يعيد هاهنا سلوتردايك في كتابه “تدجين الكينونة“[1] أو “قواعد من أجل حضيرة بشرية“[2] إلى مُعاياة الفلسفة الهيدغرية، ووضعها على المحكّ النقدي بدءا من رأسها إلى أخمص قدميها من أجل تقليب حجر الأثافي في فلسفته وقراءتها وإدمان النظر الفلسفي فيها وإماطة اللّثام عن هذا “الغول الفلسفي“؛ مارتن هيدغر الذي سكن الغابة، وأربك كثيرا من الخلق الفلسفي، وألقوا بأقلامهم توجسا وخيفة من كتاباته الفلسفية المعتاصة، حين اتخذ من سفوح جبالها مكانا عليّا جعله “خلوة” فكرية و”جلوة” متدبرا ومتوحدا لا يكلم إنسيا إلاّ لِمَاما، شأنه شأن كبار المتصوفة في الشرق.
وبعيدا عن ضجيج المدن ينظر الفيلسوف هيدغر “الفيلسوف الريفي” من كُوَى فلسفية للعالم ويراقب عن كثب لما يجري في سديمه من أحداث ووقائع قد يشيح وجهه عنها بما هي تجاريب وتمارين يائسة في الابتذال والتفاهة اليومية، كما خبرها الدّازين “الكينونة الهناك” أو “المَوْجِدُ” في اليومية صحبته مع الآخرين هؤلاء الجمع الغفير المشار إليهم بـ”الهُمْ” في “الكينونة والزمان“[3]، حيث إن عزلته لخصها الشاعر المتنبي بحبكة متناهية “لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس/ ولا يرد عليك الفائت الحزن/ لا تلقي دهرك إلاّ غير مكترث/ مادام يصحب فيه روحك البدن“، وهي حال الغربة التي تأكل شطرا من عمره في غمرة الهُم وضياع وجوده وانفصاله عن موجديته. فهو موجود/ كائن* مع بقية الموجودات، ولكن هيدغر قد تستفزه، فينبس ببنت شفة ويخرج من وحدته ويظهر من مغارته ليتكلم حين يتوجب الكلام الفلسفي ويصمت حين يتوجب الصمت بما هو أيضا ضربا من اللغة المطمورة التي يجب أن نسترق السمع إليها. فكما أن “العين تسمع وتتكلم” بتعبير سلوتردايك، كذلك “الأذن تعشق قبل العين أحيانا“، كما يقول شاعرنا بشار بن برد، وهي تسمع وترى كما عند هيدغر.
لذلك يدعونا بيتر سلوتردايك ههنا إلى “ضيافة” هيدغر ليس على غرار ضيافة كنْط الغير مشروطة، التي يصبغها صبغة أخلاقية يسميها “الضيافة الحسنة” للآخر الأجنبي، بل هي أقرب لشكل الضيافة التي خطخطها دريدا تلك “الضيافة المشروطة“[4] من أجل قراءته من وجهة نظر أنثروبولوجية وأنتولوجية “تفكرا مع هيدغر ضدّ هيدغر“[5] على نحو مختلف. قراءة تعيد ما لم يقرأ بعد ميتافيزيقا بعيون زائغة تنزع عن هيدغر ما ترسب في فلسفته من بقايا اللاهوت المسيحي وتخلصها من كل الشوائب العالقة بها سواء الإيديولوجية التي اتهم فيها هيدغر بالنازية والتواطؤ مع النظام الهتلري وسياسة الغستابو أو اللاهوتية التي تعدّه لاهوتيا متنكرا وجاحدا لمعلمه إكهارت.
بيد أنّ سلوتردايك يعتبر أنّ هيدغر هو الذي رفع الحرج الفلسفي على الفلسفة الأفلاطونية التي فرشت مفاهيمها الميتافيزيقية على الكائن تحت منظار فلسفي حدّق بعيدا عن معنى الكينونة وحجب الأنظار عنها ومن ثمّة خطّ أول نسيان فلسفي لها ممّا اعتبرها هيدغر أول نظرية فلسفية “حينما بدأت بتأسيس أول روتين نظري“[6]. هذا الملل والضجر النظري الذي سنّه أفلاطون على رقاب المتفلسفين من بعده وأطلق عليه تسمية الميتافيزيقا التي تتلخص في نظرية المعرفة بما هي نظرية “المثل” أو “الأفكار“، “الأيدوس“. كما كان أوّل فيلسوف أشعل فتيل الحرب بين الفلسفة والفكر العامي، حرب أهلية لم تخب نارها ولم يهفت أوارها حتى هيدغر الذي كان له نصيبا منها.
ولكن ما يميّز هيدغر عن الفلاسفة قاطبة حسب سلوتردايك أنّه برع أيّما براعة في استخراج مفهوم “التوبوس” (Topos) “المكان” الذي نحتته يراع أفلاطون واستخدمه أرسطو لحين. ومن لطائفه الفلسفية أنّه قام هيدغر في الآن ذاته بتأثيل الكلام الفلسفي وتشقيقه بين الفينة والأخرى، فاستنبت لنا فلسفة أثيلة يجعل من الدّازين على قلق يحركه التزمن ويدرك كينونته في الخلوة بما هي جلوة تنضو عن عرائها وتتكشف. فلا استغراب في القول أن هيدغر سيهُذّ علينا خطابا مستعجما في الفلسفة مدار الكلام الفلسفي فيه ينحدر من بدء السؤال عن معنى الكينونة وآخره انعطافا على الشعر مثل هولدرلين وركليه. ومن النكات الطريفة لهيدغر أنّه قام بتحديث مفهوم “التّومازاين“[7] (thaumazein) “الاندهاش” “الباثوس” على خلاف الاندهاش الميتافيزيقي كما تبلور في عشرينيات القرن العشرون والذي يقبع تحت المقولات الأرسطية بطرح سؤال الكيف والأين؟ وإنّما هو اندهاش وجوداني يثوي خلف السؤال الأنتولوجي الكائن يكون ويحدّق في الكائن “الذي” يكون بما هو “معجزة كلّ المعجزات“.
هذا الاندهاش يظل قابعا في ثنايا الوجود بما هو إنصات أنتولوجي لكينونة الكائن الذي هو نحن كلّ مرّة وما يجري تحت غفلة منها. فهو يصوّب نحو وجهة الغريب والمرعب داخل الوجود الإنساني لكشفه وإظهاره للعيان بلا نظارات ميتافيزيقية ومن ثمّة تنجلي فظاعات عصر الحروب العالمية وكارثية السياسة ووحشية التقنية التهديمية للحديقة الإنسانية وإبادة الجنس البشري بعدما قامت بتدجين الكينونة من ذلك مثلا “الغيستابو” الذي قام بتصفية خصوم هتلر وتحويلهم إلى أشباح مخيفة. وذلك ما انسحب على أدب التحولات الكبرى ضمن سرديات فلسفية كما في الفلسفة الوجودية وخاصة في كتابات سارتر الأدبية ولوكاتش في نقده للعقل وصفا للعصر التطرفات. وفي نهاية القرن العشرين ظهرت كوكبة من الفياكرة تحت اسم مشفر “”ما-بعد الحداثة” “ما-بعد ماركسية” و”ما-بعد راديكالية” و”ما-بعد قيامية” و”الريبيون الجدد” و”الأخلاقيات الجديدة“[8].
بيد أن “المتوحش“[9] ما يزال رابضا فوق إسطبل الوضعية العالمية التي شكلت الحرب الباردة التي قامت على استخدام التقنية الذرية والتقنية البيولوجية وتجريبها على الوجود الإنساني. وحينذاك يلتفت سلوتردايك مشيرا بسبابته إلى التأمل الهيدغري الذي أماط اللّثام عن “الوجدية الأنتولوجية“[10] التي فتحت العيون الفلسفية على العالم ما بعد الكائن الفردي والتي من خلالها نستطيع فهم الأزمة الراهنة حول تعريف البيولوجي للإنسان وللجنس البشري أو بالأحرى “البيو-تقني” إنساني والتي أفرد لها كتيب بعنوان رشيق: “قواعد من أجل حضيرة بشرية“[11]. لذلك هيدغر يعدّ أوّل فيلسوف بلا منازع حين حدّق في ماهية التقنية بما هي انكشاف وتعني “الإنتاج“[12] “إنتاج الكائن” هذا الحيوان البشري المادي.
لذلك يدعونا ههنا سلوتردايك للتفكير مع هيدغر والإنصات إلى الكلام الفلسفي عن التقنية مع معاندته في القول حول الأنثروبولوجيا التي وأدها تحت ركام الأنتولوجيا ولذلك أخذ سلوتردايك العصا الفلسفية من الوسط للتقريب بين الأنتولوجيا والأنثروبولوجيا ضمن تصور فلسفي جديد لم تشنف له الآذان الفلسفية بعد حيث يقول سلوتردايك:” لقد زفت الساعة للتحالف مع هيدغر مفكر الوجدية الوجودية (…) مع وضع قوسين لرفض هيدغر لكل أشكال الأنثروبولوجيا التجريبية والفلسفية وتجريب تصورا جديدا بين الأنتولوجيا والأنثروبولوجيا“[13]. وهكذا تبدو الوضعية الأساسية للكينونة الإنسانية التي تحمل اسم “الكينونة-في-العالم“[14] بما هي وجود هناك يجرنا إلى الخارج حيث “جلاء الكينونة“[15] والتي تكوّنت نتيجة هذا الإنتاج الذي سيقودنا إلى الخارج بحثا عن “الوجدية” (extase) التي هي ماهيتها أو مائيتها.
بيد أن هذه الطبيعة البشرية المتحجبة والمتسترة هي “غير موجودة” والتي من خلالها نريد التلفت نحوها واعتمال الفكر الفلسفي فيها على نحو مختلف وغير مسبوق في الفلسفة لكن ثمّة دائما في طريق الفلسفة منحدر زلق وتعرجات والتواءات علينا التنبه إليها مثلما سيعترضنا في تأملاتنا معنى أنتولوجي لعبارة “تقنية الوجدية” التي وحدها بمستطاعها قراءة “وضعية الإنسان في العالم” تحت عدسة نظر هيدغرية كوضعية “تقنية-وراثية” متمثلين بين الفينة والأخرى تاريخ الأنسنة كسردية التيه. لذلك سيمعن سلوتردايك النظر في وضعية الكينونة في العالم بعيون هيدغرية تفكيرا معه حينا ومعاودة الفلّي في مفاهيمه الفلسفية التي أفلقها وبرع في تشقيقها من الكلام الفلسفي وحينا آخر متجاوزا له معبّدا الطريق نحو التفكير المضاد لهيدغر مصالحا بين الأنتولوجيا الهيدغرية والأنثروبولوجيا التي جعلها قبلة لأسئلته الفلسفية.
ولذلك يؤكد سلوتردايك بين الفينة والأخرى التفكير مع وضدّ هيدغر وفي شأن ذلك يقول: “أطلب إذن أن نفكر مع هيدغر ضد هيدغر“[16]. لذلك علينا أن نسأل للتوّ مع سلوتردايك: “كيف أتى الإنسان للجلاء؟ وكيف أنتج النور لتنوير واحد حيث العالم بما هو عالم قد استطاع البدء في الإضاءة؟”[17]. تبدو هذه الأسئلة محرجة ومقلقة تعشقها الأذن قبل العين أحيانا. لذلك علينا تملّك رهافة في الحس الفلسفي حتى نسترق السمع لإيقاعها الداخلي ونكتشف قانون غبطتها ونقف على طرافتها باعتبارها أسئلة لم تطرح من قبل.
[1]-Peter Sloterdijk, La Domestication de l’être, traduit de l’allemand par Olivier Mannoni, édition, Mille et une Nuits, 2000. [2]-Peter Sloterdijk, Regeln für den Menschenpark: Ein Antwortschreiben zu Heideggers Brief über den Humanismus, Suhrkamp Verlag, Frankfurt am Main, 1999. [3] – مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2012، §.27. الكينونة اليومية للنفس والهُمْ، ص.255: “كُلٌّ هو الآخر وما من واحد هو ذاته“.
* ننبّه إلى أنّ اختلاف الترجمات العربية للمتن الفلسفي الهيدغري خصوصا المصطلحات الفلسفية مثل عبارة “الكينونة” (فتحي المسكيني وطه عبد الرحمان وغانم هنا) تترجم بـ”الوجود” (محمّد محجوب وعبد الرحمان بدوي) حينا و”الكوْن” (إسماعيل مصدق وموسى وهبه) أحيانا و”الأيْس” (تفرد بقولها الكندي دون غيره) أحايينا وكذلك عبارة “الكائن” و”الموجود” و”الدّازين” (هيدغر) بـ”الكينونة-الهناك” (فتحي المسكيني) و”المَوْجِدُ” (نحتها محمّد محجوب). ولكن نكتة الاستشكال مرة نجد عبارة “الوجود” و”الموجود” في الكتابات الفلسفية لدى كتابنا ومرة أخرى نقف على عبارة “الكينونة” و”الكائن” ممّا يدخل بعض الريبة في فهمنا. ولكن هذه المصطلحات ينبغي أن تحسم أمرها بلا رجعة وحتى يرفع عنها القلق من لدن نظار الفلسفة العرب المنشغلين بفلسفة هيدغر ويسن له قاموسا لجميع مصطلحاته الفلسفية والمفاهيم جريا على عادة الفارابي في كتابه “الحروف“. وبذلك يحسم الأمر في ترجمتها وحتى لا يخلط على القارئ قراءة هيدغر بلسان عربي مبين ويزول الالتباس والغموض عن الفهم في ترجماتهم لهيدغر إلى لغة الضاد. فكثيرا من المعاني تضيع وراء تجاور هذه العبارات المستشكلة التي لا تزيد في لساننا العربي المبين إلاّ شرودا.
[4]- جاك دريدا واليزابيث رودينيسكو، ماذا عن الغد؟ “محاورة ” جاك دريدا، ترجمه عن الفرنسية: سلمان حرفوش، قدم له: د. فيصل دراج، دار كنعان، الطبعة الأولى، 2008، صص.114-115. [5] -Peter Sloterdijk, La Domestication de l’être, Op.Cit., p.19 : «Je demande donc, pensant avec Heidegger contre Heidegger.». [6]- Ibid., p.9. [7] – Ibid., p.9. [8] – Ibid., p.14. [9]- Ibid., p.16. [10] – Ibid., p.17. [11]-Peter Sloterdijk, Regeln für den Menschenpark: Ein Antwortschreiben zu Heideggers Brief über den Humanismus,O. [12] – Peter Sloterdijk, La Domestication de l’être, Op.Cit., p.18. [13] – Ibid., p.19. [14] – Ibid., p.19. [15] – Ibid., p.19. [16] – Ibid., p.19. [17] – Ibid., p.19.* الدكتور الصادق عبدلي باحث من تونس متحصل على الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة…