صدر عن دار أقلام عربيَّة في القاهرة رواية بديعة من تأليف الروائي محمد بركة يرفد بها سلسلة من إبداعاته الروائيَّة، لكن هذه الرواية مختلفة عن كل ما قدَّم من ذي قبل، وهي رواية فارقة في مسيرة السرد العربي، حيث تدور القداسة المزيَّفة والجسد الجامح والسياسة المرسومة وراء الظلال تمتزج لتكتب تاريخ مصر والمنطقة على نحوٍ غير مسبوق.
النصّ الذي يقدِّمه بركة قطعة من التدفُّق الذي لا يتوقَّف، يأخذك معه فلا تستطيع التوقُّف عن القراءة ويجعلك تتلهَّف من صفحة لأخرى وراء الأحداث، لكن ما يثيرك أنَّ بطل الرواية (مشهور الوحش) يلقي بظلاله على شخصيَّة الشيخ محمد متولي الشعراوي، لكنَّني أرى أنَّ بطل الرواية هو مركَّب من عدَّة شخصيات واقعيَّة لا من شخصيَّة واحده، وأنَّ الرواية تحمل أبعادًا فلسفيَّة واجتماعيَّة حول دور رجل الدين في حياتنا.
تقوم الرواية على شخصيَّة ذات بعد أسطوري تجيد التحدُّث باسم الدين وفي ذات الوقت تلهث وراء المال والنساء، الشخصيَّة رسمها محمد بركة وغاص فيها، ممَّا يجعلك تعتقد أنَّه يصف لوحة فنيَّة أو بورتريه رسمه فنان تشكيلي لشخصيَّة عامَّة تجذب انتباه الناس بحديثها، كما تجذب اللوحة الفنيَّة الجمهور لها فيتأمَّلونها بعمق ويبهرون بها، الرواية تغطِّي ثلاثة أجيال متعاقبة، وهنا نرى أنَّ الرواية تربط تسلسل الأحداث عبر الزمن وتطوُّر الشخوص ومواقفها وهو ربط تمَّ ببراعة شديدة، وتبدأ عندما ولد طفل في قرية بسيطة بدمياط في ومن حكم أسرة محمد علي لمصر، كان أبوه شديد المراس وأمّه عطوفة تحتضن صغارها، هذا الطفل بدت عليه مبكِّرًا نزعة من التفوُّق ونرجسيَّة مع رغبة جنسيَّة عارمة إلى درجة سيطرت عليه وعلى تصرّفاته حتى الكبر ليستقبل في الفندق ببريطانيا النساء، هنا الروائي يستحضر حياة الداعية الشهير طارق رمضان الذي طاردته قضيَّة تحرُّش ذكر أنَّها كانت في أحد فنادق باريس، شهوة المال والسلطة والشهرة تسيطر على البطل فتحكم حياته وتوجِّهها، لنراه يتَّخذ الخطاب الديني أداة لتحقيق رغباته، فينخرط في الصراعات السياسيَّة، لنرى العلاقة عبر الرواية بين الدين والسياسة بين توظيف الدين والسياسة منذ العصر الملكي في مصر حتى كل ما دار في مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952.
لذا فهي لها ظل من التاريخ في نسيج أدبي، فهل أراد الروائي أن يقدِّم نقده للتاريخ في سرد أدبي، لعلَّ هذا ما سيلحظه القارئ عبر صفحات الرواية، وهي تجيء في إطار غياب كتب التاريخ المكتوبة للجمهور وليس لقاعات الدرس الأكاديمي، إنَّ تدفُّق المعاني عبر صفحات الرواية يدعونا أن نحفِّز القارئ إلى الولوج لها فمثلا يذكر الراوي:
فلاح يقف تحت شجرة ورافة الظلال عظيمة الثمار، ليشهد جيرانه من القرويِّين: قسما بربي كانت الشجرة جرداء، وما إن جلس الشيخ الوحش تحتها حتى أصبحت كما ترون، تتفتل النسوة في سوق الخضر حول بطن ارتفعت بعد سنوات طويلة من عدم الإنجاب، فتباهي الأُمّ الحامل الدنيا بعد أن كانت عاقرًا، تروي كيف أنَّها لم تفعل شيئا سوى مطالبة لها بالدُّعاء بالولد الصالح .
يحاصرني الناس في كل مكان، بالمسجد وأمام منزلي وعلى قارعة الطريق هل تجاوزت في مخيلتهم حقا مقام أصحاب الكرامات لأقترب من مقام مستقبل الوحي؟ يجب أن أتوارى قليلا من الخطر أن أكون متاحا للعامَّة طوال الوقت، ماذا لو وقعت الطوبة في المعطوبة وفوجئت بأعمى يرفض أن يغادر بيتي قبل أن أردَّ عليه بصره؟
هكذا قدَّم لنا محمد بركة بطل روايته، جسَّده إنسانا نجح في سرقة عقول الناس وهو بينه وبين نفسه يعرف الحقيقة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.