صدر عن مجموعة بيت الحكمة للثقافة في القاهرة كتاب جديد للكاتب الصحفي والشاعر والروائي علي عطا بعنوان “وجوه وكتب وقضايا في زحام عوالم افتراضيَّة”.
يتألف الكتاب من خمسة أقسام، كالتالي: أدب الرحلة بين واقع ومجاز: ويضم العناوين الآتية: “أسطورة تبحث عن مؤلِّف/رحلات جرجس شكري كعرض مسرحي/محاولة لسبر أغوار القمر/جحا عابر الحدود والثقافات بذكائه الفطري/زيارة سامية محرز لجدها الشاعر إبراهيم ناجي/تأمُّلات وقصائد تكتسي برعب تفشِّي كورونا/على خطى هيمنجواي في كوبا”.
القسم الثاني عنوانه “تجليات الشعر بين قديم وجديد”، وبين ثناياه: “قصيدة النثر وشاعرها القابض على الجمر/ثنائيَّة المحافظة والتجديد في شعر أحمد شوقي/حجازي شاعر اليوتوبيا المفقودة/أحمد الشهاوي سلطان في دولة الحب الصوفي/ صورة مغايرة للفلسطيني في مخيلة شاعر إسرائيلي”.
والقسم الثالث عنوانه “نقد النقد” وفيه: “ميرال الطحاوي تتأمل المنجز الروائي “الصحراوي”/شاكر عبد الحميد يعارض “تاريخ الجنون” لميشيل فوكو/جدليَّة التراث والمعاصرة عند جابر عصفور/”الشرّ” في عالم نجيب محفوظ الروائي/سمير غريب يؤصل للجمال المضادّ”.
القسم الرابع “قضايا ثقافيَّة وفنيَّة وسياسيَّة ويشمل ما يلي: “سجال بدايات المسرح المصري/عن حال الترجمة من لغة الضاد/حول الرعب الناجم عن تدفُّق اللاجئين إلى أوروبا/”المحجوبات.. عن الثقافة والقيم الأمريكيَّة/كيف تحوَّلت “الإنترنت” إلى ساحة حرب؟/علم الاجتماع ومعضلة الجنس عبر الإنترنت/هل يتحوَّل البشر إلى آلات؟/لماذا يكره بائعو الكتب “أمازون”؟/لماذا لا يزال الأدب الصيني غير رائج عربياً؟/طقوس الكتابة الإبداعيَّة في زمن الكومبيوتر/اقتباس السينما المصريَّة من الأدبين الغربي والعربي/أدوار “الشوام” في بواكير النهضة المصريَّة/”ألف ليلة وليلة” حكايات ما زالت تفتن العالم”.
والقسم الأخير “وجوه مِن هنا وهناك”، ويتضمَّن ما يلي: “محمد سلماوي بين ريْحَان وعَصْف/مصطفى الفقي في “الرواية رحلة الزمان والمكان”/وجيه غالي علامة فارقة في الكتابة الأنجلو عربيَّة/عمرو موسى وسنوات الجامعة العربيَّة/ألبير قصيري كان يفكِّر بالعربيَّة ويكتب بالفرنسيَّة/أحمد مرسي المشهور عالميًّا والمهمَّش محليًّا/إدوارد سعيد في سيرة ثقافيَّة بقلم تلميذه/شيكسبير وشخصيَّاته التي تستعصي على النسيان”.
في محبَّة الكتب
ويسبق تلك الأقسام مدخل جاء فيه أنَّ المقالات التي يجمعها هذا الكتاب، تعبِّر في مجملها عن محبَّة للكتاب في شكله التقليدي الذي بات مهدّدًا من جانب الصيغة الإلكترونيَّة المستجدَّة، والتي أرى أنها مهما انتشرت فإنها لن تقضي على الشكل الذي صار مألوفا منذ قرون عديدة في مختلف أنحاء العالم العامر بثقافات شتى يجمعها بالتأكيد الكثير من القيم الإنسانيَّة التي تؤكد الأخوة البشريَّة بصرف النظر عن اختلاف الديانات والأعراق والألوان.
