الجابري الأيقونة والأثر؛ اختزال الكلّ في الجزء فأين المفرّ؟
ما الذي يمكن أن يُضيفُ قلمي حول محمد عابد الجابري؟ ألم يتمَّ تفكيكُ مساهمات هذه الشخصيَّة الفكريَّة المهمَّة، وتفجير منابع إبداعها، ورصد مآلات تأثيرها في الفكر العربي؟ ينبغي ألا يُفهم من ذلك أنني أقرّ باحتكارها لإتقان إنتاج نصوص معرفيَّة دون باقي المفكِّرين العرب. ولكن ما نؤكّده هو أنَّ للجابري رصيدًا يُضاهي ما عند الكثير من غيره. وهنا تكمن مسألة مهمَّة، وهي ضرورة أن تحتوي نتاجات الجابري النصيَّة على فهم للمدرسة التي ينتمي إليها (البنيويَّة)، وفهمٍ لقوّتها وضعفها. ومن الاتِّفاق على مبدأ أنَّ التوفيق العلمي لدى المعالجات الفكريَّة يقوم على وضع مقادير متوازنة تُمكِّن الكاتب من اكتشاف حجم ميوله وولائه للمدرسة التي ينتمي إليها، لكي لا تقوم ذاتيَّة المؤلِّف وميولاته بإحداث أدنى إتلافٍ للموضوعيَّة.
حصل الجابري (و. 1935 الدار البيضاء) على البكالوريس 1961 والماجستير 1967 والدكتوراة 1970 من كليَّة الآداب بالرباط التابعة لجامعة محمد الخامس بإشراف د. عزيز الحبابي.
مثالب بنيويَّة الجابري
في عام 2000 اعتمدت مسار دراسة أنثروبولوجيَّة المعرفة لكتابة رسالتي للدكتوراه في بريطانيا.احتجت إلى قراءة كتب باللغة العربيَّة لفهم سوسيولوجيَّة أو أنثروبولوجيَّة المعرفة فوجدتني، لهذا السبب، أقرأ كتب د.محمد عابد الجابري وهو سيوسيولوجي المعرفة.
“مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانيَّة المعاصرة وتطور الفكر العلمي” الطبعة الأولي، 1976. وهو كتاب يعكس تأسيس عقله في دراسة المعارف ويغلب عليه وقوع الجابري في أطروحات المدرسة البنيويَّة وهذا أمر طبيعي حيث إن عصره كان عصر ازدهار الفكر البنيوي.
بعد ذلك وجدتني أقرأ من كتبه، رحمه الله تعالى، التوالي:تكوين العقل العربي (نقد العقل العربي، 1)(1982)، بنية العقل العربي (نقد العقل العربي، 2)(1986)، العقل السياسي العربي (نقد العقل العربي، 3)(1990)، العقل الأخلاقي العربي (نقد العقل العربي، 4).(2001)
أعجبني مدى يقظة د. الجابري في تجنُّب دوامات المذاهب الدينيَّة (سنيَّة، شيعيَّة، وغيرها) والتي تتنوع أيضاً في السياق الفكري (معتزلة، أشعريَّة، حديثيَّة، وغيرها) بشكل لا ينتهي.
من خلال تصوّره لثلاث مبانٍ قائمة عبر جميع العصور العربيَّة وفوق كل التنوعات الجغرافيَّة الثقافيَّة، وبافتراضه فكرة أنها تمتلك فاعليَّة لا يمكن الجدال حولها، وتعمل بحريَّة على تشكيل الأبستمولوجيا العربيَّة-الإسلاميَّة، نجح في وضع أتباع المذاهب الدينيَّة والتيارات الفكريَّة في إطار أحد تصنيفات تلك المباني الثلاث. سواءً كانت تلك التصنيفات هي البنيَة البيانيَّة، أو البنية العرفانيَّة، أو البنية البرهانيَّة.
هكذا سمحت أفكاره له بتخصيص اهتمامه للتعامل مع جذور المشاكل وسبل مواجهة التحدّيات المتتالية واستمرار الإخفاقات في مسار التطوّر العربي. هذه هي القضيَّة الرئيسية بالنسبة للجابري، ويمكن تلخيص قضيته الرئيسة في سؤال واحد: ما هي العوائق التي تعيق صعود الأمة؟ وما هو الطريق الذي يمكن للعرب اتباعه للنهوض؟
لم يؤثِّر الضجيج المذهبي على رؤية الجابري. قرَّر الجابري بدقَّة دراسة العامل المشترك الذي وهبه الله بيننا بمساواة، وهو “العقل”، وذلك من خلال سيسيولوجيا المعرفة، ليعمل على المباني التي توجِّه سلوكياتنا العقليَّة نحو الخير والإنسانيَّة. إنَّ الهويَّة العقليَّة تُعتبر أهم الهويات بشكل عام، حيث تشكّل العقل قناعات لصاحبه. ثم تتمظهر هذه القناعات في الواقع الملموس والعلاقات مع البيئة الإنسانيَّة وغير الإنسانيَّة.
فقد حدَّد الجابري بعض هذه القناعات البنيويَّة كمحرِّكات لسلوك ذهني “مستقيل” لمستهلكها. يتجنَّب المستقيل البحث، لأن البنية التي ينتمي إليها تعلّمه أنَّه خرقة في يد “الأقدار” تتحكَّم به حسب رغبتها.
لا يحتاج إلى فهم الأسباب الموضوعيَّة، إذ هو عقل كتابع يفتقد لمشيئته. بالإضافة، شخص الجابري سلوكيات ذهنيَّة تنتجها مبانٍ فكريَّة أخرى، تولد لدى صاحبها الرغبة في البحث والدراسة، وتتبع الأسباب وعلاقاتها السببيَّة الأصيلة. لذلك استنتج الجابري أهميَّة استبعاد المباني التي تولد استقالة العقل، لصالح تلك التي تولد إصرارًا وحماس العقل.
كانت أروقة معهد الدراسات العربيَّة والإسلاميَّة في جامعة إكستر البريطانيَّة (حيث كنت أدرس منذ مطلع الألفيَّة الثالثة) مشغولة في الانتقال من المدارس الفكريَّة القَبْليَّة (البنيويَّة، الحداثيَّة، الوظيفيَّة، البراغماتيَّة، العقلانيَّة، البوسيفتيسيَّة) إلى المدارس الفكريَّة الما بعديَّة (ما بعد-البنيويَّة، ما بعد-الحداثيَّة، ما بعد-الوظيفيَّة، ما بعد-البراغماتيَّة، ما بعد-العقلانيَّة، ما بعد-البوسيفتيسيَّة). كانت لحظة تاريخيَّة اتسمت بالتخلي عن عقيدة استخدام مدرسة واحدة لتفسير أي ظاهرة تُدْرَس لصالح اعتماد منهج يستعين بعدَّة مناهج ومدارس فكريَّة لوصف وتحليل وتفكيك الظاهرة المدروسة.
وأنا أسير في هذا المنعطف من تطوُّر سيرتي المعرفيَّة بدأت أواجه عدَّة صعوبات في تقبُّل منهج الجابري، رحمه الله. فكلما توغلت في المابعديات والتعدُّدُ-منهجيات برزت ثغرة تلو أخرى في بنيويَّة الجابري ذات المنهج الواحد والتي تكتب من منطلق قبلي وليس ما بعدي.
الأسئلة البنائيَّة
المدرسة البنائيَّة (Constructivist) وجهت سؤالًا مهمًّا للمدرسة البنيويَّة (Structuralist) عندما قال مناصروها: “أن لكل مبنى بناء”. فمن بنى البنية؟ هنا، لا نجد أن د. محمد عابد الجابري وضح من أنشأ المباني الثلاث التي شخصها لنا. لذا، إذا اعتمدنا على وجود بناة، فإنَّنا بحاجة ماسَّة إلى تحديد هويتهم وفهم سبل وأدوات البناء التي ساهمت في تشييد البنية البيانيَّة والعرفانيَّة والبرهانيَّة.
الأسئلة الهرمنطيقيَّة مع أسئلة ميشال فوكو
الهرمنطيقا تقرُّ بأنَّ الظاهرة البشريَّة، في إطار المدرسة الواحدة، تمتاز بتعدُّد التأويلات. يأتي بعد ذلك ميشال فوكو (1984) ليقول لنا إنَّ تعدُّد التأويل يُظهر وجود أكثر من مركز قوى. كل مركز قوى يتدرَّع خلف تأويل ومعرفة تمنح شرعيَّة لوجوده.
