تعد السلطة، أحد أهم أسباب الصراع الإنساني -إن لم تكن الأهم- فالصراع في ظاهره قد يتبنى منظورات دينية أو أخلاقية أو ثقافية… إلخ، إلا أن باطنه لا يبتعد عن مسألة البحث عن السلطة، والقدرة في فرضها على الآخرين، إنها تمنح البشر غايته في التسيد والتجبر على من هم أدنى منه – كما يعتقد، فضلًا عن منحه الشعور بالتفوق، فأن يكون مسموعًا، ومطاعًا، ومهابًا، غايات لا يصل إليها في الغالب إلا عبر السلطة، فلا يوجد بعدها تقريبًا ما يمكن أن يتحكم في صاحبها، فمن أهم ما نخشاه أن يوجد من يتحكم بنا، حتى امتلاك المال لا يعطي لنا هذا الشعور، لهذا تجد الكثير من الأغنياء يبحثون عن طريق يوصلهم إلى السلطة والنفوذ، فمن جهة يعزز مكانتهم، ومن جهة أخرى يحمي أموالهم ويعززها.
وقبل أن تكون قوانين وقرارات هي: شعور يتملك بعض الأشخاص، يعتقدون عبره، أن لديهم مكانة متميزة تؤهلهم لحكم الآخرين، أو تسيدهم، ومصادره متعددة، فقد يكون شعور بالتفوق العرقي، أو الديني، أو النسب، أو التفوق العلمي… إلخ، وهو ما يدفعهم إلى إيجاد المبررات الشرعية لهذا الشعور، وقد تكون دينية أو لا دينية.
وهي تضم أكثر من فرع وجزء، فهنالك السلطة الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والعسكرية، إلا أن أعلاها وأكثرها قدرة وهيمنة هي السلطة السياسية، لماذا؟ ذلك لأن بيدها أهم قدرتين وهما: قدرة سن القوانين وفرضها، والقدرة العنفية واحتكارها بالتعبير الفيبري(*)، فضلًا عن قدرتها على بناء شرعيتها، وأي طرف يحاول انتهاكها سيواجه بقوة، تحت حجة مخالفة الدولة والنظام، زيادةً على منحها الشعور بالفخر.
ولهذا فإن هذا الشعور بالهيمنة والفخر، أدى على طول الخط التاريخي، إلى حدوث العديد من الصراعات، والحروب، والمعارك، من أجل الوصول إلى السلطة ومحاولة حيازتها، فنجد قيام ممالك وانتهاء أخرى بعد هزيمتها من المملكة الصاعدة، وقيام امبراطوريات على حساب أخرى قد أفل نجمها، وحدوث حروب دموية وعالمية مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، والعديد من الحروب الأهلية بين أبناء الشعب الواحد، مثل تلك التي حدثت في دول قارات أفريقيا، وآسيا، وأمريكا الجنوبية، وبعض الدول العربية.
والغريب في هذه الصراعات، أن ثنائية الظالم والمظلوم، المضطهِد والمضطهَد، تشهد تبدلًا في المواقع، فمن نجده مظلومًا أو مضطهَدهًا، ما أن يصل لموقع السلطة، يمارس الأفعال ذاتها، التي كان يعيبها بمن سبقه في السلطة الذين كان يراهم بوصفهم جبابرة، ومن ثم يبدأ ببناء سرديته الخاصة، القائمة على فهمه الخاص للحق، ومن هو الطرف الباطل الذي ينبغي تصفيته والوقوف ضده، الذي غالبًا ما يكون ذلك الذي كان يهيمن على السلطة قبله والجهات التي كانت مرتبطة معه.
هذا وناضلت الشعوب الأوروبية ونخبها، منذ عصر الماغنا كارتا(**) في القرن الثالث عشر، النضال ضد فكرة السلطة بوصفها غنيمة، وإرث ترثه عوائل محددة، وفئات أرستقراطية تستأثر بكل شيء، أي هنالك مواطنون من الدرجة الأولى أو هم بمنزلة أوصياء الله على الأرض، وبين مواطنين من الدرجة الثانية وربما أقل يشكلون العامة من الناس، الذين ليس لهم من حق سوى الطاعة المطلقة، وتقريبًا الحال ذاته في بقية أجزاء العالم حينذاك؛ إلا أن الفرق يتمثل في كون أوروبا بدأت تنتفض ضد هذا الواقع، ومحاولتها الانتفاض ضد السلطة بوصفها غنيمة، فضلًا عن إنزالها من عرشها الإلهي إلى مرتبتها البشرية. وهذا الأمر احتاج قرون من الصراع، والتضحيات، والتنوير الفكري والفلسفي، لكي تصل دول القارة الأوروبية إلى ما هي عليه اليوم. وحلت إشكالية السلطة بوصفها غنيمة، بالاعتماد على المسار الديمقراطي، وهو عبارة عن اتفاق بين النخب ذاتها من جهة، فهي معنية بالدرجة الأولى في مسألة الصراع على السلطة والفوز بمكاسبها، وبالتالي تم الاتفاق على عدم السماح باحتكار فئة محددة من النخبة لها، وبالتالي فإن المسار الديمقراطي، هو الذي يضمن تداولها بين النخب المختلفة بطريقة سلمية، ومن ثم تمنع عملية الاحتراب من أجل السلطة، وهو ما يؤثر على عملية الاستقرار، وإزهاق الأرواح، واستمرار دورة الظلم والاضطهاد المرتبطة بفهم السلطة الذي أتحدث عنه في هذه المقالة.
أما من الجهة المقابلة فهي جهة الشعب، الذي صار فاعلًا في عملية اختيار النخبة التي تمثله في الحكم، وبات هنالك اتفاق بين الجانبين، فالشعب يريد الأمن، والاستقرار، والنظام، والعدالة، وعدم الاستئثار بالسلطة، والنخبة تريد المكانة، وحب الظهور، والشعور بالتفوق، وتحقيق الأمجاد التاريخية، بالتالي هي مصلحة متبادلة بين الجانبين، أدت إلى بناء السلم المجتمعي والدولتي.
في حين لا تزال الدول العربية، لم تحسم بعد موضوعة السلطة بوصفها غنيمة، إذ لم تزل الرؤية تجاهها بوصفها جائزة، تتقاتل عليها الجماعات المتنافسة فيما بينهما، فالفرد العربي، أو النخب العربية، تنظر إليها على أساس أنها غاية، يمكن عبرها نيل أعلى الامتيازات، ومن ثم فرض الرؤية على الآخر المختلف معها، فهي طريق للإقصاء، وليس لبناء الحكم الرشيد. وينظر إليها على أنها حق من حقوق فئات بعينها من دون أخرى، مثل عائلة معينة، أو طائفة دينية، أو قائد كارزماتي، أو مؤسسة الجيش… إلخ. بالتالي إن المتخيل الذي تقوم عليه في المجتمعات العربية هو: “إقصائي حربي” بشكله الغالب، ولا يُعرف المختلف بوصفه شريكًا في الوطن والمصير؛ بل هو دائمًا ما يكون محط ريبة وشك وعدم ثقة، ومن ثم فهو قد يكون مصدر لمرور الأعداء والخونة لضرب النظام والحكم.
وأهم الأسباب الرئيسة، التي أدت إلى ترسيخ هذه الفكرة عن السلطة في مجتمعاتنا، تعود إلى:
أولًا- نيل المكانة والخشية من الاضطهاد، فالسلطة هي من تحمينا في حال الامساك بها. تحمينا من الظلم، أو الطغيان، أو الاضطهاد، فالفكرة المترسخة هي أن من يمسك بزمامها، سيضع في حسابنه إقصاء وضرب كل من يراه خصمًا له أو تهديد لسلطته، أو قد تكون هنالك حسابات تاريخية، يعمل على تصفيتها بمجرد الوصول للسلطة، وهذا نجده بشكل واضح في دولنا العربية.
ثانيًا- لا تزال السلطة هي من تتحكم بالمال، ففهمها الأبوي هو السائد، إذ ترى المجتمعات العربية، أنها هي الوحيدة -السلطة- التي تقدر على رعاية أبنائها والحاكم هو أب للجميع، والأب في أعرافنا يمنح، ويمنع، ويعاقب، وكل ما يفعله فهو شرعي؛ على أساس أنه لا يمكن أن يضر بأبنائه، فهو يريد لهم الخير، ويمنع عنهم الضرر، ويؤدبهم بالقوة – إن تطلب الأمر-، ومن ثم تتكفل باحتياجاتهم كافة، والسلطة التي بيدها الثروة، لن تكون بحاجة بشكل كبير إلى شرعية المجتمع ورضاه، فهو لا ينتج الثروة، بالتالي زمام معيشته وبقائه بيدها.
ثالثًا- فشل المنظومة النخبوية العربية في إعادة فهم السلطة، وترسيخ الفهم الجديد لدى الشعوب العربية، أي ذلك الذي يرى أنها مسؤولية ووسيلة لخدمة وبناء الدول والشعوب، وليست غنيمة للحاكم وحاشيته. وهذا الفشل لا يقع على عاتقها فحسب؛ بل إن بطش السلطة، وتواطئ جزء كبير من الشعوب وبعض النخب معها، وقبولها ضمنيًا بهذا البطش بحق النخب وكل من يعارضها، أدى إلى أن يكون أحد أسباب فشلها، فكل نقاش بشأن شرعية السلطة والحاكم، هو بمنزلة المقدس الذي يمنع إثارة النقاش بشأنه، فالعدو على الأبواب، ولا مجال لأي نقاش في هذا الموضوع. والكارثة بحسب رؤية المفكر فتحي المسكيني: “هي الاستعمال الأمني للهُوية بوصفها تهمة طويلة الأمد لكل النشطاء، والأحرار، والأبرياء، والغافلين في حياتهم اليومية المفرغة أصلًا من القدرة على المصير. ومن يستطيع أن يدعي أنه في مأمن من هذا الاستعمال الأمني للهُوية الشخصية بوصفها وثيقة “وطنية”، على الانتماء كحكم نهائي ومؤبد على السكوت العمومي، أو الطاعة الأمنية للحكام الهُوويين؟”(١). وهي رؤية أتفق معها بشكل كبير؛ على أساس أن فهم الدول العربية للهُوية تتحكم فيه دوافع الولاء على أساس القرابة، أو العشيرة، أو المذهب، أو الجهوية، وليس بالاستناد على قيم المواطنة والقانون والاشتراك في المصير الجغرافي لأبناء الدولة الواحدة، بالتالي تتعامل الدول مع الآخر المختلف من منطلق الريبة والحذر، والحلول الأمنية هي التي تتقدم القائمة للتعامل معهم.
رابعًا- الفشل في تحديد من هي الدولة، ومن هي السلطة، ومن لها العلوية على الأخرى؟ والدولة في رأيي: ما هي إلا مجموعة من المؤسسات والبيروقراطيات، التي تدار من قبل مجموعة من القيادات العليا، والوسطى، والدنيا، وصولًا إلى الموظفين الصغار، وهي -كما يُفترض- لا تتأثر بتبدل من يدير دفة النظام السياسي أو السلطة، فهذه الأجزاء وسائل لإدارتها وحمايتها، ومن ثم فهي أي الأجزاء آنفة الذكر، تحمل رؤى معينة تُدير عبرها ماكينة الدولة، على أن لا تُذوب الدولة، وتهيمن عليها لحساب مصالحها الذاتية. في عالمنا العربي نجد أن السلطة تبتلع الدولة، والحاكم وحاشيته يتصرفون وكأنها ملكية خاصة بهم، يعطون، ويمنعون، ويعاقبون، بما يتفق مع مصالحهم الذاتية، مستغلين في ذلك الغطاء الشرعي الذي تمنحهم إياه الدولة، فالأخيرة تتراجع لصالح الحاكمين، بالتالي أية محاولة للتغيير السياسي، تعني موت الدولة، لأن الحاكم وضع كل السلطات، والقوة، والهيمنة في يده، وما مؤسسات الدولة إلا طيع إرادته وأفرغها من محتواها، والأمثلة كثيرة (صدام حسين، معمر القذافي، زين العابدين بن علي، علي عبد الله صالح)… إلخ. فالسلطة هي أبوية في نظر العربي، ولم تترسخ بعد فكرة أن الدولة تمثل مصالح الشعب لا فئة معينة، وأنها تستمر وإن تبدل الحاكم، أو النخبة الحاكمة.
ما تقدم، يحلينا إلى طرح السؤال المهم الآتي: كيف يمكن تغيير هذا المسار أو الفهم للدولة أو السلطة؟، من كونها غنيمة ومحتكرة لفئة بعينها، لتتحول إلى المسار الدستوري الطبيعي، الذي لا علوية فيه لحاكم أو نخبة على بقية أفراد الشعب، وهم موظفين يخدمون مصالح الدولة وشعبها. إن ذلك يتم بالاستناد على أساسات عدة، تنطلق من قاعدة الهرم نحو القمة، ومن القمة نحو القاعدة!، كيف ذلك؟، أي أن المسؤولية مشتركة، وتقع على عاتق الجميع، فالشعب والنخب ومنظمات المجتمع المدني التي تمثل مصالحه وتنادي بها، يمكن القول: أنها تمثل قاعدة الهرم باختلاف الدرجات، ودور هذه الأجزاء، يتمثل في الضغط على قمة الهرم أي السلطة والنخب الحاكمة، من أجل تحسين شروط عمل السلطة، والحد أو القضاء على ظاهرة عدها غنيمة، والعمل على الخطوات التي تؤدي لحدوث هذا التغيير في فهمها، ولعل أهم خطوة تنطلق من مؤسسات التعليم والتربية، وسحب يد الحاكم وحاشيته من التحكم بالثروات، وجعلها بيد مؤسسات مستقلة، لا تخضع لأهواء من يقبض على جمرتها، والعمل على التصالح مع الماضي، وهو ما تعمل عليه المؤسسات التعليمية بالدرجة الأولى.
أيضًا، إن النخب غير السلطوية، لديها مهمة غاية في الأهمية، تتمثل في تحضير الرأي العام، والجماعات كافة، لكي تغير وعيها بشأن السلطة، وخوض النضال لأجل هذا الهدف المهم؛ فلا فائدة من أي تغيير سياسي سواء أكان ذلك، بفعل ثوري أو إنقلابي، انتخابي، ما لم يتم العمل على تغيير الإدراك العام بما يتعلق بالسلطة، وهذا يتم العمل عليه من قبل الأطراف التي تمت الإشارة إليها آنفاً. إذ وبالنظر إلى التجارب العربية في التغيير السياسي، نجد أنه يشمل تغيير قمة النظام السياسي والفئات الحاكمة؛ إلا أن الفكرة عما تمثله السلطة لا تتغير، فالحكام والمتنفذون الجدد لا يختلفون عمن سبقهم، إلا بتبديل الثوب والخطاب، بيد أن الغاية واحدة وهي: الهيمنة على الامتيازات، والغنيمة التي تمنحها السلطة، فضلًا عن أمور أخرى أشرت إليها في السطور السابقة.
…….
*- الفيبري: نسبة إلى عالم الاجتماع الفرنسي ماكس فيبر، الذي عرف الدولة من منظار قدرتها على احتكار العنف، وهو تعريف مهم.
**- الماغنا كارتا: “تعني عبارة ماغنا كارتا “الميثاق العظيم” باللغة اللاتينية، وقد صاغها النبلاء البريطانيون في القرن الثالث عشر الميلادي بهدف تقليص صلاحيات الملك ونفوذه وقدرته على الانفراد بالحكم”. نقلًا عن: ما هي وثيقة ماغنا كارتا وكيف أسست لمبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية؟، موقع بي بي سي عربية، نشر في ١٥ حزيران 2022، استخرج في ٢٣ تشرين الأول ٢٠٢٣، على الموقع الالكتروني: https://www.bbc.com/arabic/world-61801202
- فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح أسئلة الهُوية في الفلسفة المعاصرة، دار الأمان، الرباط، ٢٠١٣، ص٢١٩.
_________
_______
*د.عبدالله ناهض: باحث وكاتب/ دكتوراه فلسفة في العلوم السياسية/ تخصص الاستراتيجية.