد المحض عن طريق النفي النهائي الذي هو الخاص باللاهوت. فإذا كان الوعي بالامتلاء الآخروي يستدعي أفقًا تاريخيًا زمانيًا مفتوحًا وبالتالي يضع التشكيلات التاريخية في حدودها المحدودة، فإن البعد الصوفي يحتفظ بالفعل بلا نهاية للغموض وبالتالي أي محاولة للسيطرة على أو تقدير التجربة. نحن مدعوون للتمييز، لتتبع أشعة النور الربّاني.، ولكن يجب علينا أيضًا أن نكون على علم بأنه من المستحيل فهم الكل تجربة، حتى التجربة الدينية. وفي هذا المعنى، يظل البعد الصوفي احتياطيًا وحدودًا ضد التقليصات المحتملة للتجربة الدينية، على سبيل المثال، من النوع العقلاني (ما هو منطقي فقط مشتق من مبدأ مشترك، على سبيل المثال، يمكن تسميته بالحقيقة)، أو من النوع الأخلاقي (ما هو دلالة أخلاقية فقط صالحة)، أو من النوع الجمالي (ما هو محسوس من قبل الحواس البشرية هو القيمة) ([viii]) .
“المنتقى من كتاب الرهبان لابن أبي الدُّنيا”
قصة الراهب والمعترف: دروس في التوبة والتواضع والاستعداد للموت
1 – عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: “مَرَّ رَجُلٌ بِرَاهِبٍ في بني إسرائيل، فَقَالَ: يَا رَاهِبُ، كَيْفَ ذِكْرُك لِلْمَوْتِ، قَالَ: مَا أَرْفَعُ قَدَمًا، وَلاَ أَضَعُ أُخْرَى حتى أرى أَنِّي مَيِّتٌ، قَالَ: كَيْفَ نَشَاطِكَ للعبادة، قَالَ: مَا أَرَى أَحَدًا يسمع بِذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ تَأتِي عَلَيهِ سَاعَةً لاَ يُصَلِّي فيها، فَقَالَ له الرَّجُلُ: إِنِّي لأُصَلِّي فَأَبْكِي حَتَّى يَنْبُتَ الْبَقْلُ حولي مِنْ دُمُوعِي، فَقَالَ له الرَّاهِبُ: إنَّك إنْ تَضْحَكْ وَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ بِخَطِيئَتِكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبْكِيَ وَأَنْتَ مُدْلٍ بِعَمَلِكَ، إِنَّ صَلاَةَ الْمُدْلِ لاَ تَجاوز رأسه، قلت يا راهب: أَوْصِنِي، فَقَالَ الرَّاهِبُ: أزهد فِي الدُّنْيَا، وَلاَ تُنَازِعُهَا أَهْلَهَا، وَكُنْ كمثل النَّحْلَةِ لا تأكل إلا طَيِّبًا، ولا تضع إلا طَيِّبًا، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى شَيْءٍ لَم تَكْسِرْهُ، وَانْصَحْ لِلَّهِ نُصْح الْكَلْبِ لأَهْلَهُ فإنهم يُجِيعُونهُ وَيَطردونه وهو يأبَى إِلاَّ أن يحيط بهم” .
قصة الراهب وبحث العيش الحقيقي: دروس في التقشف والتفكير الروحي
2 – عن سفيان بن عيينة قال: “نَظَروا إِلَى رَاهِبٍ وهو يَخْرُجُ من نَحْوَ الْجَبَلِ، فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَطْلُبُ الْعَيْشَ. قَالُوا لَهُ: خَلَّفْتَ الْعَيْشَ وَرَاءَكَ في المدينة. قَالَ: وَمَا تَعُدُّونَ الْعَيْشَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الطَّعَامَ وَاللِّبَاسَ وَالشَّهَوَاتِ. قَالَ: لَيْسَ هُوَ عِنْدَنَا هَكَذَا؛ ِإنَّمَا الْعَيْشُ عِنْدَنَا أَنْ تَدْعُوَ أَطْوَارَكَ إِلَى طَاعَةِ اللهِ فيحييك” .
رحلة البحث عن الطريق: دروس في الاجتهاد والتوجيه الروحي
3 – عن عبد الرحمن بن حفص الجمحي: “أَنَّ قَوْمًا أَرَادُوا سَفَرًا، فَحَادُوا عَنْ الجادة، فَانْتَهَوْا إلَى رَاهِبٍ منفرد في ناحية من الناس، فنادوه فأشرف عليهم من حبيسته ذلك (كذا) فَقَالُوا: إنا قَدْ أضللنا عن الجواد فَكَيْفَ الطَّرِيقُ؟ قال: فَقَالَ: من هُنَا الطريق وَأَوْمَى لهم إلَى السَّمَاءِ فعلم القوم الذي أراد، فقال بعضهم لبعض سلوه، قالوا: إنا سائلوك فمجيبنا أنت؟ قال: سلوا ولا تكثروا فإن النهار لن يرجع، وإن العمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه ذو اجتهاد، تَزَوَّدُوا عَلَى قَدْرِ سَفَرِكُمْ، فإن خير الزاد ما بلغ البغية، ثم أرشدهم إلى المحجة، وأدخل رأسه في حبيسته” .
المنبع الحقيقي للسعادة: رحلة الراهب في البحث عن الكمال
4 – أبو عبد الله المغازلي الزاهد قال: “مَرَّ رَجُلٌ بِرَاهِبٍ، فَنَادَاهُ فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يا أَيُّهَا الرَّاهِبُ، مَتَى يخْلُو الْقُلُبُ والبدن مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا؟ قَالَ: فَصَرَخَ الرَّاهِبُ صَرْخَةً انْحَطَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَلَمْ يَزَلِ الرَّجُلُ يُرَاقبه حَتَّى أَحَسَّ بِإِفَاقَتِهِ، فَنَادَاهُ: أَنَا مُنْذُ الْيَوْمِ مُنْتَظِرُكَ أَيُّهَا الرَّاهِبُ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا هَذَا! مَا الذي تُرِيدُ مِنِّي؟ وَاللَّهِ لَا يَخْلُو الْقَلْبُ والبدن مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَالْعَيْنُ تَنْظُرُ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْأُذُنُ تَسْمَعُ إِلَى كَلَامِهِمْ، هُوَ وَاللَّهِ مَا أَقُولُ لَكَ حَتَّى يَأْوِيَ مُرِيدُ اللَّهِ إِلَى أَكْنافِ الْجِبَالِ وَبُطُونِ الأودية والْغِيرَانِ، يَظَلُّ مَعَ الْوحُوشِ يرد مواردها، وَيَأْكُلُ مِنْ أَجَنَّةِ الشَّجَرِ فِي أَظِلَّتِهَا، لَا يَرَى فِي ذَلِكَ أَنَّ النِّعْمَةَ أَتَمُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهَا عَلَيْهِ” .
الاختباء الشيطاني: تحديات الرهبانية في مواجهة الإغراءات
5 – عن وهب بن منبه قال: “أتى إبليس راهبا في صومعته فِي زمن المسيح عَلَيْهِ السلام، فأراه إبليس فلم يقدر عَلَيْهِ، … ، فأتاه متشبها بالمسيح، فناداه: أيها الراهب! أشرف حتى أكلمك، قَالَ: انطلق لشأنك فلست أقدر على رد مَا مضى من عمري، قَالَ: فأشرف علي فأنا المسيح، قَالَ: إن كنت المسيح فما بي إليك من حاجة. أليس قد أمرتنا بالعبادة ووعدتنا القيامة؟ انطلق لشأنك فلا حاجة لي بك، فانطلق عنه اللعين وتركه” .
– تلبيس إبليس لابن الجوزي (289) : َخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم، نا أحمد بْن أَحْمَدَ، نا أَبُو نعيم، نا أَبُو بَكْر الآجري، ثنا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد العطيني، ثنا إِبْرَاهِيم بْن الجنيد، ثنى مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن، ثنا بِشْر بْن مُحَمَّد بْن أبان ثنى الْحَسَن بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسلم القرشي، عَنْ وهب بْن منبه رَضِيَ اللَّهُ عنه، قَالَ: فذكر نحوه.
قوة الدعاء: تأثير الراهبين في الآخرين
6 – عن حسان بن عطية قال: “يستحب أن يؤمن على دعاء الراهب. قال: يستجاب لهم فينا، ولا يستجاب لهم في أنفسهم” .
تحدي الدين: حوار بين عمر بن عبد العزيز والراهب
7 – عن أبي بكر بن مسافر السلمي قال: “رأى عمر بن عبد العزيز راهبا بدير سمعان، فجرى بينهما كلمات، فقال عمر في آخر كلماته: يا راهب! لو دخلت في الإسلام. قال: يا أمير المؤمنين! دينك جديد وأنت منه على نضارة، وأصحابك به مستبشرون. وديني قد خلق وتغير أهله، وإن تعش يا أمير المؤمنين حتى يخلق دينك فسترى من تغير …. تنكره لا ما تعرفه” .
تأملات في أصل مصطلح “مأتم”
8 – حدث ابن السماك قال: “سألت بعض رهبان الأكيراح فقلت: خبرني لم سمي الاجتماع في المصيبة مأتما؟ قال: فبكى، ثم قال: إنما سمي مأتما لأن المجتمع عليه من أجله لم يتم. ثم قال: تدري من أول من سماه مأتما؟ قلت: من؟ قال: كان في زمن داود عليه السلام رجل يعمل الخوص، وإن بني إسرائيل سألوه أن يعمل لهم من الخوص شيئا يكتهم من الشمس إذا قاموا إلى الصلاة في بيت المقدس. قال: فأخذ هو وبنوه عمله، وكانت بنو إسرائيل تروح وتغتدى عليه يسألونه عن ذلك فيقول: ما تم بعد، ويقول لو قد تم دفعته إليكم. قال: فبينا هو كذلك إذ نزل به الموت فمات. قال: فجاءت بنو إسرائيل وهو يظنون أنه قد فرغ منه فوجدوه ميتا ووجدوه لم يتم. فقالوا: ما تم ما تم، واجتمعوا يبكون عليه ويقولون: ما تم ما تم. قال فهو أول ما سمي الاجتماع بالمصيبة مأتما” .