عند العودة إلى الجابري، نجد أنَّنا لا نعرف ما إذا كانت البنية الواحدة، على سبيل المثال، “البيانيَّة” هي بنيّة بيانيَّة واحدة، أم إذا كانت هناك عدة مبانٍ بيانيَّة متنافسة أو حتى متصارعة. ولم يقم الجابري، رحمه الله، بربط تمدد بنية معينة أو انحصارها بتمدُّد وانحصار مراكز القوى التي تعاقدت معها. لم يتعمَّق الجابري مجهريًا داخل نواة البنية ليشرح العلاقة بين المكون الأهم: المعلِّم والمتعلِّم، الشيخ والمريد، الفقيه وطالب الفقه. لم يخبرنا عن التوترات النسقيَّة الداخليَّة في لب البنية بين الشيخ والمريد. على سبيل المثال، هل لم تتوتَّر العلاقات بين واصل بن عطاء المعتزلي مع شيخه الحسن البصري؟ هذا التوتُّر أنتج بنية (اعتزاليَّة بصراويَّة) منزاحة عن مباني زمانها ومتهجنة بتعلقها مع أهم الخطوط الفكريَّة التي تطرحها المباني القدريَّة والمباني الخوارجيَّة والمباني الشيعيَّة.
أسئلة نيكولاس لومان
نيكولاس لومان (ت. 1998)، السوسيولوجي الألماني، تحدَّث عن الشروط الضروريَّة لضمان بقاء الخليَّة أو البنية المعرفيَّة وتجنُّب الفناء. كما حذر أيضًا من أنه في حالة ضعف صيانة البنية المعرفيَّة لحدودها، قد تزداد فرص أن تُجذب أو تتجاذب مع المباني المعرفيَّة المنافسة، مما قد يؤدي إلى اندماج جزئي أو كامل بين خليتين.
عند العودة إلى أفكار الجابري، لم يوضح لنا كيف يمكن لكل بنية (عرفانيَّة، برهانيَّة، بيانيَّة) الحفاظ على حدودها المعرفيَّة من الاندماج الجزئي مع بنية معرفيَّة أخرى. وهل هناك نتائج للاندماج الجزئي الممكنة تتجلى في ظهور مجالات أخرى ذات بنية مهجنة، يمكن تسميتها على سبيل المثال بالبيانوعرفاني، أو البرهانوبياني، أو العرفانوبياني؟
تواصل عبر الأجيال
لا نعرف كيف تنتقل علوم البنية من قادة الرأي وشيوخ العرفان أو البرهان أو البيان إلى الجماهير؟ ولا نعرف كيف تمكَّنت البنية من الاستمرار قرون طوال بدون أن يشرح لنا كيف تنتقل المعارف عبر الأجيال.
المتعالي الفاقد للوسائط التي يربطه بالمجتمع
هذه الأسئلة جعلت البعض يشخص بنيويَّة الجابري بأنها بنية متعالية كقنديل البحر طافحة عند أعلى سقف المحيط وغير ذات ارتباط بوسطه ولا بقعره. فلم توضح كتاباته كيف يتسنَّى لتلك المباني من مدِّ جذورها في التربة. أي أنها تبدو وكما لو أنها بلا أي ارتباط بالبشري. بمجتمع معين ذو قضيَّة في زمن ما ومكان ما. لهذا خرج من ينعت بنيويَّة الجابري باللا تاريخيَّة. فكتابات الجابري حول البنية البرهانيَّة، مثلا، لا يوجد فيها شرح كيف تمكنت من خلال مؤسَّسات المدارس والمجالس والحلق من أن تتمكن تلك الخلية/البنية المعرفيَّة من مدِّ خطوط اتصال لتتواصل من خلالها مع واقعها ومع الجماهير. لم يوضح لنا الجابري آليَّة إنزال المجردات والنظريات لأي بنية من مبانيه العرفانيَّة، البرهانيَّة والبيانيَّة إلى النسيج المجتمعي ولا كيف توظف الأفكار المتعالية بتحويلها من عالم المجرد والنظرة المطلقة إلى نسبيَّة تاريخيَّة تعالج متطلب ما تواجهه جماعة ما.
ما بعد الجابريَّة
لقد تطورت ونضجت عدة تجارب وأطروحات في غضون آخر 20 عاما. فمثلا تقبل العالم الأكاديمي منذ قرابة 20 عاما أطروحات الفرنسي باساراب نيكوليسكو Basarab Nicolescu المحفزّة للخبراء على اتخاذ نهج تعدد المناهج في أجواء المابعديات في بحوثهم. الجابري، رحمه الله تعالى، اتخذ خط فكري أحادي paradigm – برادايم.
واتخذ من برادايم ما قبلي، البنيويَّة، فقط كخط فكري يكشف من خلاله عن الظاهرة التي يدرسها. فمدرسة واحدة تستطيع فقط إبراز كم محدد من المعلومات. وتسطيع فقط إنتاج تلك المعلومات التي تخصصت بالكشف عنه. في حين عندما يشكل الباحث سلة من البراديامات (خطوط فكريَّة) لإجراء بحث معين، هذا يعني أن هذا البحث سيظفر بعدة اكتشافات.
ملاحظة. تعدد البرادايمات لا يعني أن ما سينتج في النهاية هو فسيفسآء لصورة واحدة كبيرة. فمثل ما يقول توماس كون (1996) Thomas Samuel Kuhn أن تعدد البراديمات لا ينتج معرفة متكاملة، لأن كل معلومة ينتجها البرادايم هو انعكاس للبرادايم وليس إنعكاس لتفاعل البراديمات مع بعض. فكل برادايم يستطيع فقط إنتاج معلومات من وحي الخط الفكري الذي تخصص ذلك البراديم في انتاجه لا أكثر.
اذا ما هي تلك الصورة النهائيَّة التي تتمكن سلة من البرادايمات إبرازها في بحث ما؟ المحصلة هي إضاءات تنتمي إلى مستويات مختلفة، تماما كما لو كنا نشاهد السماء الصافية ليلا. فالنجوم التي نشاهدها تنتمي إلى مستويات متفاوته ومسافات مختلفة عن بعضها البعض. هذا ما نرى بالرغم من أن المشهد يحاول أن يخدعنا ليوهمنا أن جميع النجوم تقع في مستوى واحد.
هذا بالضبط ما يسميه ميخائيل بختين (1975) Mikhail Mikhailovich Bakhtin بتعدُّد الأصوات polyphony ،فكل برادايم أو خط فكري يحمل تاريخه وشروطه وموضوعيتة وظروفه ومعاناته وأفراحه عملت جميعا على تبلوره. فعندما نرى أجزاء من الظاهرة التي تحت الدرس من خلال عدة برادايمات فنحن لا نرى فقط، بل نسمع أيضا أصوات عدة جماعات أنتجت خطوط أفكارها تتحدث معنا لتشرح لنا مناظيرها حول تلك الظاهرة.
هنا ميخائيل بختين يقفز إلى الخطوط الأماميَّة ليتحدث عن البرادايم والصوت الواحد وعن البرادايمات وتعدد الأصوات. يقول بختين بما معناه إن البرادايم الواحد هو نتاج سيادة النمط المنولوجي الديكتاتوري. النمط الذي يحتكر ولا يريد أن يتيح فرصة لأكثر من جماعة في العالم من التحدث عبر الدايلوجيا التعدديَّة البرادايميَّة. منولوجيا البرادايم الواحد أو الحزب الواحد، النظرة الشموليَّة الأعظم، ثقافة تتجاهل كل البراديمات وتتجاهل الاستماع إلى ما يمكن أن تشارك به الجماعات من مرآءٍ متعددة. كل ذلك لصالح برادايم واحدث يفسِّر كل الوجود من خلاله، ويختزل العالم في أحقيَّة جماعة واحدة للتحدث من إطار رؤية واحدة. لذلك كان واجبا على الباحث أن لا يروض عقله للعمل على برادايم واحد لكي لا تنتقل إليه عدوى المنولوجيا الشموليَّة، ولكي لا يعيد إنتاج بنية الفكر الشمولي من خلال بحثه.
نحن والتراث
من ناحية قضيَّة “نحن والتراث”، تشير حركة القرآنيين، التي يقودها مثقفون، إلى أنهم يتعاملون مع التراث من خلال قاعدة تعرض التراث على ضوء القرآن وتقبل ما يتصالح معه. ومع نمو هذه الحركة، التي تتسم بالطابع المدني والمصالحة مع التراث الذي لا يتعارض مع القرآن، خرجت قراءات جديدة للقرآن لتمهد الطريق للتعايش مع جميع الأفراد في قرية الكرة الأرضيَّة المتنوعة. يبدو أن الجابري، رحمه الله تعالى، في كتاباته الأخيرة حول القرآن، قد تراجع عن وجهة نظره في كتاب “نحن والتراث”.
لاحظ أن هناك تصدعًا داخل الجماعات الإسلاميَّة التقليديَّة، وأدرك أن هناك نهوضًا حتميًا للحركة القرآنيَّة ورصده لقدرتها على جذب الشباب المثقف. وعلى الرغم من أن شريحة الشباب المثقفة كانت مأمولًا بها لنشر البنية البرهانيَّة التي يؤمن بها الجابري، كقوة قادرة على تحقيق النهضة العربيَّة من خلال تفعيل العقل البرهاني جماعيًا، يبدو أنه أراد جذب تلك الشريحة من خلال آخر كتاباته القرآنيَّة (مدخل إلى القرآن الكريم).
بين أميَّة واقعيَّة وأميَّة رقميَّة وأهميَّة نزول المثقَّف إلى الجماهير
انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بين العرب أظهر للكثيرين أن كتاباتنا الرقميَّة تفتقر إلى عقل نقدي رصين، وأكدت لنا وجود أميَّة واسعة بين الجماهير الرقميَّة، مشابهة للواقع الحقيقي الذي نعيش فيه. كانت النخبة المثقفة تلتزم لفترة طويلة بالكتابة في مجلات نخبويَّة تقرأها النخبة نفسها. ولكن النخبة بدأت تعتلي منصاتها مطالبة بعدم تجاهل السبل التعالقيَّة للتفاعل مع الجماهير، وهنا يأتي دور التحليل الجابري الذي ارتكز على المباني المتعالية وتجاهل ربط المتعالين تعالقيًا في سياق المواضيع المدروسة وإدراجها في سياق الجماعة والمجتمع والأمة. لذلك، يتطلب الأمر دخول المابعديات بكثافة.
فيما يتعلق بتقاطع مفهوم الأيدولوجيا مع أطروحة التفاعل الرمزي التعالقي، يثير الاستغراب لماذا لم يستفد الجابري من أفكار أنطونيو غرامشي ولوي پيير ألتوسر، خاصة أنهما كرّسا جهودهما في البحث عن كيفيَّة ارتباط المتعالي الرسمي والسبألتيرن بالواقع الحركي والمقابل. منظوري غرامشي وألتوسر يمكن أن يساعدان على رؤية الناس كفاعلين في تشكيل العالم الاجتماعي، وليس مجرد التصرف بناءً عليه.
إذا كان الباحث لا يرغب في التعامل مع أفكار يساريَّة، يمكنه اللجوء إلى أطروحات التفاعل التعالقي والرمزي والبنائيَّة. فالبنائيَّة تُمدِّد نظريَّة التفاعل الرمزي وتُقترح أن الواقع هو نتاج بناء البشر له بطريقة مدركة.
المحاسبيَّة بين الذات والموضوعيَّة
تحولت أيام البحوث الموجهة نحو إنتاج طوباويات، حيث كانت مصدرها شغف وقناعة ذاتيَّة، إلى الوراء. مثلما اندثرت أساطير الكتابة الموضوعيَّة التي خلت من إملاءات الذات. لقد تطورت رؤيتنا لندرك أنه لا يمكننا التخلص تمامًا من ذواتنا وميولاتها وشغفها. ومع ذلك، يمكننا اتباع سلوك الكتابة المحاسبيَّة الانعكاسيَّة، حيث يُذكر الكاتب نفسه دائمًا، عندما يكتب، بأن في أعماق الذات هناك ميولات، وأن هذه الميولات لها أجندات وأهداف، وأنه يجب على القلم أن يُحاسب عند الانزلاق أو المبالغة في الانزلاق لتحقيق رغبات الذات في البحث.
لا يفيد بالذات أن تمدَح من تحبّ لأنّها تحبّه، أو أن تُبغِضه كتابياً لمجرَّد أنه غير محبوب لديها.
الفيزياء الكوانتميَّة و البيولوجيا والذكاء الاصطناعي
في مجال الفيزياء الكوانتميَّة والبيولوجيا والذكاء الاصطناعي، يعود باساراب نيكوليسكو ليقدم منهج Cosmodernity “كوسمودرنيتي”، وهو منهج تعاقبي تفاعلي بين العلم، الثقافة، الروحانيَّة، الدين، والمجتمع. يستند هذا المنهج إلى رؤية مطاوعة للواقع تقتضي التجسد والتبدل. يرى نيكوليسكو أن أفراد هذا العالم المطاوعون هم فاعلون ونشطون في الكون، وأن العالم في الوقت نفسه معروف وغير معروف.
في الختام، يشير نيكولسكو إلى وجود روحانيَّة جديدة خالية من تعقيدات الاستبعاد ورفض الآخر، تظهر في هذا العصر. ويتناول النظر إلى فيزياء الكم والأدب والمسرح والفن للكشف عن ظهور وعي حديث وعالمي. فهل لنا نصيب في المشاركة في مثل هذه البحوث الكوسموديرنيَّة؟
_______
*د. محمد الزكري القضاعي/ باحث من مملكة البحرين.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.