تلك المحبَّة تشمل بالطبع مؤلِّفي الكتب ومترجميها وناشريها وقراءها. وفيما يخصّ الترجمة بالذات إلى العربيَّة التي هي لغة هذا الكتاب، ولغة غالبيَّة الكتب التي يقدّم مراجعات لها، فإنها فرض عين، بما أنها “قاطرة التقدّم” بتعبير المفكر والناقد الراحل جابر عصفور، ومن ثم فإنّ الاحتفاء باتساع رقعتها هنا في مصر وفي عدد من الدول العربيَّة – خصوصا من جانب دور نشر خاصَّة – لهو واجب ينبغي القيام به، ليس من جانبي أنا وغيري من المحرّرين الثقافيين فحسب، بل أيضا وهذا هو الأهم، من حكوماتنا العربيَّة، طالما أن على رأس أهدافها النهوض بأوطانها، وتعزيز الصلات الثقافيَّة مع غيرها من الأوطان، شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، مع مراعاة أولويَّة الاهتمام بثقافات محيطنا الأفريقي غير العربي، الذي ينتج إبداعًا وفكرا بلغات عدَّة.
وتؤكِّد الكتب والوجوه والقضايا المرتبطة بها أهميَّة الكلمة وأثرها وقيمتها فيما تنقله من خبرات ومعارف عن أماكن وثقافات، كما في كتابيْ “البحث عن شاروخان”، و”كل المدن أحلام”. والأخير وهو للشاعر جرجس شكري، يذكر بأعمال روائيَّة عدة، عكست علاقة الشرق بالغرب، منها “الحي اللاتيني” لسهيل إدريس”، و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، و”عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم. ولا يخلو كتاب “كل المدن أحلام” من النزوع الشعري والمسرحي تأثراً بخلفيَّة صاحبه كشاعر وناقد مسرحي، المنعكسة بخصوص ما رآه وعاشه في مدن عدة في فرنسا وسويسرا وألمانيا وهولندا وغيرها.
معارف شتى
وهناك كذلك معارف حول الأساطير، كما في كتاب “القمر في التاريخ والأساطير وأثره على النساء”، للكاتب بريند برونر، بترجمة هبة شريف، وفي موسوعة “الليالي العربيَّة” التي حرَّرها أولريش مارزوف، وريتشارد فان ليفن، وترجمها وقدّم لها السيد إمام. بالإضافة إلى معارف عن تاريخ الفنون، كما في كتابيْ “الاقتباس: من الأدب إلى السينما” لسلمى مبارك ووليد الخشاب، و”الأسراب الشاميَّة” لفارس يواكيم، ومعارف نفسيَّة واجتماعيَّة كما في كتابيْ “الدخان واللهب” للراحل الدكتور شاكر عبد الحميد، و”ضد الابتزاز المزدوج: اللاجئون والإرهاب ومشاكل أخرى” للمفكر سلافوي جيجك. فضلا عن معارف وخبرات نقديَّة كما في كتب “المحافظة والتجديد في شعر شوقي” للدكتور محمد السيد إسماعيل، و”الأنثى المقدسة: أساطير المرأة في الصحراء” للدكتورة ميرال الطحاوي، و”أزمة النقد وانفتاح النص: نجيب محفوظ والفنون السبعة” للدكتور محمود الضبع، و”بلاغة التشكيل في قصيدة النثر: قراءات جماليَّة في نماذج مختارة” للدكتورة هويدا صالح، و”ضد الجمال” لسمير غريب، و”الشر والوجود: فلسفة نجيب محفوظ الروائيَّة” لفيصل دراج.
وهناك كذلك معارف تكنولوجيَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة، كما في كتابيْ “شبه حرب: تسليح وسائل التواصل الاجتماعي” للباحثين الأمريكيين بي دبليو سينجر وإيمرسون تي بروكينج، بترجمة هدى يحيى، و”هل يتحول البشر إلى آلات؟” لعالم الاجتماع الفرنسي أنطونيو كازيللي، بترجمة مها قابيل. ومعارف حول شخصيات أثرت الحياة الأدبيَّة سواء على المستوى المحلي أو على نطاق أوسع عربيا وعالميا نجدها في كتب تناولت إبراهيم ناجي، ووجيه غالي، وجابر عصفور، وإدوارد سعيد، وألبير قصيري، والشاعر الفنان أحمد مرسي.