النور في ذكر الله: نصيحة من حسان الراهب
9 – عن الفضيل بن شعبة قال: “ما لقيني حسان الراهب قط إلا قال لي: انظر، لا تطفئ المصباح من بيتك فيدخل عليك اللصوص فيخرجونك. يقول: نور بيتك بذكر الله” .
الحكمة في الابتعاد: نصيحة من الراهب إلى مالك بن دينار
10 – عن مالك بن دينار قال: “قال راهب من الرهبان: يا مالك بن دينار! إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ سُورًا مِنْ حَدِيدٍ، فَافْعَلْ، وَانْظُرْ كُلَّ جَلِيسٍ وَصَاحِبٍ لا في دِينِكَ شيْئا، … عنك صحبته” .
العزلة والتأمل: نصيحة من الرهبان
11 – عن عارم قال: “قال لي بعض الرهبان: نح على أيام الدنيا على قلة المتعاونين على النياحة” .
حكمة العمر وتقدير العمل
12 – عن سعيد بن عمرو المخزومي قال: “نزل خالد بن الوليد الحيرة، فأرسل إلى عمرو بن قيس العبادي، وكان من المعمرين. فأتاه فسأله: من أين نزلت؟ قال: من صلب والدي. قال فمن أين خرجت. قال: من بطن أمي. وعن هذا سألتك؟ ألا تخبرني عن هذه الحصون لم بنيتموها؟ قال بنيناها خوفا من الجاهل حتى …. الحليم. قال فحدثني بأعجب شيء رأيته. قال أعجب ما رأيته منذ رأيته أني رأيت المرأة من أهل الحيرة تخرج بزادها في زبيلها إلى الشام فلا تحتاج إلى زاد حتى تبلغ الشام من الدثور والعمران. قال: أتى عليك. قال: ثلاث مئة وأربعون سنة” .
التضحية بالراحة من أجل القيم
13 – عن علي بن الأشهب قال: “قال قيصر لعدي بن حاتم: أخبرني عن أصحاب هذا الرجل. ليوث بالنهار ورهبان بالليل، لا يدخلون البيوت إلا بإذن ولا يأكلون الطعام إلا بثمن. قال أخلوا لهم الأرض والحقوا ببطون الأودية والشعاب” .
مواجهة الحقيقة
14 – عن أبي بكر بن عياش: “أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله مر براهب في طريق الشام، فناداه، فأشرف عليه، فإذا شيخ كبير قد سقط حاجباه على عينيه، فرفعهما بيده ثم قال: أنت يا عمر ملك الأرض فكيف بك إذا دعاك ملك السماء فعرض حكمك على حكمه، أي رجل أنت حينئد يا عمر؟ قال: فبكى بكاء شديدا ثم قال: أوصني أيها الراهب. قال اوصيك بحفظ نفسك عن سبل الهلكات. قال: زدني. قال: ولا تدعن لنفسك على نفسك حجة، هو الله …. يعلم سرك ويعلم …. ماتكيبون. انطلق عني يا عمر” .
حماية الضعفاء
15 – أبو بكر بن عياش قال: “بينا راهب مشرف من صومعته إذ هو بسبع إفترس غلاما. فلما نظر الغلام إلى الراهب قد أشرف ناداه الغلام: أيها الراهب! ادع إلهك الذي ترهبت له أن يصرف عني كيد هذا السبع فقد ترى ما يصنع بي. قال: فرفع الراهب رأسه إلى السماء ثم أدخل يديه تحت لحيتيه وبكى حتى بلها، والسبع جاثم على الغلام لم يحدث شيئا. ثم ناداه بالعبرانية أو قال بالسريانية: أنت تعلم يا إله الأولين والآخرين أنه إنما استغاث بك، ولكنه جعلني وسيلة فيما بينك وبينه فأغثه يا مغيث المستغيثين وخلصه من كل عدو مبين. قال: فوثب السبع عنه ينفض ذنبه. ثم ولى ولم يضره شيئا” .
لبس السواد في ظل الحرقة
16 – عن عبد ربه العابد قال: “سألت بعض الرهبان عن لبس السواد قال: منتهى الحرقة. ألا ترى إلى أهل المصيبة إذا مات لهم ميت كيف يسودون ويغيرون؟ قال: وسألت آخر عنه فقال: يا هذا؟ عن لباس أهل النار السواد، فاحب العاملون لله أن يشعروا قلوبهم بذلك كلما نظروا إلى ذلك اللباس عليهم” .
الصمت والضجيج في العبادة
17 – حدث إبراهيم بن زيد السلولي، وكان من البكائين عند الذكر، قال: “سألت راهبا رأيته في كنيسة بالرها قلت: ما بالكم تبدؤن قراءة الإنجيل بالسكينة والرفق ثم لا تلبسون أن ترتفع أصواتكم وتصيحون صياحا شديدا؟ قال: فقال لي: لقد تفقدت من ذلك أمر ما يتفقده إلا العالمون بالله وبآياته. أما علمت، رحمك الله، أن الإستغاثة لا تكون إلا بالضجيج والصراخ. فعلمت الذي أراد” .
الحذر والخوف في العبادة
18 – عيسى بن مالك الخولاني، قال: “رأيت على باب بيت المقدس راهبا راكبا فقلت: أيها الراهب! أوصني. فقال: يا أخي! إنما أوصيك إن استطعت أن تكون بمنزلة رجل قد احتوشته السباع والهوام فهو خائف حذر يخاف أن يغفل فيفترسه السباع أو يسهو فتنهسه الهوام، فهو مذعور القلب وجل. ليله ليل مخافة إذا أمن فيه المغترون، ونهاره نهار حزن إذا فرح فيه الباطلون. ثم ولى وتركني. قلت: لو زدتني شيئا عسى أن تنفعني به. قال الظمآن يجزيه من الماء أيسره” .
العبادة المتواصلة والتواضع في الدعاء
19 – عن عطاء الذماري قال: “إن رجلا من بني إسرائيل ترهب واعتزل في صومعته، فعبد الله فيها سبعين عاما حتى أقعد من رجليه. فقيل له: سل حاجتك. قال: حاجتي أن ترد علي أركاني فأعبد الله عليهما إلى حين أجلي. قال: فردت عليه رجلاه فبكى حتى عمي. فقيل له: سل حاجتك. قال: المغفرة قليل: سل غيرها فقد أعطيتها. فقال: أسأل أن يغاث الناس، وكان عام جدب، فأغيثوا” .
التوبة الصادقة والعزم على العبادة
21 – عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: “كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَتِهِ. فَمَكَثَ بِذَلِكَ زَمانًا طَوِيلًا، فَأَشْرَفَ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ فَافْتُتُنَ بِهَا وَهَمَّ بِهَا فَأَخْرَجَ رِجْلَهُ لِيَنْزِلَ إِلَيْهَا، فَتدْارَكَهُ اللَّهُ بِسَابِقَتِهِ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أُرِيدُ أن أَصْنَعُ؟ فرَجَعَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَجَاءَتْهُ الْعِصْمَةُ فَنَدِمَ. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُعِيدَ رِجْلَهُ فِي الصَّوْمَعَةِ قَالَ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! رِجْلٌ خَرَجَتْ تُرِيدُ أَنْ تَعْصِيَ اللَّهَ تَعُودُ مَعِي فِي صَوْمَعَتِي لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَاللَّهِ أَبَدًا. قال: فَتَرَكَهَا وَاللَّهِ مُعَلَّقَةً مِنَ الصَّوْمَعَةِ تُصِيبُهَا الرِّيَاحُ وَالْأَمْطَارُ وَالشَّمْسُ وَالثَّلْجُ حَتَّى تَقَطَّعَتْ، فَشَكَرَ اللَّهُ على ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: وَذُا الرِّجْلِ يَذْكُرُ بِذَلِكَ”.
العمل بالمعرفة
22 – قال مالك بن دينار: “قال بعض الرهبان: «إِنِّي وَجَدْتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحِكْمَةِ: لَا خَيْرَ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ مَا لا تعمل ولا تعمل ما علمت، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مِثْلَ رَجُلٍ احْتَطَبَ حَطَبًا فَحَزَمَ حُزْمَةً، ذَهَبَ ليَحْمِلُهَا فَعَجَزَ عَنْهَا، فَضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى»” .
التحذير من الانغلاق في العبادة
23 – عبد الله بن قيس يقول: “قال علي رضي الله عنه في هذه الآية: {هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} قال: هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري” .
خاتمة
أهمية البحث والتحقيق المستمر في التراث الإسلامي يتيح لنا فهمًا أعمق للإنسانية وتاريخها. خصوصا إذا ما استكشافنا أعماق النصوص الإسلامية وتحليلها بعيون العقل والقلب، نجد أن الحوار بين الأديان يشكل لبنة أساسية في بناء جسور التواصل والتفاهم الثقافي. من خلال جهود الحافظ بن أبي الدنيا وغيره من العلماء والفلاسفة، نجد أن المثابرة على البحث والاستكشاف يفتح لنا آفاقًا جديدة لفهمنا للعالم ولذواتنا.
كتاب ‘الرهبان’ يمثل نقطة تحول هامة في مسار الدراسات الدينية، حيث يعرض لنا نافذة فريدة للتفاعل بين الروحانية الإسلامية والنصرانية. ومن خلال تفكيك هذه العلاقات المعقدة، نتعلم دروسًا قيمة في التسامح والتعايش السلمي بين الأديان. العمل المستمر في استكشاف التراث الإسلامي يبقى مهمًا، لأنه يمثل مصدرًا للحكمة والتوجيه في عالم متغير باستمرار. دعونا نواصل السعي نحو التفاهم والتقارب، ولنجعل من الحوار بين الأديان جسرًا للسلام والتآخي في مجتمعنا وعالمنا بأسره.
هناك حاجة ماسة لدراسة عميقة في التراث الإسلامي خصوصا في مجال البحث اللاهوتي والفلسفي واللغوي والتاريخي. عند استكشافنا النصوص الإسلامية الكلاسيكية، مثل القرآن والحديث النبوي، وتعليقات القرآن والمؤلفات اللاهوتية أو الصوفية، وقواعد اللغة العربية، والمؤلفات حول البدع والجدليات البينية بين الأديان، يسعفنا ذلك الى فهم سياقها التاريخي من أجل تفسيرها بشكل أفضل. يمكننا إعتبار كتاب الرهبان دراسة إبتكارية بين الإسلام والمسيحية قام بها الحافظ بن أبي الدنيا. هدف بها الحافظ إلى وضع وتعزيز أسس الحوار البين الأدياني. بفضل جهود الحافظ ساهم بشكل ما في فهم أفضل للإسلام المنفتح وطرق وحدود إنفتاحه كما نجح في تقديم وجهة نظر لاهوتية أصيلة حول الإسلام، مما يساعد زمننا على تعزز التواصل البين الأدياني.
الهامش:
[i] ) لقراءة المزيد عن سيرته تصفح مقالة ” صلاح الدين المنجد الباحث والمحقق ” في موقع “مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي”.
[ii] ) معهد الدومينيكان للدراسات الشرقية (إيديو) في القاهرة هو مركز بحثي مشهور مكرس لدراسة العمق للتراث الإسلامي. يعمل إيديو بنهج متعدد التخصصات ويشمل البحث اللاهوتي والفلسفي واللغوي والتاريخي. يقوم باحثو إيديو باستكشاف النصوص الإسلامية الكلاسيكية، مثل القرآن والحديث النبوي، وتعليقات القرآن والمؤلفات اللاهوتية أو الصوفية، وقواعد اللغة العربية، والمؤلفات حول البدع والجدليات البينية بين الأديان، بهدف فهم سياقها التاريخي وتفسيرها المعاصر بشكل أفضل. كما يشاركون في الدراسات المقارنة بين الإسلام والمسيحية، بهدف وضع وتعزيز أسس الحوار البين الأدياني. يتم إجراء البحوث من خلال الندوات الأسبوعية بين الباحثين والندوات المفتوحة التي تهدف إلى مشاركة المعرفة وتجديد الآفاق للإسلاميين الزملاء أو الجمهور العريض (نشر المعرفة). ينظم باحثو المعهد مؤتمرات وندوات ويدرسون دورات وينشرون عملهم بانتظام في المجلات المتخصصة، مما يسهم في إثراء مجال الدراسات الشرقية. بفضل جهودهم المتواصلة وخبرتهم المزدوجة (اللاهوت المسيحي والإسلامولوجيا)، يساهم الباحثون في إيديو بشكل مزدوج في فهم أفضل للإسلام وفي تقديم وجهة نظر لاهوتية جديدة حول الإسلام، مما يعزز من التواصل البين الأدياني. في العصور الحديثة، يعود تاريخ تواجد الرهبان الدومينيكان في مصر إلى عام ١٩٢٨، عندما اشترى الأب أنطونين جوسان (١٨٧١-١٩٦٢) الأرض الّتي يقع عليها حاليًّا الدير في حي العبّاسيّة، والّذي بدأ بناءه في عام ١٩٣١. كان لديه آنذاك نيّة تحويله إلى منزل تابع للمدرسة الفرنسيّة للكتاب المقدّس والآثار بالقدس، والّتي كانت مكرّسةً لاستكشاف الآثار المصريّة في سياق الدراسات الكتابيّة. تأسّس المعهد الدومينيكيّ رسميًّا في ٧ مارس ١٩٥٣. ومع ذلك، كانتْ فكرة إنشاء معهدٍ بحثيّ متخصّصٍ في العالم العربيّ الإسلاميّ لتعزيز فهمٍ أفضل بين المسيحيّين والمسلمين قائمةً منذ سنواتٍ عديدةٍ. بناءً على طلب الكاردينال تيسيران، الّذي كان حينها أمين مجمع الكنائس الشرقيّة، دعا الفاتيكان في عام ١٩٣٧ الرهبانَ لتكوين مجموعةٍ من الخبراء مكرّسين للدراسة العلميّة للإسلام وأُسُس الحضارة العربيّة الإسلاميّة.
[iii] ) تأسست مجلة معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان
MIDÉO – Mélanges de l’Institut dominicain d’études orientales du Caire – في عام 1954 من قبل أعضاء المعهد المؤسسين، وهي مجلة علمية سنوية تخضع لتقييم دقيق من خلال عملية تقييم من قبل الأقران بالعمى المزدوج. تنشر المجلة مساهمات علمية من أعضاء المعهد والباحثين العاملين بالتعاون معهم، باللغة الفرنسية أو الإنجليزية أو العربية. تتماشى المجلة مع مهمة المعهد، حيث تتضمن الطبعات النقدية الأصلية للنصوص العربية من التراث الإسلامي والمقالات غير المنشورة التي تركز على الإسلام من خلال مصادره الأساسية. كما تولي اهتمامًا خاصًا بالمسائل اللاهوتية والفلسفية وتعمق في تاريخ العقائد. بالإضافة إلى ذلك، تسعى MIDÉO إلى تعزيز التفاهم المتبادل بين مختلف التقاليد الثقافية والدينية من خلال دراسات شاملة، مع التركيز الحاد على التطورات المعاصرة في البحث في هذا المجال.
