أدبالتنويري

رواية تستقصي الحوادث التاريخيَّة وتفسِّرها؛ رصاصة الدلبشاني

صدر عن دار الشروق رواية (رصاصة الدلبشاني) للدكتور إيمان يحيي الروائي الذي تحول إلى التحقيق والتحليل التاريخي عبر النص الروائي ليأخذنا إلى ما وراء الأحداث، فهو هنا لا يلتزم بمقتضيات البحث التاريخي بل باستقصاء الأحداث ومعرفة خلفياتها وأسبابها المباشرة والخفيَّة، هذا ما أعطى رواية رصاصة الدلبشاني نكهة مثيرة تجمع ما بين الوضوح والغموض، وإن كان الروائي يقدم عبر عدد من المسارات في كل مسار مفاتيح جديدة لفهم الأحداث.

 الرواية تبدأ بعبد اللطيف الدلبشاني الطالب المصري الذي كان يدرس في ألمانيا وعاد منها محملا بالعدوى من أفكار الطلبة المصريين في ألمانيا التي كانت تعج بأنصار الحزب الوطني والمناصرين للخديوي عباس حلمي الثاني المناهضين للملك فؤاد. كانت مصر في إطار أحداث الرواية يرأس وزراءها سعد زغلول الذي فاز في انتخابات حرة بعد ثورة 1919 وكان يخوض مفاوضات شرسة ضد الإنجليز، هنا كان عبد اللطيف الدلبشاني حانقا على سعد زغلول حيث رأى أنصار الحزب الوطني أنه باع الثورة وشهدائها من أجل المنصب، قاد ذلك الدلبشاني إلى السعدني في قهوة متاتيا في العتبة الخضراء وهو يظن أنه من أنصار الحزب الوطني لينقل له حنقه على سعد زغلول ويحفزه السعدني على اغتيال سعد زغلول ليقابله لاحقا ويمدّه بالسلاح، ظل الدلبشاني يترقَّب سعد زغول إلى أن استقر رأيه على اغتياله عند سفره من محطة قطار القاهرة لتهنئة الملك فؤاد في سراي رأس التين بعيد الأضحى، وفي محطة القطار يطلق النار على سعد زغلول، لتفشل محاولة اغتيال زعيم الأمة.

هنا تنطلق الرواية فالحادث في حد ذاته ليس هو كما نراه بل تقودنا الأحداث إلى انغرام ذلك الانجليزي الذي يعمل نائبا لحكمدار بوليس القاهرة والذي يقود البوليس في العاصمة في ظل غياب رئيسة لسفره، لإعلامه عبر مقابلات مع جورج من السفارة البريطانيَّة، أنه ستحدث محاولة لاغتيال سعد باشا زغلول عن طريق تدبير من القصر الملكي في مصر، فكأن السفرة بتجسسها ومتابعتها القصر صارت تعرف بالمؤامرة، ويطلب جورج من انغرام إخفاء سلاح الحادث لإحداث بلبلة في أوساط المصريين، هذا ما يقودنا إلى اختفاء السلاح على يد انغرام الذي سرعان ما أخفاه عند وقوع الحادث في ملابسه ثم في منزله لتطلبه السفارة البريطانيَّة وتأخذه ليختفي السلاح للأبد، بالرغم من شهود في تحقيقات النيابة بأن انغرام هو من أخذ السلاح.

تقدم الرواية نتيجة أن الصراع بين الملك فؤاد والخديوي عباس حلمي الثاني الذي عزله الاحتلال الانجليزي عند قيام الحرب العالميَّة الأولى، وجاؤوا بالسلطان حسين كامل ثم الملك فؤاد جعل العداء مستحكما، خاصة أن الرواية تذكر أن عباس حاول استعادة حكم مصر عن طريق ليبيا وحاول التحريض ضد الملك فؤاد، كان أنصار الخديوي هم الطلبة المصريون في ألمانيا خاصة المنتمين إلى الحزب الوطني، لذا كان التركيز عليهم من قبل البوليس والإنجليز والملك واضحا، لكن ما تكشفه الرواية أنَّ كل الفرقاء التقوا ضد نشر الشيوعيَّة عبر هؤلاء الطلبة، ومن ثم نشر الحركات الشيوعيَّة سواء عبر النقابات أو الأحزاب أو الجمعيات، ثم تفصِّل الرواية تاريخ الحركات اليساريَّة نشاطها في المنصورة وهنا تجسد تفاصيل غير مسجَّلة تاريخيا عبر عبد الحميد الطوبجي الطالب الميسَّر ماليًّا والذي يرتبط بهذه الحركات دون أن يكمل دراسته في ألمانيا، والذي زاره عبد اللطيف الدلبشاني قبيل محاولة قتله سعد زغلول، سيطر القلق على عبد الحميد الطوبجي ورفقائه في المنصورة، هذا القلق الذي نرى من خلاله وصفا لشوارع ومقاهي وبيوت المنصورة.

 ومن الطريف أن الروائي ولد وعاش في المنصورة، فكأنه يقدم لنا هنا وصفا للمدينة ونراه يقودنا منها للاسكندريَّة والتي حضرت في الرواية عبر الحركات اليساريَّة وقضيَّة التنظيم الشيوعي، والتي ظهر فيها انغرام بك طرفا بها حين كان يعمل في بوليس الاسكندريَّة قبل نقله للقاهرة، تتقدم الرواية بعد ذلك عبر عدد من الشخصيات فهو يحللها ويربطها بالأحداث.

 إن الملفت في الرواية أنها ليست نصًّا أدبيًّا جافًّا بل سلسلة في أحداثها تأخذك بسرعة من حدث لحدث ومن قضيَّة لقضيَّة فها هي قضيَّة الدلبشاني أثناء تحقيقات النيابة التي تذكرها الرواية تقود إلى عدة قضايا لأعضاء الحزب الوطني وللطلبة المصريين الذين درسوا في ألمانيا، فاتهم أحمد وفيق رئيس تحرير صحيفة اللواء وعصام حفني ناصف وغيرهم  في قضايا سياسيَّة، كان الدلبشاني في سجنه يحاول جاهدا أن يتابع الاحداث ليهديه تفكيرة بأن يوهم النيابة أنه مجنون، فتحوّله النيابة لمستشفى العباسيَّة للأمراض النفسيَّة، وبعد سنوات يخرج ويفوز في مسابقة شطرنج وهو ما يثير حفيظة سعد باشا زغلول الذي ترك الوزراة بعد محالة اغتيال السردار ستاك الضابط الإنجليزي، لتقدم لنا الرواية شخصيَّة حسن نشأت باشا الذي كان قائما بأعمال ديوان الملك فؤاد وهو شخصيَّة لعبت دورا في حبك مؤمرات القصر الملكي ضد خصومه وهو الذي دفع السلاح للسعدني ليعطيه للدلبشاني لاغتيال سعد زغلول، فكأن القصر كان يخشى شخصيَّة وجماهيريَّة سعد زغلول، ولتلتقي مصالحة مع مصالح الإنجليز في اغتياله أو إثارة الاضطرابات في مصر للتخلص من مطالبات المصريين بالاستقلال.

 الرواية اذن ليست رواية فقط بل ستتحول لمرجع تاريخي قدم آراء جديدة لم تقدم من ذي قبل في حدث تاريخي كاشفة عن أسراره، هكذا ايمان يحيي لا يكف عن البحث في التقاط الكثير من المصادر التاريخيَّة والأرشيفات والصحف بل والتحليل النقدي.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة