أثارت تصانيف جان بودان Jean Bodin قضايا خلافيَّة، وقد تمثَّلت مظاهرها الرئيسة في صور استقبالها. سنحاول استعراض بعض المسائل الخاصة بوجه الجدال الذي تركه عمل بودان عند لاحقيه.
توجد في هذا الباب علامة بارزة في استقبال بودان، وترتبط بمدى حضوره في الوسط البريطاني. فقد أومأ براون Brown إلى الصيت الذي ذاع عن بودان في انجلترا، خلال السنوات الأولى من القرن السابع عشر. في هذا الإطار، كرس بن جونسون Ben Jonson صورة نمطيَّة تخص بودان وإلى جانبه أيضا نيكولو ماكيافيلي Machiavelli Niccolo، من خلال اعتبارهما دعاة للإلحاد وتبشيرهم بتصور سياسي عن الدين.[1]
كما أتى ديان Dean على ذكر الإحالات والاقتباسات المستمدة من مؤلف المنهج من أجل معرفة ميسرة للتاريخ Methodus Ad Facilem Historiarum Cognitionem في انجلترا، مع العلم أنه لا توجد أمارة تذكر ذلك قبل عام 1580. وتقفى أثر هذا العمل عند وليام هاريسون William Harrison، وهولينشد Holinshed، وسيدني Sidney، وتوماس روجيرز Thomas Rogers، وتوماس ناش Thomas Nashe، وإدموند بولتون Edmund Bolton. عبر أيضا عن أوجه القرابة بين أفكار بودان مع سبنسر Spenser وهوبز، من دون العثور على إحالات تؤكد صدق هذه القضيَّة. وأوعز كذلك للترجمة التي أنجزها توماس هيوود Thomas Heywood للفصل الرابع من مؤلف المنهج Methodus، والذي أورده كمقدمة في ترجمته الانجليزيَّة لِـ Salluste (1608). كما اتخذ ديغوري وير Degory Wheare المنهج في عمله الموسوم بــــ De ratione et methodo legendi historias (1623).[2]
وفي اتجاه مباين، تتبع موسيه Mosse معالم إدخال نظريَّة السيادة الكامنة عند بودان إلى انجلترا، وفي هذا الإطار، توقف عند الترجمة التي أنجزها كنولز Knolles لمصنف الكتب الست للجمهوريَّة لبودان، وأبرز دورها في تحقيق انتشار آراء داخل انجلترا. وكذلك، لا يمكن أن ننسى الدور الذي لعبه عمل الأكاديميَّة الفرنسيَّة Académie françoise لدو لا بريموداي ف لا بريمودايiseديمية الفرنسية toriasن وماكيافيلت ا 11-13 janvier 1996, éd.مهوريةde La Primaudaye، في الترجمة الإنجليزيَّة قام بها T. Bowes.[3] كما عرض موسيه تأثير الأفكار البودينيَّة في انجلترا وتتبع تأثير ذلك إلى حدود سنة 1629.[4]
وفي مقام مخالف، توقف شاكليتون Shackleton عند النصيب الكبير الذي ساهم به روبير جونسون Robert Johnson، من خلال ترويجه لنظريَّة بودان عن المناخ داخل انجلترا. وتحقق ذلك، في ضوء ترجمته نص Relationi universali لبوتيرو Botero، بحيث أدخل عليه مجموعة مقاطع مهمة، مقتبسة من مؤلف المنهج Methodus.[5]
وتحت منزلة متفاوتة، سعى سالمون Salmon إلى الإحاطة بشيوع الثقافة الفرنسيَّة في نطاق انجلترا، ووقف عند قنوات عديدة، يسرت من انتشار فكر بودان. شكل توسط بيير دو لا بريموداي، أحد هذه الوسائط، عبر استعادته لنظريَّة السيادة، وكذا لعلاماتها وحدوها. كما نهل نظريَّة الصور المختلفة للدول، ودور نقده لنظام الحكم المختلط، داخل مؤلف الأكاديميَّة الفرنسيَّة (1577). أما المفعول المباشر لبودان، فقد مارسه كل من المنهج والجمهوريَّة، باعتبارهما يحتويان على نظريات موسوعيَّة، تدور في فلك الحكمة السياسيَّة الموسوعيَّة، دون تسييج هذين المصنفين في خندق النظريات المنافحة عن الملكيَّة المطلقة المطبقة في انجلترا. وتتمثل وطأة بودان على الثقافة الانجليزيَّة في القضيَّة الدينيَّة، بحيث تم استمداد عناصر ذلك من مؤلف الندوة Colloquium، الذي عرف طريقه إلى انجلترا تحت صورة مخطوط.[6] كما أدرج سالمون مجموعة من المراجع، توثق لاستقبال بودان في الفكر السياسي الإنجليزي.