منذ العدد 31 (2015)، تم نشر MIDÉO بواسطة IFAO ويمكن الوصول إليه مجانًا عبر الإنترنت. تتوفر الأعداد السابقة للبيع في IFAO في القاهرة.
[iv] ) قال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء في ترجمته لعثمان بن مظعون: “من سادة المهاجرين، ومن “أولياء الله المتقين” الذين فازوا بوفاتهم في حياة نبيهم فصلى عليهم”. حاز هذا الصحابي الولي محبة مميزة من الرسول ص. وبعد وفاته نعته الرسول ص بنعت “سلفنا الصالح”، وعن الأسود بن سريع ” … فلما مات إبراهيم بن رسول الله، صلى الله عليه آله وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: الحق بسلفنا الصالح: عثمان بن مظعون) رواه الطبراني. عندما عاد عثمان بن مظعون ر. بدأ يمارس رياضات روحانية كما أخذ يستشير الرسول ص. ليأذن له بممارسة رياضات قاسية على جسد الإنسان أشياء أشتهر بها مسيحيو الكنيسة الإسكندرية والقدس. ولكن الرسول ص شجع عثمان ر. على ترك الرهبانية الصلبة لصالح ممارسات تعبدية ناعمة. رفض الرسول ص الاختصاء و عدم ترك الناس والعيش بمفرده في الصحاري و الجبال.
فعن ابن شهاب: أنّ عثمان بن مظعون أراد أن يختصي ويسيح في الاَرض، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أَليس لك فيّ أسوة حسنة؟ فأنا آتي النساء وآكل اللحم وأصوم وأفطر، إنّ خصاء أمّتي الصيام، وليس من أمّتي من خصى أو أختصي (السلسلة الصحيحة للألباني).
وروي أيضاً عن عثمان أنه قال: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا رسول الله! أردت أن أسألك عن أشياء، فقال: وما هي يا عثمان؟ قال: قلت: إنّي أردتُ أن أترهب، قال: لا تفعل يا عثمان، فانّ ترهّب أمّتي القعود في المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. (- الطوسي، تهذيب الأحكام، ج4، ص.191-193)
قال: فإني أردت يا رسول الله! أن أختصي، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تفعل يا عثمان، فإنّ اختصاء أمّتي الصيام (ابن سعد، الطبقات، ج3، ص394).
وروي أيضاً أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ نفسي تحدّثني بالسياحة وأن ألحق الجبال، قال: يا عثمان لا تفعل، فإنّ سياحة أمّتي الغزو والجهاد.
وروي: أنّه اتخذ بيتاً يتعبّد فيه، فأتاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخذ بعضادتي البيت وقال: يا عثمان، إنّ الله لم يبعثني بالرهبانية ـ مرّتين أو ثلاثاً ـ، وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة..
الطبقات، 3: 394 ـ سير اعلام النبلاء، 1: 157.
[v] ) إرث ابن أبي الدنيا إنتقل الى الغرب الذي إتبع نهجه وقام بتدوين إرث الحكمة والأقوال الراشدة القادم من الصحاري العربية.فنجد موقع (Monastery of Christ in the Desert) وهو موقع متخصص بنقل حكم وأقوال رهابنة الصحاري العربية.
يقدم الموقع مجموعة مفهرسة أبجديا حكم وأقوال مقتطعة من أقوال “اأباء وأمهات” الصحاري العربية المتنوعة ومجموعة موضعية من تلك القصص والأقوال التي تسرد عددًا من الفضائل الرهبانية والمسيحية التي تعد جزءًا لا يتجزأ من الحياة الروحية الأصيلة.
[vi] تتبع “المسيحيين الموحدين” (Unitarianism) من أتباع الراهب آريوس (Arius (c. 250 or 256 – 336) عند الشروع بكتابة فصل بمثل هذه الأهمية نجد أن هناك سؤالا غائرا في أعماق التاريخ، نجهله ولكن كان الرسول ص ملما به، ويحسن بنا أن نتتبع جذوره إذا أردنا أن لا نكون ضحايا التحاليل القديمة. علينا أن نكون مع المهتمين في اكتشاف أي خيط من المعارف الذي يضفي بشعاع التنوير علينا. في زمن الرسول ص كانت مكة محاطة بإمارات وممالك ودير مسيحية. فنحن أمام نبي عظيم يعمل ويعرف ما يفعله. فالرسول ص يعمل على مستوى مفاهيمي إنساني وعقلاني وكنبي مرتبط بوحي السماء مما جعله أطلس من المعارف الملموسة والروحانية والوحيية. يحق لنا أن نسأل: لماذا لم يرسل الرسول ص أتباعه من الصحابيات والصحابة الى كنائس الإسكندرية علما أنه ص. (لاحقا) تزوج ماريا القبطية عليها السلام. لماذا أرشد الصحابة القدماء للهجرة إلى الحبشة؟
تحركات الرسول ص تخبرنا أنه ص ملما بواقع الناس وحياتهم وتاريخهم ودياناتهم. يتعين على المفكرين الإقرار بأن النبي ص ملما بالجدل الذي سيطر على علماء دراسة اللاهوت والذي قادهم إلى إصدار فتيا تحدد ما هو مقبول مسيحيا لدى فريق ما ونعت فريق آخر بصاحب “عقيدة فاسدة” يسمونها “هرطقة” (Heresy). لذلك يسعفنا لو امتلكنا (نحن) بشيء من المعلومات لتمكننا من التمييز بين “الحنفيين الموحدين” من أمثال ورقة بن نوفل، “المسيحين الموحدين” (Unitarianism) من أتباع الراهب آريوس (Arius (c. 250 or 256 – 336) و نسطور أسقف القسطنطينية اﻷول Nestorius c. 386 – c. 451)) و الراهب بحيرة (Monk Bahira) ، و”المسيحيين المثلثين” (Trinitarianism)، الإلمام بشيء من الجدل اللاهوتي المسيحي سيساعدنا على فهم أشياء كثيرة من أهمها أن نعرف لماذا أختار الرسول ص مملكة أكسيم الأثيوبية (Kingdom of Axum) التي كانت مسيطرة على منطقة نجران للهجرة إليها؟
جدير بنا أن نضطلع بتفاصيل مرتبطة مستذكرين أنه جاء في نصّ الرسالة التي أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، أنه قال: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ” [متفق عليه].
إذا الرسول ص بالمعنى الحرفي والشائع والوَحيّي كان عارفا بالراهب آريوس (Arius (c. 250 or 256 – 336) مدركا أنه موحدا كبيرا، حيث يرى بعض الباحثين أمثال ابن حزم أن القس أريوس من كبار الموحدين. فقد قال ابن حزم في كتابه “الملل” ص.27: “منهم أصحاب أريوس وكان قسيساً بالإسكندرية ومن قوله التوحيد المجرد وأن عيسى عبد مخلوق وأنه كلمة الله التي بها خلق السماوات والأرض”. وأريوس هذا كان له بقايا أتباع أحرقوا في محرقة الأخدود في نجران قبل ميلاد الرسول ص بقرابة نصف قرن. قبل مولد الرسول ص تقريبا سنة 570 أو 571 ميلادياً ب 47 عاما أي أنه في سنة 523 وقعت مأساة في نجران دَوّنَها القُران الكريم في سورة البروج المباركة: “…قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد….” صدق الله العظيم. ذكر الطبري في تفسيره أن حادثة الأخدود وقعت في نجران ويذكر الأب حارث إبراهيم في كتابه “الرواية العربيّة لاستشهاد القدّيس حارث بن كعب ورفقائه في مدينة نجران” صدر في نيسان 2007 عن معهد التاريخ والآثار والتراث المشرقيّ. وتابعته الباحثة السّعودية كوثر محمد علي في عام 2015 في كتابها:
” حادثة الأخدود بين المصادر العربية والمصادر القديمة” لتوافق أن اسم الراهب الذي تحدث باسم المؤمنين كما وصفهم القران الكريم هو: الحارث بن كعب النجراني (Aretas) الذي أحرق ظلما وعدوانا في عام 523. إذا نحن نتحدث عن وجود آريوسيون – نسطوريون في نجران. تحدد الروايات الإسلامية أعدادهم حيث قال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأربعين سنة، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، تفسير القرطبي.
إذا كانت هناك نواة حركة توحيدية آريوسية، وهم تحديدا الذين وصفهم القران بالمؤمنين، مع مسيحيين من هم ليسوا بآريوسيين، مما يجعل الضحايا يفوق الثمانين بكثير. وقد ذكر الطبري رواية لعلي بن أبي طالب مهمة تقول لنا أن ضحايا الأخدود أحباشا. هذا يؤكد لنا أن الآريوسية وأختها النسطورية التوحيدية كانتا متواجدتان في نجران وفي الحبشة مع مذاهب مسيحية تثليثية. هذا الفهم لتنوع المذاهب المسيحية في نجران ذكره في صفحة 137-138 د. عوض عبدالله في كتابه:
” THE RELIGIOUS STRUCTURE OF NAJRĀN IN LATE PRE-ISLAMIC AND EARLY ISLAMIC HISTORY”.
يذكر أحمد أمين أن قُسُّ بن ساعدة الإيادي شاعر وحكيم من حكماء العرب قبل الإسلام. توفي حوالي عام 600م الموافق 23 قبل الهجرة. ومن أن ابن ساعدة كان نصرانيا وأنه أسقف كعبة نجران. ويعده الشهرستاني في كتاب الملل والنحل بين من يعتقد التوحيد ويؤمن بيوم الحساب. هذا الإفادة تؤكد أن التوحيدية النسطورية مازال لها موضع قدم في نجران إلى زمن 23 عاما قبل ولادة الرسول العظيم ص.