والأخير بالذات لن نجد صعوبة في ملاحظة تقديره عالمياً، فيما هو غير مقدَّر على نحو لائق به مبدعا وناقدا في بلده مصر. وعلى سبيل المثال نجد أن الدكتورة ساميَّة محرز في كتابها عن جدها الشاعر إبراهيم ناجي الذي قدمته في صورة زيارة حميمة لشاعر “الأطلال” وعوالمه المتشعبة، كانت حريصة على تصحيح كثير من المعلومات المتداولة، ومنها ما ذهب إليه بعض كتَّاب سيرة الشاعر الطبيب من أنه كتب الشعر متأثراً بعلاقة عاطفيَّة ربطته بجارة له، فضّلت عليه شخصاً آخر وتزوجته. لا تنكر ساميَّة محرز أن تلك الجارة كانت ملهمة ناجي الأولى. لكنها تنكر أنه كان يرغب في الزواج منها، مستندة إلى قراءة معمّقة في مذكراته، أو تدويناته، غير المنشورة التي كتبها بالإنجليزيَّة والعربيَّة والفرنسيَّة، في الفترة من 1944 إلى 1949، وبحث “ميداني” في محيط تلك الجارة التي توفيت بعد ناجي بنحو ربع قرن.
قيمة الاختلاف
أما كتاب “ألبير قصيري والسخرية” بترجمة راوية صادق، فيخبرنا فيه مؤلفه بالفرنسيَّة محمد شاهين بأن قصيري لم يكن مزدوج اللغة، بل كان مزدوج اللسان، فهو كان يجعل الفرنسيَّة تعمل بواسطة العربيَّة بدون أن يكون في وضع المنفي في فرنسا أو الخاضع للغة الفرنسيَّة. ويضيف: “هو يكاد لا يستطيع قراءة العربيَّة، إذ إن لغته الأم المكتوبة أصبحت أجنبيَّة، بالنسبة إليه، خصوصاً بعد خروجه من مصر، وهو على أيَّة حال كان متمكناً تماماً من اللغة الفرنسيَّة، وبدأ شغفه بالأدب الفرنسي عندما كان في العاشرة من عمره، ومع ذلك نجد أن نصوصه حبلى بتعبيرات عربيَّة، وتتخللها صور بودليريَّة؛ نسبة إلى شارل بودلير، ولكن بنكهة مصريَّة”.
موضوعات الكتاب تضمنت كذلك قضايا مهمة، ترسخ بصفة خاصة مبدأ الاختلاف وضرورته في إنتاج رؤى أكثر اتساعا حول تلك القضايا. ومن ذلك مثلا ما لاحظته الدكتورة هويدا صالح من أن قصيدة النثر العربيَّة بعد صراع وجود استمر لنصف قرن ما يزال النقاد يقفون عند مسماها، والتضاد في بنيته الاصطلاحيَّة، بينما ينبغي عليهم أن يبحثوا في الملامح الجماليَّة التي يتمثلها شعراء تلك القصيدة ويحفروا في وعيهم المعرفي وخطابهم الثقافي ومدى تمثلهم لقضايا الذات والقضايا الإنسانيَّة.
ولم تغفل المؤلفة الإشارة في هذا الصدد إلى أن الجهد الأبرز في هذا المجال هو جهد شعراء القصيدة أنفسهم، سواء ما قام به الرواد مثل أنسي الحاج ويوسف الخال ومحمد الماغوط، أو ما قام به جيل الوسط مثل عبده وازن ونوري الجراح، أو ما قام به جيل التسعينيات في مصر مثل كريم عبد السلام. وهي بالطبع استخلاصات تفتح المجال للجدل بشأنها، اتفاقا معها أو اختلافا. وقريبا من هذا السياق ولكن فيما يخص جهد أحد رواد شعر التفعيلة وهو الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يمكن ملاحظة أن الدكتور رضا عطيَّة في كتابه عنه – والذي يتضمن كتابنا هذا قراءة له مع العلم أنه من إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة – لم يتطرق إلى تناقض موقف حجازي الرافض لقصيدة النثر، واعتبارها “شعرًا ناقصًا”، مخالفا بذلك “روح العصر” التي سبق له أن واكبها بخروجه على نسق مألوف إلى نسق مستحدث كان هو أحد أبرز رواده في العالم العربي. بل ويذهب عطيَّة إلى إبداء تفهم تام لهذا الموقف، على الرغم من أن عطيَّة نفسه يعد أحد أبرز النقاد الذين احتفوا في دراسات عدة ببعض رموز قصيدة النثر العربيَّة، مثل سركون بولص ووديع سعادة. وكان يتوقع من هذا المنطلق أن ينقد عطيَّة موقف حجازي ويفنده وفق قناعاته النقديَّة القائمة على أسس أكاديميَّة معتبرة.
