حرِّيَّة الفكر

الحريَّة

يكاد لا يتَّفق شخصان في غرفة واحدة على تعريف واحد للحريَّة، إذ إنَّ الحريَّة تخرج من تعريفها الموضوعي، فأصبحت الحريَّة موضوع تعريفات متعدِّدة، وموضوعًا أدبيًّا، واسعًا، وممتعًا. عند النظر إلى جميع تعريفات الحريَّة باختلاف المعرِّفين لها، نجد أنَّ الحريَّة كانت تركِّز على أنَّها عنصر إنساني فطري، وجزأ لا يتجزَّأ من تكوُّن الإنسان على مدار التاريخ.

عرَّفت الموسوعة العربيَّة العالميَّة الحريَّة، بأنَّها الحالة التي يستطيع فيها الأفراد أن يختاروا ويقرِّروا ويفعلوا بوحي من إرادتهم دونما إيَّة ضغوط من أيِّ نوعٍ عليهم.

يرى جان جاك روسو، أنَّ الإنسان يولد حرًّا، وهذا ما سبقه به عمر بن الخطاب حينما غضب على عمرو بن العاص بسبب ابنه الذي ضرب أحد أبناء الأقباط مستغلًّا حكم أبيه، فطلب عمر بن الخطاب بعمرو بن العاص وطلب القبطي، فقال عمر بن الخطاب للقبطي اضرب عمرو بن العاص مثل ما ضربك ابنه، فأنَّه لم يفعل ذلك إلَّا بسلطان أبيه، فقال القبطي لا يا أمير المؤمنين، إنَّما ضربت من ضربني. فقال عمر بن الخطاب متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمَّهاتهم أحرارًا. ونادى بالعدل والحريَّة. فعلى الرغم من اختلاف الأزمان والتوجُّهات الدينيَّة والسياسيَّة، إلا أنَّ ولادة الإنسان حرًّا موضوع يتَّفق عليه الجميع، لكن الاختلاف كان اختلاف تعريفات للحريَّة فهناك من يرى بأنَّ الحريَّة يجب ألا تُحدّ، وأن تكون حريَّة مطلقة، وهناك من يرى بخيال الحريَّة، وأنَّه لا توجد حريَّة حقيقيَّة، وأنَّ الحريَّة مرتبطة بالمجتمع، وما يمكن أن يفعله الإنسان وفق حريَّة إنَّما هو حريَّة مجتمع.

حرِّيَّة الفكر

مع أواخر القرن التاسع عشر بدأ العالم بتقسيم الحرِّيَّة، فتعدَّدت الحرِّيَّات، وبدأ الإنسان بخلق حرِّيَّات وتخلَّى عن حرّيَّات حسب موقعه الجغرافي والاجتماعي. فهناك من يؤمن بحريَّة الإرادة، وهناك من يرى أنَّ الحريَّة الماليَّة هيَ الحريَّة الوحيدة التي يجب أن يسعى إليها الإنسان. وعند الحديث عن اختلاف الحريَّات، وعمَّا يمكن للحريَّة أن تفعله يجب التحدُّث عن إحدى أهمّ الحريَّات لدى الإنسان وهيَ حريَّة الفكر. لا سيما بأنَّ حريَّة الفكر حريَّة ليست محصورة بزمان، أو مكان جغرافي، ولا بنظامٍ سياسيّ معيَّن، فيمكن أن يحصل عليها من يعيش بنظام يقيِّد أي حريَّة فرديَّة أو مجتمعيَّة ويتصوَّر الإنسان فيه كإنسان مقيَّد تمامًا من أيِّ الحريَّات. فهي حريَّة يحصل عليها السجين ويمكن أن يعيش معها، ويتمكَّن من التغلُّب على أيٍّ من القيود الأخرى المقيَّد بها.

إنَّ الإنسان يعمل بالمعلوم ويفكِّر بما يعلم ليصل إلى ما لا يعلم، وهنا تتجلَّى حريَّة الفكر. فالتفكير باللغة هو إعمال العقل بالمعلوم للوصول إلى المجهول، كذلك الإنسان بكل مسارات الحياة، فحريَّة الفكر هيَ حريَّة التفكير بأي شيء معلوم للوصول إلى أي شيء مجهول وعدم الخوف من المجهول. فالمجهول مجهول منافعه ومساوئه، وإنَّ الإنسان ولو علم بكل علم نافع فلن يعرف أي علم لم يعرفه هو أنفع له، فالعلوم النافعة والضارَّة تختلف من شخص إلى آخر، فترى صديقًا ينصحك بكتاب يظنُّ أنَّه الكتاب الذي سيغيِّر كل شيء بحياتك، وهو كتاب بالنسبة لك لا يكون ذا ضرر ولا نفع، فالمنفعة والضرر تختلف نسبيًّا من شخصٍ إلى آخر.

حريَّة الفكر حريَّة مجتمعيَّة، فليس هناك أي قانون من الممكن أن يعطي حريَّة الفكر، فالتفكير هي عمليَّة ذاتيَّة بالمعنى الأوَّل، ومن ثم تنتقل من كونها ذاتيَّة إلى التعبير عن منهج التفكير للعامَّة، فلا يجب أن يتراجع الإنسان عن قول غريب بسبب المجتمع الذي يرهبه من قوله، ويجب أن يتجرَّأ بقول أي منهج يثير استغراب وغضب البعض، فيقول الشاعر جيمس رسل لويس (عبيد أولئك الذين يختارون عدم تأثير البغضاء والاستهزاء على أنفسهم، فيخافون الباطل ويحجمون عن الحق الذي ينبغي لهم أن يعتقدوه، وعبيد أولئك الذين لا يجرؤون أن يمضوا مع الحقِّ مع ثلاثة أو اثنين) فينادي الشاعر بالقول بالرأي الذي يظنّه الإنسان، ولا أن يعبد آراء المجتمع، فآراء المجتمع وإن كانت صحيحة فهي ثابتة لا تتغيَّر، إلا بقول رأي غريب.

يقول جان جاك روسو لا يمكن للحريَّة أن تتجلَّى إلا بالمساواة، ومساواة حريَّة الفكر هنا مساواة للتفكير أن تتساوى كل فكرة مجهولة إلى منهجيَّة التفكير وحريّته، وأن تتساوى كانت ضارَّة أم نافعة، راغبا به أم لم ترغب. فعند مساواة الأمر للعقل وما تملكه من معلوم فستصل إلى المجهول الحقيقي، سواء كان يتبع ما كنت تعتقده أو لم يتبعه، فالساعي إلى العلم يجب أن يترك وراءه أي مسلّمات سلمها لعقل شخص آخر، فالعدل هنا لحريَّة فكرك أن تعدل معه، وتحكم له أمورك وشؤونك، فكما قلت آنفًا، أنَّ العلم النافع يختلف نسبيًّا من شخصٍ إلى آخر.

حرِّيَّة الفكر وحرِّيَّة الرأي

إنَّ تقارب حرِّيَّة الرأي وحرِّيَّة الفكر يشكِّل إشكاليَّة بمعرفة الفرق بينهما. فحريَّة الرأي مقرونة بالمجتمع في المقام الأوَّل ولا يمكن أن تتجلَّى إلا بمجتمع يقبلها، فيتقدَّم المجتمع على ذاتيَّة الفرد، فحريَّة الرأي هي حريَّة قول أي رأي بعيدًا عن اختلافه مع المجتمع. بينما حريَّة الفكر ترتبط بذاتيَّة الفرد أوّلا، ثمَّ المجتمع ثانيا فيستطيع الفرد الحصول على حريَّة الفكر عن طريق ذاته فقط عن طريق المساواة والسعي إلى العلم.

حريَّة الفكر والسلطة

إنَّ أهميَّة حريَّة الفكر تكمن بخروجها عن السلطة، فأي سلطة كانت من أي نوع تكون سلطة خارجيَّة بما يعبِّر عنه الفرد للآخر والمجتمع، فإنَّ حريَّة الفكر حريَّة تكمن بذات الفرد، فيستطيع السجين الذي لا يملك إلا قطعة خبز يوميًّا أن يصل إلى حريَّة الفكر وهيَ خلاص السجين، فإذا وصل لها سمح لنفسه بالتفكير بكل شيء. وهو السجين الذي لا يملك إلا قطعة خبز إلا أنَّ قطعة الخبز تملك الكثير من الأشياء التي تدعي التفكير. فالتنازل عن حريَّة الفكر هو تنازل عن صفة إنسانيَّة فيه، وتنازلا عن الحقوق الإنسانيَّة، فالتنازل عن حريَّة ما بإرادة الإنسان ذاته هو أعظم ذنب يمكن أن يفعله الإنسان بإنسانيته، فيقول جان جاك روسو (ونزع كل حريَّة من إرادة الإنسان هو نزع كل أدب من أعماله) فلا يستطيع أي أحد إعطاء الفرد حريَّة فكره إلا ذاته.

ضحايا لحرِّيَّة الفكر

عندما هاجر والدا سبينوزا من شبه الجزيرة الإيبيريَّة إلى أوربا. بسبب بعض الاضطهادات التي مارستها السلطة، انتقلا إلى العيش في هولندا واعتنقا الديانة المسيحيَّة. بسبب الخوف من الاضطهادات، التي من الممكن أن تمارس بسبب ديانتهما اليهوديَّة، وعندما أظهر أهل هولندا قدرا من التسامح عادا إلى الديانة اليهوديَّة. وكان أب سبينوزا من أهمِّ الشخصيات في الديانة اليهوديَّة وقد تولى مناصب تدريسيَّة حول تعاليم التلمود. تعلَّم سبينوزا العبريَّة ودرس التلمود وبختام دراسته علق على التلمود، وبعد ذلك بست سنوات كتب سبينوزا عن الله وعن وجود الله بالطبيعة، وعلَّق على النصوص الدينيَّة بأنَّها استعارات ومجازات، فنبذ سبينوزا من أهله ومن الجالية اليهوديَّة. فأكمل سبينوزا حياته غريبا بسبب حريَّة الفكر، فكان سبينوزا يرى شيئا لا يراه مجتمعه، ولم يسمحوا لأنفسهم بإطلاق حريتهم الفكريَّة، والتفكير بما قد يحمله سبينوزا من فكر.

________

المراجع:

كتاب العقد الاجتماعي (جان جاك روسو).

كتاب فتوح مصر وأخبارها (ابن الحكم).

مقال حريَّة الفكر هي حريَّة الحياة (العقاد).

اسپينوزا (زكريا فؤاد).