أما باوكوت Bawcutt، فقد ذهب إلى القول بأن الجمهوريَّة تمثل مصدرا أساسيا في عمل توماس ناش Thomas Nashe.[7]
وفي محل مخالف، درست أطروحة كراوتهايم Krautheim مظاهر استقبال بودان في السياق التاريخي لانجلترا إبان القرن السابع عشر. وسجلت الأطروحة، السيرورة البطيئة التي وسمت شيوع نظريَّة السيادة عند بودان ومآلاتها، حتى كتب إليها الاستقرار فيما بعد، لكي تصبح تصورا نظريا قائم الذات في الفكر السياسي الانجليزي. كما تعرضت الأطروحة، للمزايا السياسيَّة التي مثلتها نظريَّة السيادة عند بودان، وكذلك إلى مصادر الصراع الدستوري في انجلترا. وبسطت الأطروحة أيضا، النقاش الدائر حول بودان تحت حكم جاك الأول Jacques Iᵉ؛ بالإضافة إلى تناول أبعاد استقباله، بعد انهيار الدستور القديم. ومن هذا الجانب، تفحصت نظريَّة السيادة باعتبارها بديلا للدستور القديم عند روبير فيلمر Robert Filmer، وتوماس هوبز Thomas Hobbes، وجورج لاوسون George Lawson، وريشارد باكستر Richard Baxter، وماتيو هال Mathew Hale.[8]
ومن زاوية مختلفة، استبعد ريال Reale أطروحة استلهام هوبز لأحداث الحرب الأهليَّة في انجلترا، من أجل صياغة تصوره عن السيادة. بينما دافع عن لجوئه إلى مقولة السيادة غير المنقسمة كإطار نظري، لتحليل أسباب الحرب الأهليَّة، بل إنه استعان بالنقد الذي أجراه بودان على الدولة أو نظام الحكم المختلط، ودمجه في بنائه النظري. كما بين وجه معارضة هوبز لبودان، فيما يخص مؤسسة العائلة.[9]
وفي نطاق متباين، أوضح باسكو Pascoe في أطروحته المخصصة لدراسة الخلفيات السياسيَّة والتاريخيَّة التي متح منها جورج شامبان George Champan، بأن بودان كان أحد الروافد التي أمدته بالعناصر المهمة في بلورة مآسيه الفرنسيَّة tragédies françaises.[10]
بينما ركزت دراسة أفاك Avack بالأساس على الإتيان بالوثائق المتعلقة بمفهوم السيادة والبرهنة عليها، مثلما هو مثبت في مصنف الجمهوريَّة. كما تطرقت إلى قنوات انتشار الجمهوريَّة، وبصورة أخص مجمل النصوص الفرنسيَّة المعاصرة المترجمة. ولم تتوانَ عن ذكر حجم توظيفه، سواء بالنقد أو الاستعادة، إذ خيم طيفه على مسرح النقاشات الدائرة بين البرلمان والملك، في العشريَّة الأخيرة من حكم إليزابيث Elizabeth خلال القرن السابع عشر.[11]
أطل علينا سالمون مجددا بدراسة مخصصة لاستقبال التصورات السياسيَّة لبودان في انجلترا وألمانيا، وأنار بذلك خاصيتين ميزتا السيادة: عدم الانقسام والسلطة التشريعيَّة. تتبع سالمون سعي الكتاب الألمان إلى عقد نوع من المصالحة بين مفهوم السيادة عند بودان والواقع السياسي الذي تعيش تحت ظلاله الدول الألمانيَّة. ومن جملة الكتاب، هناك كيكرمان Keckermann، وأرنيسايوس Arnisaeus، وألتوسيوس Althusius، وبيسولد Besold، وليمنايوس Limnaeus، وغروسيوس Grotius، وبيوفندورف Pufendorf. وعالج من جهة أخرى، تطبيقات بودان في انجلترا، لحظة الحرب الأهليَّة.[12]
[1] Brown, J. L., «Bodin et Ben Jonson», Revue de littérature comparée, XX, 1940, p. 66-81.In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, bibliographies des écrivains français, édition Memini, 2001, p. 304.
[2] Dean, L. F., «Bodin’s Methodus in England before 1625» [La Methodus de Bodin en Angleterre avant 1625], Studies in Philology, XXXIX, 1942, p. 160-166.In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 305.
[3] Mosse, G. L., «The influence of Jean Bodin’s République on English Political Thought», Medievalia et Humanistica, V, juillet 1948, p. 73-83.In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 305.
[4] Mosse, G. L., in The Struggle for Sovereignty in England From the Reign of Queen Elizabeth to the Petition of Right, East Lnsing, Michigan State College Press, 1950, in Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 305.
[5] Shackleton, R. M., «Botero, Bodin and Robert Johnson», Modern Language Review, XLIII, p. 405-409. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 305.
[6] Salmon, J.H.M., «French Scholarship and Culture», in The French Religious Wars in English Political Thought, Oxford, Clarendon Press, 1959, p. 21-24. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 305.
[7] Bawcutt, N. W., «Nashe and Bodin», Notes and Queries for Readers and writers, Collectors and Librarians, CCXII, mars 1967, p. 91.In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 306.
[8]Krautheim, U., Die Souveränitätskonzeption in den englischen Verfassungskonflikten des 17.Jahrhunderts.Eine Studie zur Rezeption der Lehre Bodins in England von der Regierungszeit Elisabeths I.bis zur Restauration der Stuartherrschaft unter Karl II. [La conception de la souveraineté dans les conflits constitutionnels anglais du XVIIᵉ siècle. Étude sur réception de la doctrine bodinienne en Angleterre, du règne d’Élisabeth I à la restauration des Stuart sous Charles II], Frankfurt am Main – Bern – Las Vegas, Peter Lang, 1977, IV-597 p. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 306-307.
[9]Reale, M., «Assolutismo, eguaglianza naturale e diseguaglianza civile. Note su Bodin e Hobbes» [Absolutisme, égalité naturelle et inégalité civile. Notes sur Bodin et Hobbes], in La République di Jean Bodin, actes du colloque de Pérouse, 14-15 novembre 1980, Firenze, Olschki, 1981, p. 145-153.In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 307.
[10] Pascoe, P. H., in The Political Ideas and the Historical Background in the French Tragedies of George Champan, University of Denver, 1982. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 307.
[11] D’Avack, L., «L’influenza di Bodin sull’evoluzione de concetto di soveranità nell’Inghliterra dei primi del ʼ600» [L’influence de Bodin sur l’évolution du concept de souveraineté dans l’Angleterre du début du XVIIᵉ siècle], Storia e politica, XXII, 1, 1983, p. 1-71. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 307.
[12] Salmon, J. H. M., «L’héritage de Bodin: la réception de ses idées politiques en Angleterre et en Allemagne au XVIIᵉ siècle», in Jean Bodin. Nature, histoire, droit et politique, éd. Par Yves Charles Zarka, PUF, 1996, p. 175-200. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 308.