مملكة أكسيوم النجاشية التي كانت تحكم نجران كانت مشابهة لنجران حيث يتواجد بها أتباع التوجهات التوحيدية وأتباع التوجهات التثليثية. ولو أن محمد ص بعث أصحابه الى المثلثة من اليعاقبة في شمال جزيرة العرب أو الى المثلثة من الأقباط في الإسكندرية لكانت فرص الانسجام مع بيئتهم أقل من تلك الفرص الأوفر حضا بالذهاب الى بيئة موحدة منسجمة مع الخطاب الإسلامي التوحيدي القرآني.
إذا قبلنا تبديل معايرنا عن المجتمعات القديمة فسنبصر حقيقة أن المجتمع المسيحية إحتوى على مسيحيات متعددة الأبعاد. ففيها البعدين، البعد التوحيدي (Unitarianism) مع البعد التثليثي (Trinitarianism). بهذه الوسيلة تيقن لنا أن التوحيدين كان لهم تواجد في كل من نجران والحبشة. هنا يتبدد الشك ويكون الأكثر صوابا أن نستنتج لما اختار الرسول ص مملكة أكسيوم التي كانت مسيطرة على نجران وأثيوبيا كوجه لهجرة لأصحابه. فالموحدين الأريسيين نساطرة وسيتفهمون معنى “لا إله إلا الله” ومن أن عيسى بشر ورسول لله ومن أن محمد بشر ورسول لله.
[vii] ) تفسير آية 35 من سورة النور
تفسير الجلالين
﴿الله نور السماوات والأرض﴾ أي منورهما بالشمس والقمر
﴿مثل نوره﴾ أي صفته في قلب المؤمن
﴿كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة﴾ هي القنديل والمصباح السراج: أي الفتيلة الموقودة، والمشكاة: الطاقة غير النافذة، أي الأنبوبة في القنديل
﴿الزجاجة كأنها﴾ والنور فيها
﴿كوكبٌ دِرِّيٌ﴾ أي مضيء بكسر الدال وضمها من الدرء بمعنى الدفع لدفعها الظلام، وبضمها وتشديد الياء منسوب إلى الدر: اللؤلؤ
﴿توَقَّد﴾ المصباح بالماضي، وفي قراءة بمضارع أو قد مبنيا للمفعول بالتحتانية وفي أخرى توقد بالفوقانية، أي الزجاجة
﴿مِن﴾ زيت
﴿شجرة مباركةِ زيتونةِ لا شرقيةِ ولا غربيةِ﴾ بل بينهما فلا يتمكن منها ولا برد مضران
﴿يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسهُ نار﴾ لصفائه
﴿نور﴾ به
﴿على نور﴾ بالنار، ونور الله: أي هداه للمؤمنين نور على نور الإيمان
﴿يهدي الله لنوره﴾ أي دين الإسلام
﴿من يشاء ويضرب﴾ يبين
﴿الله الأمثال للناس﴾ تقريبا لأفهامهم ليعتبروا فيؤمنوا
﴿والله بكل شيء عليم﴾ ومنه ضرب الأمثال.
تفسير الميسر
الله نور السموات والأرض يدبر الأمر فيهما ويهدي أهلهما، فهو- سبحانه- نور، وحجابه نور، به استنارت السموات والأرض وما فيهما، وكتاب الله وهدايته نور منه سبحانه، فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات بعضها فوق بعض. مثل نوره الذي يهدي إليه، وهو الإيمان والقرآن في قلب المؤمن كمشكاة، وهي الكُوَّة في الحائط غير النافذة، فيها مصباح، حيث تجمع الكوَّة نور المصباح فلا يتفرق، وذلك المصباح في زجاجة، كأنها -لصفائها- كوكب مضيء كالدُّر، يوقَد المصباح من زيت شجرة مباركة، وهي شجرة الزيتون، لا شرقية فقط، فلا تصيبها الشمس آخر النهار، ولا غربية فقط فلا تصيبها الشمس أول النهار، بل هي متوسطة في مكان من الأرض لا إلى الشرق ولا إلى الغرب، يكاد زيتها -لصفائه- يضيء من نفسه قبل أن تمسه النار، فإذا مَسَّتْه النار أضاء إضاءة بليغة، نور على نور، فهو نور من إشراق الزيت على نور من إشعال النار، فذلك مثل الهدى يضيء في قلب المؤمن. والله يهدي ويوفق لاتباع القرآن مَن يشاء، ويضرب الأمثال للناس؛ ليعقلوا عنه أمثاله وحكمه. والله بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء.
[viii] ( حول موضوع تاريخ الصوفية والرهبان تتطلع على كتابنا: ” قبل أن أتصوف كنت راهبا”
الزكري القضاعي، م. (2024). قبل أن أتصوف كنت راهبا. برلين، ألمانيا: دارة ابن الزكري.
أيضا تصفح كتابنا:
الزكري القضاعي، م. (2024). صدى يسوع الناصري: البصمة الروحية لجماعة الآباء والأمهات في رمال الجزيرة العربية. برلين، ألمانيا: دارة ابن الزكري الألمانية.
AlZekri alQudai, M. (2024). Echoing Jesus of Nazareth: The Spiritual Imprint for the Community of Fathers and Mothers in the Arabian Sands. Beril, Germany: Darat Ibn alZekri alAlmaniya.