لا أعتقد أنَّ بالإمكان أن ينطلق مشروع يسعى إلى إضاءة ميدان معرفي حول كيفيَّة تمكُّن جماعة التصوُّف من البقاء، قبل استحضار كتابات المفكِّر المصري الكبير حسن حنفي. كيف لا وهو قد سبق الجميع بتطرّقه إلى السؤال نفسه؛ حول الجماعة ذاتها من خلال كتابه: “من الفناء إلى البقاء: محاولة لإعادة بناء علوم التصوُّف”.
حسن حنفي يكتب بنفس متوتِّرة جعلت كتاباته ميداناً لإثارةِ الشك حول فكرة مهيمنة في جل كتاباته، وتبحث عن بواعث ونواهض التقدُّم العربي الإسلامي. كما غلب على حسن حنفي رؤية تشكيكيَّة، بوجود عنصر ولو ضئيل من عناصر النهضة، يمكن رصده في بناء فكر الجماعات الإسلاميَّة. ربما كان الأهم أنَّ نقيض النهضة من عوامل التقاعس والقعود والطواف في نصوص الماضي، وغياب مشاغل مقتضيات زمن “الآن”، ومتطلبات الحاضر عن وعي الجماعات الدينية، خصوصاً الصوفيَّة، هي التي شكَّلت وعي حسن حنفي خِرِّيج السوربون، وجذبت نقدَه ليسير في قنواتها. ليس من السهل على طلبة السوربون تخطِّي الرؤية الاستشراقية المغلَّفة بخطاب أكاديمي، كما لو أنه خطاب رصين، وتنميطاتها حول التصوُّف.
بمعنى آخر؛ لم يفترض مشروع حسن حنفي امتلاك أية حركة أو أجزاء من تلك الحركة على مقوماتٍ تسمح لها بفهم الواقع، والبقاء والتواصل مع حاضرها. افترض مشروع حسن حنفي النقدي أنَّ كل مكونات الجماعات الإسلامية هي مكونات ضمنت بقاءها في دوائر الفناء، وهي جماعات لم تمتلك شروطاً موضوعيَّةً في حركاتها لتنجح بإمدادها بأُكسير البقاء ولوازمه.
من الأعباء التي تحمَّلها حسن حنفي، في محاولةٍ لإعادة بناء علوم التصوُّف، حاجته الماسَّة إلى رواية قصة التصوُّف من البداية، فالمعرفة بالشؤون الصوفية ليست خافيةً على جمهور المفكرين العرب، لكنْ هذا أسلوب حسن حنفي، حيث نجده من خلال كتابه “من الفناء إلى البقاء: محاولة لإعادة بناء علوم التصوُّف”، يسهب جدّاً عبر قرابة أَلْفَيّ صفحة، ليثبت أن التصوُّف في حالة غيبوبة عن الواقع.
حسن حنفي التأسيس السوربوني في “ذكريات 1935-2018 م“
يتحدث المفكر المصري الكبير في كتابه “ذكريات 1935-2018 م”(1)، في أكثر من موقع، عن حجم تأثير أستاذته في السوربون على مشاعره وعقلة (ص 74 و76). وعليه، لابد من التعرُّف على أهم الأفكار والمدارس التي تأثر بها في سِنِيِّ التكوين التي حملها معه إلى بقية العمر والعطاء المعرفي. من الناحية الأعم لقد تأثر حسن حنفي Neo-Kantian بالكانطية الجديدة بشكل مباشر، عندما خص رسالته للدكتوراه رقم 2، والتي بعنوان “ظاهريات التأويل الوجودية ابتداء من العهد الجديد (كانط وكيركجارد) ومن ثم تأثر بشكل غير مباشر بالكانطية الجديدة، حيث إنه اشتغل في رسالته للدكتوراه رقم1، والتي بعنوان “تأويل الظاهريات شرح لمنهج هوسرل وتلامذته”، فهوسرل يُعدُّ أهم رواد الكانطية الجديدة كما يحسب بول ريكير كذلك. وقد ربطت بين بول ريكير وحسن حنفي علاقات معرفية وصداقة واحترام متبادل (ص 72 وص 74).
في باريس تأثر حسن حنفي بالمنهج الفينومينولوجي الترنسندنتالي الذي عمل به الألماني إيمانويل كانط. منهج كانط، ومن ثم منهج حسن حنفي في الأساس هو أسلوب ترانسندنتالي في التحليل وطريقة في إعادة كتابة تاريخ الوعي؛ أي يتجاوز الخبرة التجريبية للبحث عن أصل المعرفة. وهذه انطلاقاً من الشروط القَبْلية التي تجعلها ممكنة، وهذا منهج هوسرل وهو أيضا منهج حسن حنفي، حيث إن هناك طريقة زوّد بها الإنسان للوعي وهذه الطريقة للوعي سبقت الوعي، وما يهتم به الكانطي الجديد الهوسرلي الظاهراتي هو التعرف على المنهج (طرائق التفكير) لكي يتعرف على العلوم، فكل علم يتميز بمنتجات مختلفة نتيجة اختلاف مقدماته، أي اختلاف طرائق التفكير. هنا فطن حسن حنفي أن التغيير الحقيقي يكون في تغير المقدمات أو طرائق التفكير، فتتبعه تغيرات في منتجات معرفية، والتي تنتجه طرائق التفكير المستحدثة. (2)
هذا التأسيس السوربوني هو مركز قوة حسن حنفي، وهو أيضا المشكل الأكبر في كتاب حسن حنفي تحت النقاش (من الفناء إلى البقاء: محاولة لإعادة بناء علوم التصوُّف)، فهو ليس بحثاً “من النص إلى الواقع” كما يزعم، فهو أستاذ الفينومينولوجي الترنسندنتالي؛ أي الكونيات أو القواعد العليا والفلسفة والآداب، وليس أستاذاً لسيسيولوجيا أو أنثروبولوجيا الحركات الإسلامية.
نعم، قام د. حسن حنفي بمسح شامل لأهم كتابات المتصوفة في كتابه عن التصوُّف عبر محطات التاريخ، وأعطى مختصراً مفيداً لأهمِّ أفكار كل كِتاب، وهذا عمل جبَّار، ويستغرق وقتاً طويلاً يُشكر عليه، ولكنَّه بالمقابل حوَّل كتابَه بحثاً “من النص إلى النص”، وليس من النص إلى “الواقع”، فقد قام بتحليل نصوص كتب التصوُّف التي انتقاها، ولم ينزل إلى الميدان المصري لإجراء بحثٍ ميدانيٍّ سوسيولوجيٍّ أو أنثروبولوجيٍّ لدراسة التصوُّف.
على أن تحليله النصي رائع جداً، ولكنَّه يفتقد إلى إيضاح الرابط بين تحليلاته، وكيف تمكَّن من استنتاج أنَّ الجماعات تعيش فناءَها من خلال تحليل نصوصها؟ يا له من سؤال محير! فهو من ناحية يؤمن بأطروحة التَّناص والنقد التاريخي للنصوص(3)، وهي أطروحة تقول بأن كل نص ينتج من خلال سياق وجدل تاريخي سياقي احتكامي، مع شخوصات وجماعات يتداخل معها مؤلف النص، ومن ناحية ينكر أن يكون لكتبةِ الكتب الَّتي حلَّلَها تفاعلٌ واضحٌ بالواقعِ؛ لأنَّهم متصوِّفة في حالة فناء! هكذا يرى حسن حنفي أنَّ وعي المتصوِّف بذاته وتاريخه وعبادته هي علاقة غير واقعية؛ علاقة فناء متخيَّلة من جنس “الوهم”، ولكنه في موقع آخر يصرُّ أنَّ رجال الدين ممثلون لمصالح رجال الحكم. هذه الأطروحة لا تنطلق إلا من افتراض اتِّصالهم بالواقع، حيث يكون المتصوف (بناءً على قناعته) متملِّقاً لِمراكز القوى. مفهوم يجعل المتصوف المتملق من ناحية على قدر عالٍ من الاحتكاك بالواقع وبمتطلبات التملق المُعاشة، ومن ناحية أخرى هو منقطع عن الواقع. علما أن حسن حنفي يقسم الوعي الهوسرلي إلى ثلاثة مستويات: المستوى التاريخي، والمستوى النظري، والمستوى العملي. ولكن المستوى العملي الذي تطرق اليه حسن حنفي عند دراسته للتصوف كانت لا تعدو كونها دراسات لنصوص كتبها متصوفة ولم تكن دراسات عملية ميدانية.
حسن حنفي كاتب موسوعي رائع، ولكونه ليس أنثروبولوجياً، بل هو متخصِّصٌ بتحليل النُّصوص والتأويل الفينومينولوجي لها، هذا التأسيس الأكاديمي السوربوني، أبقى كتاباته أسيرة في دائرة النص، ولم يتمكن من الخروج بها إلى الواقع، كما يحاول أن يُقنِعَنا (4)
على سبيل المثال، قَسَمَ تطوُّرَ التصوُّف تاريخياً إلى أربع مراحل، كلها غير مرتبطة بدراسة ميدانية واحدة، فبعد تحليل نصوص المتصوفة توصل إلى ما يلي:
المرحلة الأخلاقية؛ (التصوُّف علم مادة الأخلاق)، وذلك في القرنين الثاني والثالث.
المرحلة النفسية؛ (التصوُّف علم لبواطن القلوب)، وذلك في القرنين الرابع والخامس.
المرحلة الفلسفية الإلهية؛ (التصوُّف النظري علم أيديولوجي وكلام)، وذلك خلال القرنين السادس والسابع.
المرحلة الطُّرُقِيَّة الجماعية؛ (التصوُّف علم علمي لا فردي بل جماعي)، من القرن الثامن الهجري إلى الآن.
ثم يخلص الأستاذ حسن حنفي إلى أنها مرحلة طالت أكثر من اللازم، “وآن الأوان لانتهائها، بعد محاولات حركات الإصلاح الديني تغييرها عند جمال الأفغاني ومحمد إقبال، إلى المرحلة الخامسة؛ المرحلة “الثورية”، والتي يمثِّلها من “الفناء إلى البقاء” (ص:16).
كما فهم حسن حنفي أنَّ “الطريق”، وهو مكوِّن تصوُّفي مهم، ضمن منظومة (الشريعة، الطريقة، الحقيقة)، يعني هو السير، لا في واقع حياة المتصوف ليفهم إشارات الله، بل فهمه أنه خروج الصوفي من الواقع برفع رأسه إلى أعلى، للتأمل في الله تعإلى. (ص:17) من الكتاب ذاته.
“صوفيٌّ في مواجهة صوفيٍّ“:
المتصوفة الشرعيون القدماء واجهوا ظاهرة التصوُّف الشعبي/الفلكلوري مبكراً جداً، فهم أول مدرسة تقف بالمرصاد أمام “ذاتها”. قال المتصوفة الشرعيون إنَّ “الاستقامة (الشرعية) أعظم كرامة”. وعند بداية ظهور المعتقدات الشعبية المتنافسة مع المعتقدات الشرعية قام الصوفي أبو القاسم الجنيد بن محمد الجنيد البغدادي (ت.297 هـ)، بنقد المعتقدات القائلة بالطيران والمشي على الماء وطول عمر الإنسان، على أنها علامات للدِّين الشرعي والصلاح:
“إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تلتفتوا إليه فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب ويمشي على الماء ولكن انظروا في اتباعه الكتاب والسنة، فإن الشيطان لا يقدر على ذلك أبدا“(5)
علما أن أغلب الجماعات قامت على مبدأ النصرة، فالسلفية ينصرون ابن تيمية ولا يبخسونه، والإخوان ينصرون حسن البنا ولا يبخسونه، والإماميُّ ينصر من يُقلِّده ولا ينتقده، في حين أن الصوفي ينصر “القيمة” و”المبدأ”، ولم ينصر الرِّجال بلا تحرٍّ ونقد، لذلك نجد أغرب ظاهرة قديمة في الحركات الإسلامية؛ “صوفي ضد صوفي”، من أجل نصرة الحقيقة.
لم يلتفت حسن حنفي إلي آلية نقد الذات الصوفية وأبعادها، في حين أنَّ البريطانية د. إليزابيث سيريه نشرت في عام 1998 by Routledge، كتابَها (Sufi Anti Sufi)، كما التفتَ د. محمد عمر ساني إلى الظاهرة ذاتها قبلها (6)
مع هذا لم يطَّلع الأستاذ حسن حنفي على مستجدات الكتابات النقدية الصوفية، وحرَّر كتاباً ضدَّ التصوُّف بناءً على قَبْليّات استشراقية أنهكت إمكانيات عملية مشروعه النقدي.
مفاهيم يجب أن تُصَحَّح
تنميط التصوُّف في أطر جاهزة، هو جزء من حبكة كلامية موجَّهة تحديداً ضدَّ المتصوِّفة، ومفادُها أنهم حركةُ عوامٍ وخرافات. نعم، هناك تصوف شعبي موثق في بعض نواحي العراق والشام ومصر. أشهر من استخدم هذه الحبكة الكلامية التنميطية ضد المتصوفة هم أتباع الحركة السَّلفية. ولكن هناك فقهاء متصوفة يتواجدون بكثافة في الجزيرة العربية، وقد قاموا بدحض مثل تلك الآراء ويخضون نقاشات فقهية مع فقهاء سلفية في الجزيرة العربية. الأستاذ حسن حنفي غير مطلع على “مداخلات دينية بين المتصوفة والسلفية في شرق الجزيرة العربية موضوع الهوية” (7)، حيث يوجد في الجزيرة العربية حركة تصوف شرعية لا يستهان بمتانتها، والسيد محمد بن علوي المالكي الحسني (ت. 1425 هـ) هو عَلَمٌ فقيه من أعلام التصوُّف الشرعي في جزيرة العرب، وقد ألَّف كتاباً بعنوان “مفاهيم يجب أن تُصَحَّح”، والذي نُشر في الإمارات في عام 1985. في هذا الكتاب، وضَّح أهميَّة التمييز بين التصوُّف الشعبي والتصوُّف الشرعي، بل أقام الحجة على وجود تيار جدلي ونقدي ذاتي صوفي شرعي، في مواجهة تيارٍ صوفيٍّ شعبي. لو اطلع الأستاذ حسن حنفي على حراك التصوُّف الشرعي الفقهي، لكان تجنَّب توريط قلمه من إدغام كلِّ التصوُّف تحت عنوان الخرافة والشعبويات.
الصوفي ابن زمانهِ ووقتهِ
هناك إشارة صوفيّة أخرى لا تقلّ أهميّةً في إنصاف التصوُّف، جاء فيها: “الصوفيّ ابن زمانه ووقته”، وقد تكون هذه العقيدة أهمّ وقودٍ يدفع الصوفيّ إلى أن يدرس زمانه ومكانه، لكي يتفهّم شروطه الماديّة، وليكون جزءاً فاعلاً فيه، فالصوفي يخوض تجربة الفناء في زمانه ومكانه بالاندماج، ومن خلال الاندماج النسبيّ الماديّ، ينطلق الصوفيّ إلى الاندماجات غير المحسوسة في الوجود، ليخوض تجاربه الروحانية. ثمَّ إنَّ أُفُقَ “التَّجربة” أفقٌ منفلتٌ غير مُنْجَز يتّسم بالامتداد واللاتحديد. إنها خاصيّة وثيقة لا تنفلت مع كلّ تجربةٍ إنسانية، وهي مواصفات ترفع سقف التحدّي للمنشغلين في الكتابة حول موضوع التجربة الصوفية.
التاريخ والنص الصوفيّ
انتبه حسن حنفي أن التصوُّف يمتلكُ التاريخَ، لكنه لم ينتبه أنه يمتلك النصّ والتجربة لمجاراة العولمة ولتغذية مُتطلبات الهويات المحليّة، بل إن التصوُّف يُقسم “الوجود” من خلال أبعاد ثلاثيّة: الشريعة، والحقيقة، والطريقة؛ أي المسار الذي يربط بين عالم الشريعة والحقيقة:
أ ــ الشريعة؛ بُعدٌ يرمز إلى حزمة الأنظمة الفقهيّة والقانونيّة، التي تنظّم علاقات المُجتمع وتوزّع أدوار أعضائه.
ب ــ الحقيقة؛ بُعدٌ يرمز إلى رؤية روحيّة تأويليّة تعبيريّة تخيليّة علمية، لكلّ ما لم يتمّ التعرّف إليه في بعد الشريعة للوجود.
ج ــ الطريقة؛ هي بُعدٌ يرمز إلى أهميّة التجربة، وإلى محوريّة خوض كلّ إنسان لها، ليتمكّن من ربط أجزاء الوجود المنتمي إلى عالم المَلك، والوجود المُنتمي إلى عالم الملكوت.
من جهةٍ أخرى هناك أدوات مُهمة للتجربة، منها الصّحبة، واللغة، والرقص، والغناء، والفنّ، والعمارة، والخطّ، والتكنولوجيا، والطهو، والكتابة، والبناء، والعبادة، والقانون، ضمن أدوات أخرى. وللطريقة قواعد طوّرها شيوخ التصوُّف، ونظموها في مجموعة مقالات. من جواهر عقائد الصوفية المؤسسة لخوض التجربة الصوفية أو العمل الصوفي، سواء أكان فردياً أم جماعياً، تراثياً أم معاصراً، إنه يساهم في تسليط الضوء على بعض الأنماط الجديدة من العمل الصوفيّ المعاصر في المنطقة العربية، وبعض هذه الأنماط المستجدة نجدها حتى في الدول الغربية، ومنها الدول الأوروبية.
الطّرُق إلى الله بعددِ أنفُس الخَلق؛
هذهِ الركيزة الصوفيّة المؤمنة بأنّ الطرق إلى الله كثيرة جداً؛ لأنّها بعدد أنفسِ الخلق جميعاً، مهمة جداً، فهي تروّض الصوفي مبكراً لتقبُّل اعتناق “الفَرْدَانِيّة” المؤسِّسة للتعدد الثقافيّ الكونيّ، فهذه العقيدة من ناحيةٍ هي انعكاسٌ لإيمانٍ وثيقٍ بالفردية، وهي لا ترى حَرَجاً في أن يخوض كلّ صوفيّ في فهمه الخاصّ لِجَنْيِ معنى التَّجربة الصوفيّة.
لكلّ مَقامٍ حالٌ
كما لم يعر حسن حنفي باله إلى أن التصوُّف يرى أنّ مشوار المتصوّف ينتقل من مقامٍ إلى مقام، حيث يخوض المتصوّف في كلّ مقام حالةً وجودية ونفسيّة ووجدانية تنتابه، وتختصّ بذلك المقام. على سبيل المثال هناك مقام المحبّة، ومعه يخوض المتصوّف حالة المحبين، ومع مقام الرجاء يعتري المتصوف حالة المرتجين، هَلُمَّ جَرَّا.
كان بإمكان حسن حنفي لو تحرر قليلا من القبليات السوربونية، لرأى أن التصوُّف يحوم حول فكرة أنّ “كلّ تجربةٍ صوفيّة هي فردانيّة متفرّدة في نوعها، ولا يمكن أن تتكرر في تجارب بقيّة البشر؛ إنّها “فردانيته” غير الثابتة، بل هي سائلة تجري في سهول ووديان “المقامات”، لتنتج “أحوالاً” نفسية وسيكولوجية غير قابلة للتكرار، ومن خلال تفهّم الصوفي لهذه المقالات الصوفيّة الأساسية، سيتهيّأ وعيُ كُلِّ صوفيٍّ إلى تقبّلِ أنْ يكونَ لغيرِهِ مِنَ المتصوّفة طرقهم الخاصّة بهم الَّتي تختلف عنه. إنّ التصوُّف في عمقهِ الجوهري هو عقيدة قائمة على تقبل التعدديّة بصياغات لا نهائية.
تصنيف التصوُّف الشعبي / الشرعي كان حتماً سيجبر حسن حنفي على النزول إلى الميدان
قام د. صابر السويسي بنشر مقابلته مع الأستاذ حسن حنفي، وفي هذه المقابلة يؤكد حسن حنفي عدم قدرته على التمييز بين التصوُّف الشعبي والتصوُّف الشرعي، عندما صرَّح: “وانظر أيضاً ما يفعله الناس والمتصوّفة في ذكرى المولد النبويّ، وما يأتونه من ممارسات، يختلط فيها التقديس بالخرافة والشعوذة أحياناً، ومختلف مظاهر الاعتقادات الشعبيّة المستهجنة والغريبة عن الإسلام” (8) لو اعتمد حسن حنفي تصنيف التصوُّف الشعبي ليميزه عن التصوُّف الشرعي، كان حتماً سيضطر إلى ترك المقاعد الجامعية الوثيرة، والتَّشْمِيرِ عَنْ سَاعِدِ الجِدِّ، والنزول إلى الميدان لإجراء أبحاث سوسيولوجية وأنثروبولوجية.
