القاهرة مؤرَّخة؛ عمران المدينة عبر الزمن
صدر عن دار العين للنشر كتاب “القاهرة مؤرَّخة؛ فقرات من تاريخ وعمران المدينة عبر الزمن” الكتاب تحرير وتقديم دكتور نزار الصياد، هذا الكتاب تجربة فريدة في مصر والمنطقة العربيَّة، فدار النشر قدَّمت مع المحرِّر نموذجًا على غرار ما تقوم به دور النشر الدوليَّة، حيث قام الكتاب على استكتاب عدد من الباحثين في كتاب من جزئين بحيث يتناول كل باحث القاهرة من زواية تخصّصه، ومنذ أن أصدر المستشرق الفرنسي أندرية ريمون كتابه عن القاهرة في تسعينيات القرن العشرين، لم يصدر كتاب عنها بمثل هذا الشمول والتنوُّع، فمن باحثين في الآثار إلى مؤرِّخين إلى جغرافيين، البعد الانثربولوجي واضح في الكتاب، فضلًا عن احتوائه على آراء جديدة، وتحليلات غير مسبوقة.
الدكتور نزار صياد بخبرته تدارك الكثير من الأخطاء التي يقع فيها الكثيرون حين يؤرخون للقاهرة من القاهرة الفاطميَّة، فالقاهرة هي تلك المدينة التي بدأت مع الفسطاط وتكوَّرت عبر الزمن ليصبح لدينا مدينة ممتدَّة عبر الزمن، لذا جاء الفصل الذي تناول الفسطاط مميَّزًا من حيث التناول قدَّم الباحث عبد الرحمن الطويل في هذا الفصل استكشافًا للأسباب العسكريَّة والاجتماعيَّة لعدم تسوير المدينة، هذه النقطة استغرقت من الباحث الكثير من مساحة البحث، لكني أرى أنَّ المدينة كانت معسكرًا حربيًّا للقبائل والفرق العسكريَّة التي شاركت في فتح مصر، ظلَّت هذه القبائل لعقود وقود الجيوش الفاتحة لبلاد المغرب والأندلس، ثم تحوَّلت لمدينة داخليَّة في الدولة العباسيَّة وبالتالي لم تكن بحاجة إلى سور، هذا ما كان أيضا في البصرة والكوفة، على العكس من كل من بغداد والقاهرة فكلاهما شيِّد كحصن حربي يضمُّ مقر الحكم، لذا جاء ربض الكرخ وظاهر القاهرة في المنطقة خارج باب زويلة، لكن عبد الرحمن الطويل كان موفَّقًا في تحديد حصن بابليون على جبل إسطبل عنتر وعلاقته مع قصر الشمع بالمدينة، النقطة الثانية التي أثارها الباحث هي الفسطاط وعلاقتها بنهر النيل بحيث صارت ميناءً تجاريًّا وهو الدور الذي أتاح للفسطاط أهمِّيَّة متزايدة على مرِّ العصور، الباحث كان موفَّقًا في طرح أن عدم تسوير الفسطاط أدى إلى اتِّساع الفسطاط حتى امتدَّت شمالًا وجنوبًا.
قدَّم الدكتور طارق سويلم رؤية شاملة لمدينة القطائع التي أسَّسها أحمد بن طولون لتكون مدينة ملكيَّة، في المنطقة الواقعة بين جبل المقطم وشمال الفسطاط، صار لنا تصوُّر كامل للميدان والقصر وتخطيط ومرافقها، عبر مخطَّطات بنيت على المصادر التاريخيَّة، حدَّد لنا طارق سويلم موقع المقابر الطولونيَّة وهذه نتيجة جديدة، كما حدَّد الشارع الأعظم بالقطائع وحدَّد أسواقها،هذا الفصل يعدُّ اضافة لتأريخ القاهرة وتطوُّرها كعاصمة.
قدَّم حسن حافظ قراءة جديدة لتاريخ القاهرة الفاطميَّة، لكنَّه أفرط في إضفاء صفة القداسة على القاهرة بوصفها مركزًا للمذهب الشيعي الإسماعيلي، لكن لا بد عند الحديث عن عزلة الحصن عن العاصمة ( الفسطاط ) يعود لاشتراط علماء السياسة الشرعيَّة على الحكَّام إن يسكنوا في أطراف العاصمة هم وحاشيتهم، وهذا ما صاغ نموذج الحصن والعاصمة، أمَّا قداسة القاهرة فهذا سبب آخر لكن أخذ يظهر تدريجيا في الحنين الشيعي للقاهرة الفاطميَّة،هذا ما نراه اليوم لدى طائفة البهرة، كان من الطبيعي أن تكون القاهرة في ظلِّ الحكم الفاطمي مقرًّا للدعوة الاسماعيليَّة، لكن مع إتاحة القاهرة للمصريِّين صار السنة داخل المدينة، وهنا لا بد من طرح تساؤل هل كان كل الجيش القادم مع جوهر الصقلي شيعي إسماعيلي في ظلِّ انتشار المذهب المالكي والأباضيَّة في المغرب العربي، بل لم يترك الشيعة أثرًا يذكر اليوم في بلاد المغرب.
قدَّمت أمنية عبد البر دراسة عن بناء قاهرة المماليك، لقد أنشأ المماليك مدينة تعكس روح الجسارة والفخامة، وكانوا القوَّة المحرّكة وراء وراء تطوير البيئة العمرانيَّة بالمدينة، ومن خلال سيطرتهم على السياسات والاقتصاد، تحكَّموا في المشاريع المعماريَّة والبنية التحتيَّة الحضريَّة، وبنهاية عهد السلطنة المملوكيَّة في رأيها كانت القاهرة قد وصلت لأقصى حدودها، ثمَّ ما لبثت أن انكمشت في القرون التالية، أكَّدت الباحثة أنَّ كل المشاريع الإنشائيَّة المملوكيَّة جاءت نتيجة لمبادرات فرديَّة كانت تطلقها النخبة السياسيَّة والنخب المدنيَّة، الملمح العام لهذه الدراسة ركَّز بصورة أساسيَّة على عمارة السلطة التي شكَّلت وجه مدينة القاهرة في العصر المملوكي.
قدَّم الباحث معاذ لافي قراءة جديدة للقاهرة العثمانيَّة، ببعد انثربولجي، منطلقه ربط السياسة والعمارة والمجتمع كتفاعل نتج عنه رؤية للقاهرة العثمانيَّة،لقد أصبحت القاهرة مدينة متضخِّمة في القرن 18 الميلادي نتيجة هجرة الفلاحين بصورة أساسيَّة بحثًا عن فرص العمل، هذا ما استلزم بطبيعة الحال إقامة أنواع من المنشآت تواكب هذا العدد الهائل من السكَّان، لكن أيضا هناك جاليَة مغاربيَّة كبيرة استقرَّت في القاهرة، هذا ما قدَّم فيه الدكتور حسام عبد المعطي في كتابه (المغاربة في مصر) إنَّ البعد الذي انطلق منه معاذ في تحليل القاهرة العثمانيَّة هو قصور الأمراء المماليك الذين بنوا قصور مورس من خلالها درجة من السلطة وعكست سطوة هذه الفئة في مصر، وهو ما كان موفّقًا فيه.
قدَّم الدكتور حسام اسماعيل بحثا عنوانه (من قاهرة إبراهيم إلى قاهرة إسماعيل) فهو يرى أنَّ إبراهيم باشا بن محمد على قاد حركة عمرانيَّة في غرب القاهرة حيث القصر العالي فيما يعرف اليوم بجاردن سيتي، كما عمَّر قصورًا في جزيرة المنيل، وعندما آل الحكم إلى الخديوي إسماعيل رأي تخطيط القاهرة على غرار مدينة باريس فردم البرك وخطَّط الشوارع وأنشأ الحدائق والمسارح ودار أوبرا، وهذا البحث الذي جاءَ مركَّزًا كان بمثابة نقلة من القاهرة القديمة إلى القاهرة المعاصرة.
قدَّم لنا عمرو عصام رؤية مثيرة للانتباه تحت عنوان (مدينة شكَّلتها القضبان؛ تاريخ التنقُّل في القاهرة) وهو يرى أنَّ القاهريّين كالقاهرة كلاهما في منطقة بينيَّة من سرديَّة القضبان، التي بدأت بشكل نخبوي تمامًا لخدمة الطبقة العليا من خلال قطارات الضواحي، ثمَّ المشروع الشعبي الكبير الذي بدأ مع الترام وهو يشقُّ طريقه إلى قلب المدينة التاريخي ومناطق السكني الحقيقيَّة للقاهريِّين، وأخيرا مترو الأنفاق الذي يربط أكثر مناطق القاهرة زحامًا وتكدّسًا ويصلها بقلب المدينة، شهدت القاهرة إذًا توسُّعًا في مدِّ قضبان القطارات بالتوازي مع مدِّ خطوط جديدة للترام على مدار ما يقرب من نصف قرن، ثم تغيَّر الأمر كثيرًا في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي شهدت نهاياته بدء تشغيل الخطّ الأوَّل لمترو الأنفاق الذي لم يكن سوى تحديث لمنظومة التنقُّل بالقطار، الباحث يرى أنَّ هناك تخبّطًا في سياسات النقل في القاهرة، وهذه الدراسة من الدرسات النقديَّة الجيِّدة التي حلَّت مادَّة البحث لتقدِّم نتائج مثيرة وملفتة للانتباه.
قدَّم الباحث المتميِّز عاطف معتمد دراسة تعدُّ إضافة على ما جاء في كتاب أندرية ريمون عن القاهرة، حيث توقَّف ريمون عند تأسيس مدينة نصر كضاحية للقاهرة، بينما ذهب عاطف معتمد إلى العاصمة الإداريَّة، والقاهرة الجديدة والضواحي الحديثة الملحقة بالمدينة، ودراسته تستحقّ القراءة بعناية خاصَّة لنقده وتحليلة نمط التوسُّع العمراني للمدينة متسائلًا هل قدَّم قيمة مضافة للقاهرة وحلّ أزماتها، أم أنَّنا أمام رؤى ناقصة تحتاج إلى إعادة النظر والبحث عن حلول جديدة غير نمطيَّة، في الواقع ما طرحه عاطف معتمد يجب قرائته بعناية.
الكتاب الذي بين يدينا يضمُّ أبحاثُا أخرى فريدة كدراسة الدكتورة دوريس أبوسيف عن أقدم الصور للعمارة الإسلاميَّة في القاهرة، ورضوى زكي التي قدَّمت القاهرة في القرن 18 عبر مذكّرات قنصل فرنسي وهذه القراءة تعد رؤية غربيَّة للمدينة مفيدة في تحليل المدينة من زوايا متعدِّدة، وطرحت هالة فؤاد القاهرة كمرآة للذات وملاذ من الجنون، معتمدة على كتابات جيرار دو نيرفال، الذي قدم عنوانًا جريئًا (نساء القاهرة)؛ فالمرأة والقاهرة تتشابهان في كثير من السمات وفقا لجيرار، بداية من الغموض والجديَّة والتقوى التي تغلِّف جمالها وتحجبه عن الرجل الأوروبي السطحي الذي سرعان ما يهرب من القاهرة للصعيد.
تكمل الرؤية السابقة ما قدَّمته كندة السماره تحت عنوان (قراءة القاهرة في مرآة باريس: كتابات بعض أدباء القرن التاسع عشر) فمفهوم التمدن عند رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وغيرهما كان حاسمًا في نقل التمدُّن الغربي للقاهرة، وهذا ملمح مهمّ من الباحثة تناولته بطريقة جيِّدة، لكن كانت الصورة حاضرة في الكتاب من خلال أبرز المصوِّرين المعاصرين للمدينة وهو كريم بدر، في حين كانت لهجة القاهريِّين محلّ دراسة لأحمد عثمان الخولي، هذا بعد مهمّ خاصَّة أنَّ الأقوال الشعبيَّة والأمثال والشعر والأغاني تمثِّل الروابط بين المكان والممارسة، فالأماكن قد تكون أمثلة وتندُّرًا عند أهل المدينة، إنَّ هذا الربط أعطى للكتاب نكهة خاصَّة.
إنَّ كل ما سبق يقود القارئ إلى تقليب صفحات الكتاب بجزئيه، ثمَّ سيجد عينه تجري بين السطور في لهفه للحصول على ما بين السطور، ثم سيرى نفسه وقد جلس هادئًا يقرؤه، ثمَّ يحلِّل مادَّته.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.