التنويريدراسات دينية

رمضان شهر الجود والسَّخاء

يعتبر شهر رمضان موسمًا عظيمًا لزرع الخير، وميدان للتنافس في الجود والسخاء لما فيه من الأجر والمغفرة والثواب، لذلك نرى في المجتمعات الإسلامية تسابقًا للخيرات وسعيًا لمساعدة الفقراء والمحتاجين، وفي كل رمضان نشاهد المسلمين يسارعون إلى الإنفاق والإحسان والخير والمحبة، ويسعون إلى جهاد النفس، فيمنحون المحتاج ما يسأل دون أن يطلب، وفي ذلك تمثُّلًا بأخلاق النبوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان كريماً في كل أيام السنة، ولكنَّه في أيام شهر رمضان كان أكثر جودًا،عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، كان أجودُ([1])ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريلُ يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيُدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريلُ أجودُ بالخير مِن الريحِ المُرسَلة”[2].

فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس جودًا وسخاءً وعطاءً وكرمًا في شهر رمضان، وفي تَضاعف جُودِه  صلَّى الله عليه وسلَّم  في شهر رمضان فوائدُ كثيرةٌ منها: شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه والعتق من النار، وفي صحيح الترمذي يقول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: “يُنادِي فيه مُنادٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقصِرْ، ولله عُتَقاء من النار، وذلك كلَّ ليلةٍ”[3]، فما هو مفهوم الجود والسخاء؟ وما علاقتهما بشهر الصيام؟

  1. مفهوم الجود والسخاء:

الجُودُ: خِلافُ البُخلِ، وأصلُ (جود) هو التَّسمُّحُ بالشَّيءِ، وكثرةُ العَطاءِ؛ يقالُ: جاد الرَّجُلُ بمالِه يجُودُ جُودًا، بالضَّمِّ، فهو جَوَادٌ.

 والجُودُ: السَّخاءُ، والجَوادُ: السَّخِيُّ والسَّخيَّةُ، أي: الذَّكَرُ والأُنثى سواءٌ.

 وقيل: الجَوادُ: هو الذي يُعطي بلا مسألةٍ؛ صيانةً للآخِذِ من ذُلِّ السُّؤالِ. وقيل للمَطَرِ الغزيرِ: الجُودُ[4]، ويقابله البخل، والجود هو الذي يعطي بلا مسألة صيانةً للآخذ من ذل السؤال.

 وعرّفه الجرجاني بقوله: الجود صفة هي مبدأ إفادة ما ينبغي لا لعوض[5]، وقيل هو: صفة تحمل صاحبها على بذل ما ينبغي من الخير لغير عوض [6].

وقال الكَرمانيُّ: الجُودُ: إعطاءُ ما ينبغي لمن ينبغي[7].

أما السَّخاوةُ والسَّخاءُ: الجُودُ والكَرَمُ.

والسَّخيُّ: الجَوادُ، يقالُ: سخا وسَخِيَ وسَخُوَ، يَسْخَى ويَسْخو[8].

وقال القاضي عِياضٌ: السَّخاءُ: سُهولةُ الإنفاقِ، وتجنُّبُ اكتسابِ ما لا يُحمَدُ[9] .

قال المُناويُّ: السَّخاءُ: الجُودُ، أو إعطاءُ ما ينبغي لمن ينبغي، أو بَذلُ النَّائِلِ  قبل إلحافِ السَّائِلِ[10]،ويقابله الشح.

أما الفرق بينهما فقال الرَّاغِبُ: السَّخاءُ: اسمٌ للهيئة التي عليها الإنسانُ،والجُودُ: اسمٌ للفِعلِ الصَّادر عنها.

وقال أبو هِلالٍ العَسكَريُّ: الفَرق بين السَّخاء والجُودِ: أنّ السَّخاءَ هو أن يلين الإنسان عند السُّؤال، من قولِهم: سَخَوتُ الأديمَ: ليَّنْتُه، وأرضٌ سَخاويَّةٌ: ليِّنةٌ.

والجُودُ كَثرةُ العطاءِ من غير سُؤالٍ، من قولِك: جادت السَّماءُ: إذا جادت بمطَرٍ غزيرٍ، والفَرَس الجوادُ الكثيرُ الإعطاءِ للجَرْيِ، واللهُ تعالى جَوادٌ؛ لكثرة عطائِه فيما تقتضيه الحِكمةُ[11].

  • علاقة الجود والسخاء بالصيام:

رمضانَ شهرُ الجود، ورمضان شهرُ السخاء، فالنفوس في هذا الشهر تقترب من مولاها، وتنبعث إلى ما يزكيها ويطهّرها من شحّها، قال تعالى: “وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”. التغابن16.

فالفائز من وقاه الله شح نفسه وغلبها بالبذل والجود والسخاء  وامتثل لأوامره تعالى وانقاد لشرعه وهذا هو الفلاح المنجي في حقيقة معناه.