وجوه من هنا وهناك
ونستطيع كذلك أن نلاحظ وجه الناقد الأكاديمي الراحل الدكتور شاكر عبد الحميد وألمه الذاتي في أحد كتبه الأخيرة وهو كتاب “الدخان واللهب: الإبداع والاضطراب النفسي”، حيث يقول: “لا أعرف ما الذي دفعني تحديدا لكتابة هذا الكتاب. هل كآبة ما قد اعتملت في أعماقي بسبب بعض الظروف العامة أو الخاصة فدفعتني إلى محاولة فهم بعض تلك الأسرار الغامضة التي قضيت حياتي محاولاً أن أفهمها دون جدوى؟ أم رغبة فقط في أن أكون موجوداً على الحافة، أو أن أبتعد عنها، أن أكتفي بالنظر دون أن يُنظر إليَّ؟ ربما كنت أحاول أيضاً أن أنظر إلى تلك الأعماق المخيفة التي تواجهنا جميعاً، على أنحاء شتى، وبدرجات مختلفة، في هذه الدنيا، كما واجهها آخرون في أماكن أخرى وعصور أخرى، وتراوحوا بين تلك القمم وهذه السفوح”.
ومن القضايا التي اشتمل عليها متن الكتاب، قضيَّة ترجمة الأدب العربي، المتعثرة حتى في ظل وجود المركز القومي للترجمة الذي يقول مديره السابق الدكتور أنور مغيث إنه يلعب في هذا الصدد دوراً مهماً، يتمثل في ترشيح أعمال لتترجمها دور نشر أوروبيَّة من العربيَّة إلى لغات عدة. ومع ذلك لا إجابة واضحة عن حصاد هذا الدور. ويقول مغيث في هذا الصدد: “نحتاج إلى اختراق فكرة المترجم الاستشراقي الذي يأتي دون دعم منا، خاصة أن ما يتم تقديمه عبرالترجمات الاستشراقيَّة، صورة سلبيَّة عن العرب، باختيارات لأعمال تكرس الصورة النمطيَّة الشائعة عنا كعرب. هدفنا هو تحطيم وكسر تلك الصورة وتغييرها عبر الأدب والإبداع والفكر. يمكننا تكريس لصورة ايجابيَّة عبر دعم ترجمة الإبداع من العربيَّة إلى لغات أخرى”.
وفي سياق قضيَّة أخرى، يعتقد الكاتب والإعلامي المغربي ياسين عدنان أن الكومبيوتر “منح أدباء هذا الزمن تآلفاً عجيباً مع الكتابة وجعلهم أكثر اجتراءً عليها، خصوصاً الكومبيوتر المحمول الذي يرافق المرء في الحلّ والتّرحال. يقول: لك أن تكتب أنَّى شئت على أن تراجع ما رقنْتَهُ، بالتصحيح والتعديل والتّنقيح، بسلاسةٍ دون أن تضطرَّ إلى التحرير الورقي الذي كان مُرهِقاً ومُملًّاً”.
وجدير بالذكر أن علي عطا أصدر من قبل ثلاثة دواوين شعريَّة: “على سبيل التمويه” 2001، “ظهرها إلى الحائط” 2007، “تمارين لاصطياد فريسة 2013، وله روايتان صدرتا عن الدار المصريَّة اللبنانيَّة الأولى بعنوان “حافة الكوثر” 2017، والثانية “زيارة أخيرة لأم كلثوم” 2020.