في إطار نوع مختلف من الكتابة، ينتمي إلى حقل السيرة، يصور ارتباط الوجود الفردي بأشياء وذكريات وتفاصيل كثيرة صدر عن دار العين كتاب ” ذاكرة الوصال،سيرة متأملة في الحياة والفن”، للكاتبة والروائية لنا عبد الرحمن، بالتزامن مع انعقاد معرض القاهرة الدولي للكتاب. تناولت المؤلفة من خلال مقالات الكتاب الموزعة على أربعة فصول، تشبه الفصول الأربعة، علاقتها مع الحواس والفنون والكتابة، وفق تحولات زمانية بدأت بها عبر ذاكرة الطفولة، لتمضي بها في رحلة زمنية لسنوات النضج.تقول : أخذتني الحواس في دوامة الصور والأصوات والروائح والطعوم والذاكرة والحكايات القديمة، التي كادت أن تتلاشى من مخيلتي، لولا رغبة بعيدة في كتابتها، وملامسة ذاك الخيط الفضي، الذي يربط طائرة ورقية حلقت على أسطح الجيران ومضت شاردة في الأفق، تلاحق الحلم البعيد. الكتابة تعني الذاكرة، والحرية، والبحث بشغف عما ضاع منا في متاهة الحياة… أفكر بالصبية التي كُنتها ذات يوم، وكيف كان لها أحلام كبيرة، تلاشى منها الكثير، مع أوراق الخريف، ومع كل ما زال من ذكريات.
في الفصل الأول الذي يحمل عنوان ” مائدة الحواس”، حكت فيه عن أثر الرائحة، وعن الرسائل الضائعة، وفناجين الغرام، وحساء الدجاج للقلب العليل. ثم انتقلت في فصل ” بيت بيوت”، لتحكي عن علاقتها مع الأماكن والبيوت الملهمة، التي تترك في أرواح قاطنيها أثرا لا يزول، كما تناولت حالات وجودية مثل الخوف والأرق، قائلة : ” بين الأحلام والأرق، حين أنظر الآن للسنوات الماضية لطبيعة العلاقة التي تشكلت بيننا، أُدرك أني عانيت طويلًا من كليهما، إذ ظل الأرق رفيقي لسنوات، لم يكن يغمض لي جفن قبل أن تقترب ملامح الفجر من التجلي، وهذا كان يسبب لي التعب، رغم أني أستفيد من تلك الساعات للقيام بمعظم المهام المطلوب إنجازها صباحًا، سواء إبداعية أو منزلية، إلا أن حالة الأرق بحد ذاتها لم تكن تروقني، كنت وما زلت معجبة بالأشخاص الصباحيين الذين يستيقظون بكامل نشاطهم عند السادسة، ثم ينطلقون في ممارسة مهامهم المعتادة.”
لكن ثمة نوستالجيا تتجلى أكثر في الفصل الثالث ” أذن تعشق، عين تسمع، وجوه وأصوات”، مع اتضاح علاقة الكاتبة مع الفنون، سواء الموسيقى أو السينما. إذ تتحدث عن رؤيتها لمجموعة من المبدعين مثل : بليغ حمدي، داليدا، شارل أزنافور، أحمد زكي، مارلين مونرو، وغيرهم، وتتوقف عند مسلسل ” ليالي الحلمية، كي تطل عليه عبر شرفة الذاكرة.
وبين سحر التلقي للفن والخيبة منه، يأتي الفصل الأخير ” عن الكتابة والحب”، في هذا الفصل قدمت عبد الرحمن، رؤيتها لفعل الكتابة، وآثاره، قائلة : ” من أين تأتي الكتابة؟ وإلى أين تمضي؟ وأنا المسحوبة مثل مخبولة من حكاية إلى أخرى، كيف سأوازن بين ما يحدث في أيامي، وأيامهم؟! في الأدب ثمة نوع من الحب، يتشكل نحو النص، فننحاز له ولا نرى عيوبه. كثيرة هي النصوص التي بهرت أصدقائي الذين أثق بذائقتهم الأدبية، ورأوا فيها اللمعان الأقصى، وعندما اقتربت منها لم أر النص كما رأوه. يحصل العكس أيضًا، أن أنحاز لحب أحد النصوص، ولا يرى الآخرون فيه ما رأيته. هل هذا يعني وجود عيب في الذائقة الأدبية لي أو لهم؟ لطالما شغلني الأمر، لكن افتراض وجود علاقة الحب بيننا وبين نص ما، يعيد إلي التوازن، والإيمان بحرية الحب والكتابة.”
يأخذ كتاب ” ذاكرة الوصال”، القارئ في رحلة ممتعة بين عدة تفاصيل وذكريات، تنتمي لزمن أبعد من الآن، بحيث يستعيد لحظات زائلة، تركت آثارها ومضت، مثل العلاقة مع الراديو والسحر والأشجار، ومع أماكن وأشخاص، لم يظل منهم سوى تفاصيل محفورة في قلب الكاتبة حملتهم معها من زمن إلى آخر، ثم أطلقتهم في لحظة تجليهم عبر الكلمات، وكأنها تتحرر من ثقل الذاكرة.