كتاب “من الفناء إلى البقاء: محاولة لإعادة بناء علوم التصوُّف”، وهو عمل موسوعيٌّ، لكنَّه يبقى في تقديري كتاب يراوح بين النصِّ إلى النصِّ، ولم يقدر حسن حنفي رحمه الله تعالى أنَّ فناء الصوفيِّ يعني خوض تجربة الفناء في زمانه ومكانه بالاندماج فيه، فمِن خلال الاندماج النسبيّ الماديّ، ينطلق الصوفيّ إلى الاندماجات غير المحسوسة في الوجود، ليخوض تجاربه الروحانية والوجودية.
______
الهامش
1- من منشورات هنداوي. كتاب طبع في عام 2019
2- يعد د. كريم صياد، وهو من أهم طلبة السيد حسن حنفي، مرجع مهم لفهم د. حسن حنفي. قد تطرق في هذه المقالة: “منطق ومنهج التغيير الاجتماعي عند حسن حنفي” إلى رؤية مهمة حول فكرة المفكر المصري حول تغير الأمة. للمزيد أنقر الرابط (https://kareemessayyad.wordpress.com/2009/12/23/منطق-ومنهج-التغيير-الاجتماعي-عند-حسن-ح/)
3 ممكن قراءة كتاب “نظرية التناص” من تأليف جراهام آلان، وترجمه إلى العربية د. باسل المسالمة، ونشرته دار التكوين الدمشقية في عام 2011
4حسن حنفي كاتب كبير خطف أعين وشدَّ انتباه الكثير، وقادت ألمعيته العديد إلى الكتابة عنه. يعتبر د. كريم صياد من أهم الشخصيات المعاصرة إلماما بادكتور حسن حنفي ر. فهو من ناحية أحد تلامذته وكان على علاقة شخصية وقد كتب أكثر من مقالة عن حسن حنفي شارحا وناقدا له.كما أن كتاب “جدل الأنا والآخر قراءات نقدية في فكر حسن حنفي” من تأليف د. أحمد عبد الحليم عطية، من منشورات مكتبة مدبولي الصغير في عام 1997. من الكتب التي درست أفكار السيد حسن حنفي. ولا يمكن تجاهل الأستاذ جمال عمر الذي كتب كتابا مهما للغاية بعنوان “مدرسة القاهرة فى نقد التراث والأشعرية” وهو من منشورات دار الثقافة الجديدة في عام 2019. وقد جمعتني عدة نقاشات ومحادثات لساعات طوال مع الباحث الجاد الأستاذ جمال عمر لمناقشة كتابه الأكثر من رائع والذي كان للدكتور حسن حنفي نصيب من تلك النقاشات.
5 ورد هذا النص عن الإمام الجنيد في ص 126، في كتاب من وضع الشيخ محمد فتحا بن عبد الواحد السوسي/النظيفي الدرة الخريدة شرح الياقوتة الفريدة ج2، والذي نشرته دار الفكر في عام 1984.
6 يحسب السبق في الالتفات إلى ظاهرة المواجهة بين الصوفي الشرعي والصوفي الشعبي إلى النيجيري د.محمد عمر ساني.
Changing Islamic identity in Nigeria from the 1960s to the 1980s : from Sufism to anti-Sufism
وهي مقالة ظهرت في كتاب بعنوان:
Muslim identity and social change in Sub-Saharan Africa
من تحرير لويس برنير Louis Brenner..
Indiana University Press, ©1993.
7 هذا عنوان رسالتي للدكتوراه من جامعة إكستر البريطانية، أودعت في المكتبة البريطانية في عام 2005. وهي دراسة تتبعت الحراك الصوفي الشرعي وهو يتداخل بحجج وحجج مضادة مع فقهاء سلفية.
8 أجرى الدكتور صابر السويسي مقابلة مهمة مع د. حسن حنفي رحمه الله تعإلى. نشرت هذه المقابلة في موقوع مؤمنون بلا حدود.
*د. محمد الزّكري القضاعي/ باحث من مملكة البحرين.