وقد حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أتباعَهُ على الجود والكرمِ وبشَّرهم بالجائزة العظمى والقيمة المُثلى، ألا وهي حبُّ اللهِ تعالى للكَرَم والكُرَمَاءِ، والجُوْدِ والأَجْوَادِ الأسخياء، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ اللهَ كريمٌ يحبُّ الكرم، ويحبُّ معالي الأخلاق، ويكره سَفَاسِفَهَا”[12].

كما أن السَّخاء أصلٌ من أصول النَّجَاة، وهو من أخلاقِ الأنبياء عليهم السلام،وعندما ذكر الله لنا صفاتِ المتَّقين في أوائل سورة البقرة، ذكرَ من جملتها الإنفاقَ، فقال تعالى: “الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ” البقرة3 .

ولا بدَّ من التَّأْكيد على أن الجود والسخاء الذي يحبُّه الله ويحبُّ أهله هو ذلك العمل الخالص الذي يخلو من شوائب الرياء والمَنِّ والإيذاء، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ “البقرة 264، وقال عزَّ من قائل: “الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ “ البقرة 262.

وإذا كان الجود والسخاء أيها الصائمون مرتبة عالية من درجات الإيمان خصوصا إذا اقترن بالصيام فإن البخل نقص من الإيمان، لأن الله تعالى وعد المحسنين ثواب ما أنفقوا مكافأة على فضيلة الإحسان التي هي في الحقيقة فضيلة الإنسان قال تعالى: “مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ” البقرة 245، ثم أن يخلف عليهم ما أنفقوا أضعافا مضاعفة، إذِ المحسن لايجود بدارهمه على الله ولكنه يُقرضه إياها قرضا حسنا متى وضعها في يد الإنسانية الفقيرة، ويوم يخرج الإيمان من قلوب الأغنياء تخرج أرواح الفقراء من أجسامهم فيموتون بالجوع وبالعُري وبالمرض وغيرها من أسباب الموت، وكلها مظاهر متعددة لسبب واحد وهو في الحقيقة كفر الأغنياء كفرا في الضمير لاكفرا في اللسان[13].

أيها الصائمون الكرام: للجود والسخاء فضائل لا تُحصى، فالجود إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتهم، والإنفاق يضاعف الأجر والثواب يوم القيامة قال تعالى: “مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” البقرة 261.

فبِالسخاء تصفو النّفوس وتمتلئ القلوب بالمودة والمحبة وتخلوا من أمراض الحقد والكراهية، والجود دليل على الرحمة، والشعور بالآخرين، فالصيام والصدقة أبلغ في تكفير الذنوب والخطايا واتقاء جهنم، كما أنه سبب لتيسير الأمور، وتفريج الكربات، وإعانة الرب جل وعلا، فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، قال ابن القيم رحمه الله: “وللصدقة تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر أو من ظالم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جربوه[14].

والسخاء سبب في بركة المال ونموِّه وزيادته، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “ما نَقَصَتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ” [15]، فصدقةُ المال تطهِّره وتَزيد البركةَ فيه أضعاف ما يعطي بأن يَنجَبِرَ بالبركة التي تتعدد صورها في الصحة والنفس والأهل والأولاد، كما أنها تكونُ طاعةً للهِ، وإغناء للفُقراء، وبها يَقطع المتصدِّق أسبابَ الشَّرِ في النُّفوس، فالصدقة تَجبُر ما فيه من النَّقص والخلل؛ ولهذا وجَبت في آخِر شهر رمضان زكاةُ الفطرِ طهرةً للصائم من اللغو والرَّفث.


[1] قال ابن حجر في فتح الباري 1/ 30: هو برفع “أجودُ” هكذا في أكثر الروايات، و”أجود” اسم كان، وخبره محذوف، وفي رواية الأصيلي “أجودَ” بالنصب على أنه خبر كان، قال النووي: الرفع أشهر، والنصبُ جائزٌ؛ اهـ، مختصرًا.

[2] رواه البخاري 3/ 1177_ 3048، ومسلم 4/ 1803_2308.

[3] صحيح الترمذي1/ 209

[4] يُنظَر: الصحاح للجوهري 2/461، مجمل اللغة لابن فارس ص: 202،

[5] – كتاب التعريفات ص79

[6] – كتاب موسوعة الأخلاق الإسلامية ص170 المكتبة الشاملة.

[7] يُنظَر: تاج العروس للزبيدي 7/527

[8] لسان العربلابن منظور 14/373

[9] يُنظَر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/230.

[10] يُنظَر: تاج العروس للزبيدي 31/ 42.

[11] الفروق اللغوية ص: 173

[12] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 11: 143 عن طلحة بن كريز

[13] ينظر محمد صادق الرافعي كتاب المساكين ص58 بتصرف

[14] الوابل الصيب ص: 49

[15] صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 2588
________

 *أحمد اللوكي: أستاذ باحث في العلوم الشرعية.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة