التنويريمكتبة التنويري

أسرار عالم الدعاية والحرب النفسيَّة في “عقول خفيَّة”

لقد صبغت التكنولوجيا العالم الحديث بصبغتها، على كافة الأصعدة، فلم تعُد المعارك في العصر الحالي كسابقة عهدها في العصور القديمة، تدور في ساحات القتال، بين فرق من الجنود المدججين بالأسلحة، تكون فيها الغلبة لمن يفوق الآخر في القوة والعتاد فحسب، دون أي اعتبارات للقوة العقلية، فالصراعات اليوم أصبحت أكثر تعقيدًا وتشعبًا، واعتمادًا على العقل، حيث تتضمن وجوهًا أخرى، بجانب المعارك السياسية، مثل الحروب السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى الحروب النفسية، التي تكمن خطورتها في أنها تحدث في الخفاء، وتتسلل من خلف الستار، وبالتالي يصعب اكتشافها والتصدي لها.

وفي هذا السياق، يدور كتاب “عقول خفية.. إستراتيجيات الإعلام والحرب النفسية ” للدكتور خالد محمد غازي (وكالة الصحافة العربية- ناشرون) والذي يسبر فيه المؤلف أغوار عالم الدعاية، باعتبارها أبرز أدوات الحرب النفسية، فيدخل دهاليز التكتيكات المُستخدَمة للتأثير على الفرد والمجتمعات، وتحويل المعلومات إلى سلاح فتاك، مسلطًا الضوء على أبرز المفاهيم والتطبيقات والمقاربات المختلفة لهذه الأدوات، كما يستعرض الطرق التي يمكن من خلالها التصدي لهذه التكتيكات.

ويرى  الكاتب ضرورة دراسة هذا الموضوع بتعمُّق، نظرًا لأن السبيل الوحيد لحماية عقولنا من التلاعب بها هو إدراك حقيقة الدعاية وتأثيرها، مما  يمكن أن يمنحنا القوة للتصدي لها، كما يمكن أن يساعدنا في تطوير نقدية ذهنية ووعي معرفي، فالدعاية أصبحت اليوم تشكل جزءًا لا يتجزأ من فهمنا للعالم من حولنا، حيث تحاول القوى المتصارعة من خلالها أن تتحكم  في تصوراتنا، مشاعرنا، وقراراتنا، ومن ثم تشكيل الوعي الفردي والجمعي، وتوجيه الرأي العام، وذلك من خلال التسويق الفوري للمنتجات التي تظهر على شاشات التلفاز، والأخبار السياسية التي تبثها.

الدعاية كأداة للحرب النفسية

والحرب النفسية، كما يعرّفها المؤلف هي “حملة شاملة تُستعمل فيها كل الأدوات التي يمكن استعمالها، وكل الأجهزة للتأثير في عقول جماعة محددة، لتهديم قناعات معينة، وإحلال أخرى في مكانها، تتماشى مع مصالح الطرف الذي يشن الحملة”، بينما كان أول ظهور للمصطلح بشكل رسمي، على يد الأمريكي لينبارجر (Lindberg) في كتابه “الحرب النفسية”، عام 1954م، وقد عرَّفها بمعناها الضيق: “أنها استخدام الدعاية ضد العدو، مع إجراءات عملية أخرى ذات طبيعة عسكرية، أو اقتصادية، أو سياسية مما تتطلبه الدعاية”.

وتوجَّه الحروب النفسية للفرد أو الجماعة على حد سواء، مستخدمة الوسائل السيكولوجية والمعنوية وأساليب الدعاية، للتأثير في معنويات العدو، ولتغيير اتجاهات الناس، والتأثير في مشاعرهم وميولهم وأفكارهم وآرائهم ومعتقداتهم، وتهدف بشكل أساسي إلى تغيير السلوك، بالإضافة إلى تغيير المشاعر والميول، بما يتناسب من مصالح الجهة المُطلِقة لها.

ولا تقتصر الدعاية المستخدمة في الحروب النفسية في توجهها على الحلفاء والموالين، بهدف رفع الحالة المعنوية للمقاتلين، وبث حالة الحماس لدى المدنيين، لتثبيتهم، ودعوتهم إلى التمسك بعدالة قضيتهم، وضرورة كسب الحرب، لكنها توجه أيضًا إلى الأعداء، لتثبيطهم، وإقناعهم بعدم جدوى الاستمرار في الحرب، وأن الاستسلام هو الحل، وكذلك توجه إلى الموالين والمحايدين، لكسب تعاطفهم ودعمهم المادي والمعنوي.

الحرب النفسية على مرّ العصور

 ويُرجِع الكاتب نشأة الحرب النفسية إلى أقدم العصور، موردًا بعض الأمثلة على كيفية توظيفها لدى الشعوب القديمة، فقد استخدم الفراعنة الحرب النفسية ضد أعدائهم، من خلال إظهار قوة وهيبة الآلهة المصرية القديمة التي يعبدونها، لزرع شعور الخوف والرهبة في قلوب أعدائهم، وقام الإغريق القدماء باستخدامها ضد الفرس، عن طريق تضخيم عدد جيشهم وإظهاره أكبر مما هو عليه فعلًا، وفي الحضارة الإسلامية، كان للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- دور كبير في استخدام الحرب النفسية، لتعزيز مكانة المسلمين وزرع الثقة في نفوسهم، وكذلك استخدمها صلاح الدين الأيوبي في غزوة عين جالوت، حيث أرسل الرسائل إلى المغول، لزرع شعور بالخوف لديهم، ولإظهار قوة المسلمين.

أما في العصور الحديثة، فقد توسعت عمليات إدارة الحرب النفسية، بتطور الوسائل والتقنيات الحديثة، ففي حرب يونيو عام 1967، كانت هزيمة مصر نفسية، حيث افتقدت القيادة العسكرية المصرية للدقة والتخطيط المناسب، وبالغت في تقدير قدراتها وإمكاناتها، وعندما ضرب الجيش الإسرائيلي الطيران المصري في بداية الحرب، أدى ذلك إلى فقدان القيادة العسكرية المصرية للثقة بنفسها و”انهزامها نفسيًّا”، وفي حرب العراق عام ٢٠٠٣، استخدمت الولايات المتحدة الدعاية والحرب النفسية، للتأثير على الرأي العام العراقي، والتأكيد على ضرورة حرية الشعب العراقي واستعادة الديمقراطية، كما تم بث أخبار مضللة عبر وسائل الإعلام، لتشجيع العراقيين على الإطاحة بالنظام السابق.

ويسلط الكتاب الضوء على الحرب الإلكترونية كأحد أشكال توظيف الحرب النفسية والدعاية، حيث سهَّلت التكنولوجيا الحديثة إطلاق الدعاية والحرب النفسية، والوصول إلى جمهور أوسع من الناس، من خلال استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ومن أبرز الأمثلة في هذا الصدد، هجوم الولايات المتحدة على برنامج إيران النووي في عام 2010، حيث أطلقت الولايات المتحدة هجومًا إلكترونيًّا على برنامج النووي الإيراني، وقامت بزرع برامج خبيثة في أنظمة الكمبيوتر الإيرانية المستخدمة في البرنامج. وفي الوقت نفسه، قامت الولايات المتحدة بإطلاق حملة دعائية لنشر الرسائل التي تدعو إلى إنهاء برنامج النووي الإيراني.

استراتيجيات مقاومة التلاعب النفسي

وفي هذا السياق، يوضح الكاتب أهم الأدوات والتقنيات التي يمكن استخدامها لمكافحة الحرب الإلكترونية، ويتم استخدامها بشكل متكامل وفعال لضمان حماية الأجهزة، والشبكات والمعلومات والأفراد والمؤسسات من الهجمات والاختراقات الإلكترونية، مثل البرامج المضادة للفيروسات والبرمجيات الأمنية، جدران الحماية والتصفية، تقنيات الكشف عن التهديدات، تقنيات الحماية من الهجمات الموجهة، تقنيات التحكم في الوصول.

وذلك بالإضافة إلى جهود المنظمات الدولية بالتعاون مع حكومات الدول، لمكافحة الحرب الإلكترونية وتقديم الدعم والتمويل للأبحاث والتطوير في هذا المجال، ومن أهم ثمارها “مبادرة تعزيز الأمن الإلكتروني للمياه العذبة”، التي تم إطلاقها من قبل الأمم المتحدة في عام 2018، وتهدف إلى مكافحة الهجمات الإلكترونية على البنية التحتية المائية وحمايتها من الهجمات الإلكترونية.

كما يستعرض د. خالد غازي، بعض استراتيجيات مقاومة الدعاية والتلاعب النفسي، والتي تتمثل أهمها في تطوير قدرات الفرق الأمنية والاستخباراتية، لجمع المعلومات وتحليلها ورصد الأنشطة الدعائية والحرب النفسية، كما يمكن للحكومات والمنظمات الاستفادة من التقنيات المتقدمة لمواجهة الدعاية المضادة، وتوظيف التحليل الذكي والاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية.

ويُعد التعليم الإعلامي من أهم وسائل مقاومة الكذب والخداع، وذلك عن طريق إدماج مساقات دراسية حول وسائل الإعلام والثقافة ضمن مناهج التعليم في المدارس والجامعات، وتدريب المعلمين على كيفية تنمية هذه المهارات لدى الطلاب، وتعليمهم كيفية تحليل الرسائل الدعائية، والتعرف على استراتيجيات التلاعب المعتادة، مثل استخدام الإحصاءات المضللة، وتحرير الصور والفيديوهات.

كما تقع على عاتق القائمين على وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة في هذا الصدد،  إذ يجب عليهم استخدام وسائل الإعلام لتوعية الجمهور حول خطورة الحرب النفسية، وتأثيراتها على المجتمع، ومكافحة الشائعات والأخبار المضللة، ولن يتم ذلك إلا من خلال استخدام وسائل الإعلام بمهنية عالية، والاعتماد على المعلومات التي تم التحقق من صحتها ومصدرها الموثوق.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة